الرحلة معا

في الثمانين .. بالقرب من الستين

لا يمكن توديع هذا العام دون الوقوف قليلاً لتأمل مناسبتين مهمتين: أولاهما ثمانينية أرامكو السعودية، وتحت هذه العنوان العريض نستطيع سرد سيل من المنجزات الفريدة التي لم يشعر بها موظف أرامكو فقط، بل شملت الإنسان والزمان والمكان على امتداد جغرافية بلادنا الواسعة، إذ ارتبط وجود هذه الشركة بتوحيد مناطق البلاد ودمجها في كيان واحد، ففي عام 1932م توحدت البلاد فيما ولدت أرامكو في العام الذي يليه.

سيرة هذه الشركة الرائدة التي انطلقت قبل ثمانية عقود مدوَّنة في مجلدين ضخمين حملا عنوان: «قصة أرامكو السعودية». وهي قصة لا يمكن إيجازها هنا، بل ينبغي قراءتها بكل بصيرة ممكنة. وطالما تمنيت على إعلامنا واقتصاديينا وكتّابنا أن يقرأوا هذه السيرة، وأن يناقشوا ما تضمنته من تواريخ وأحداث موثقة، وأن ينشروها في أوساط القرَّاء والمهتمين، خاصة أننا جميعاً لا نوفِّر مناسبة دون أن نشكو فقراً واضحاً ومزمناً في ثقافتنا البترولية وفي فهمنا لقضايا الطاقة والاقتصاد، وقصوراً في حاجة الأجيال الجديدة إلى معرفة دقيقة وشفافة يبنون من خلالها مستقبلهم.

لكن أبلغ ما في المجلدين هو في التفاصيل المدهشة التي حدثت وراء كواليس منجزات الشركة منذ أن أعطى الملك عبدالعزيز، رحمه الله، كلمته الشهيرة لمعالي وزير ماليته، الشيخ عبدالله السليمان حين قال: «توكَّل على الله .. ووقّع» مؤذناً بذلك بتوقيع الاتفاقية التاريخية بين ممثل الحكومة السعودية والسيد لويد هاملتون، المفاوض عن شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا، في 29 مايو 1933م. وإذا كانت تلك الرسالة قد جسدت الأمل لدولة وليدة تبحث عن خلاص اقتصادي بعد حروب التوحيد الشاقة وفي مواجهة الأطماع الاستعمارية، فقد تضمنت أيضاً شرطاً بدا غريباً في تلك الأيام وهو: أنه لا يجوز للشركة توظيف غير المواطنين السعوديين إلاَّ في حال عدم توافر الموظفين الأكفاء من السعوديين. كانت هذه خطوة أولى على طريق شاق يفيض بالمصاعب والتحديات الدولية والإقليمية والداخلية لكنه أفضى إلى ولادة دولة حديثة تغذّي الطاقة شرايينها، وتتخطى العتبات الأولى على طريق العلم والمعرفة، وتسهم في صنع صورة جديدة للعالم.

أحياناً، لا نتذكر سوى الصورة النهائية لمنجز الشركة عبر ملايين البراميل النفطية وملايين المكعبات من الغاز وباقة ضخمة من المنتجات البتروكيميائية، ونتجاهل أو نجهل كثيراً من الجهود والأعمال والمشاورات التي تجري بعيداً عن الأضواء بين التنفيذيين والخبراء والمتخصصين في الداخل والخارج للوصول إلى حلول لما يعترض سير الأعمال من مشكلات وعقبات.

لم تكن أحوال العالم في ثلاثينيات القرن الماضي هادئة بل في أشد اضطراباتها. فقد كانت الدول الكبرى تتنفس الصعداء بعد حرب عالمية أولى خلفت دماراً اقتصادياً وبشرياً هائلين، كما كانت في طريقها إلى حرب عالمية ثانية، وما بين الحربين فترة كساد عظيم دفعت الولايات المتحدة ودول عديدة أخرى ثمنه الباهظ، وفي خضم كل ذلك، ولدت اتفاقية الامتياز التي سمحت لشركة «كاسوك» باستكشاف الإمكانات النفطية في المملكة. لكن الفترة الواقعة بين تاريخ توقيع الاتفاقية وبين تفجر البئر الأولى الاستكشافية (البئر رقم 7) بالنفط في 3 مارس 1938م، كما يروي المؤرخون، التي استمرت قرابة سنوات خمس كانت أصعب الفترات على الإطلاق. فالجهود المضنية والآمال الكبيرة باكتشاف النفط، بعد اكتشافه في البحرين، كانت تتحطم فوق رمال الصحراء وصخورها، وكانت فرق التنقيب وعلى رأسها عدد من الجيولوجيين الماهرين تذهب وتجيء ولكن دون الجزم بما يختبئ تحت الكثبان الرملية، إلى أن تدفق النفط لاحقاً ليؤذن بانتقال المجتمع السعودي إلى مرحلة جديدة.

اليوم تجني المملكة والشركة والعالم بكل مصانعه ومنشآته ثمار ذلك القرار التاريخي المفصلي. أما الشركة بوجه خاص، فقد أنهت العقد الأول من الألفية الجديدة بقائمة من المشاريع الضخمة. بعضها اكتمل، والباقي على طريق الاكتمال. وفي الوقت نفسه، تواصل عملها في مجال مسؤوليتها الاجتماعية من خلال مجموعة برامج ونشاطات لتطوير الإنسان وإثراء معرفته، والارتقاء به علمياً وتقنياً، وإعداد برامج مخصصة للناشئة والأطفال تتيح لهم الانتقال الميسر إلى مجتمع المعرفة المنشود.

أما المناسبة الثانية فهي اجتياز مجلة «القافلة» لعقدها السادس. لقد صنعت هذه المجلة قارئها وواصلت دورها المعرفي كمجلة ثقافية متنوعة، وراهنت على خطها التحريري الذي يزاوج بين الرشاقة الصحفية والمضمون الجاد والتصميم الجذَّاب. وكان انطلاقها في مطلع خمسينيات القرن الماضي إضافة مبكرة إلى بنيان المجلات الثقافية العربية.

أما على المستوى المحلي فكانت المطبوعة الأم التي لا يزال الحنين إليها جارفاً، لأن ما خلّفته في ذاكرتنا ووعينا ووجداننا يشبه الوشم الذي يصعب محوه. وفضلاً عن كونها المطبوعة الأولى التي بادرت إلى شرح ملامح الصناعة النفطية ومفرداتها ابتداءً من أعمال المسح والتنقيب والتكرير وبناء المعامل والمصافي ومد الأنابيب والتعريف بحياة عمال الشركة ومنجزاتهم وغير ذلك، فقد جمعت القافلة في عرينها أيضاً طائفة من الكُتَّاب والأدباء العرب الكبار، وحافظت على هويتها كمجلة تنشر نخبة المقالات الدينية والأدبية والاستطلاعات المصورة. كما كانت إحدى المطبوعات التي حرصت على تقديم القضايا والتطورات التي تطرأ على مجالات العلوم والتقنية والطاقة. وإذا كانت الصورة هي عماد سوق النشر والإعلام والفضاء الشبكي اليوم، فقد سعت المجلة منذ ذلك الزمن الشحيح بالصور وآلات التصوير، لأن تكون الصورة حاضرة على صفحاتها، وربما لا يعرف كثيرون أن صوراً لا تحصى تُنشر اليوم في شبكة الإنترنت وفي الصحف كانت قد خرجت أولاً على صفحات هذه المجلة، حتى بات على كل من يبحث اليوم عن ملامح إنساننا وتاريخ مدننا ومعالمنا وتضاريس بلادنا أن يفتش في مجلدات المجلة الزاخرة بأندر الصور وأكثرها تميزاً وديمومة.

لكن المجلة بعد عمرها المديد تواجه، كما هو حال أغلب المجلات الورقية، الفيضان المعلوماتي الرقمي الذي أجبر صحف ومجلات عريقة على الخروج من حصونها التاريخية، والنزول إلى الميدان الرقمي قبل أن ينساها القارئ. لذا، فقد قررنا البقاء ورقياً ورقمياً بناءً على استفتاء أجريناه بين مجموعات من قرَّائنا. وبما أن تاريخ مجلتنا يشهد على قدرتها الدائمة على الانتماء إلى عصرها وتحقيق رضا جمهورها، فإننا حالياً على الطريق لاستخلاص صيغة مناسبة أو خلطة ترضي شرائح قرائنا الذين بنينا علاقتنا معهم عبر عقود، وتقربنا في الوقت نفسه من روح فئاتنا الشابة ومن تلمس قضاياها وقنوات تواصلها، وتناول اهتماماتها بطريقة بسيطة ومشوقة، وقادرة على الخوض في المحيط المعلوماتي الذي يغمر كل تفاصيل حياتنا.

أضف تعليق

التعليقات