ثمة نظرة ومفاهيم خاطئة تأسست بعد تفجيرات سبتمبر 2001م عند الغرب عن المجتمع والثقافة السعودية، ولتصحيح هذه النظرة اهتم الكثير من السعوديين النابهين لتوجيه رسالة للعالم الغربي بشكل عام وللمجتمع الأمريكي بشكل خاص يركِّزون فيها على تقويم هذا الفهم الخطأ الذي شوَّه الصورة الحقيقية التي يتميز بها الإنسان والمجتمع السعودي، ومن هنا تم إنتاج هذا الفِلم التسجيلي في قالب من التوثيقية الدرامية ليصور رحلة بحثية تتناول العمق الإنساني والتاريخي والحضاري . خالد ربيع السيد يستعرض مكانة وقصة وأهم ما جاء في الفِلم الذي يؤصل للإنسانية كقيمة أساسية لإنسان جزيرة العرب .
الفلم التسجيلي «الجزيرة العربية» أو Arabia، عُرض خلال يونيو الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية بمتحف العلوم في بوسطن وحظي باهتمام بالغ من قبل المجتمع الأمريكي خصوصاً من المهتمين بدراسات الشرق الأوسط وقضاياه.
كما سبق وعُرض في الجمعية الجغرافية الملكية بلندن على شرف صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، رئيس مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بحضور الأمير تشارلز ولي العهد البريطاني، وعُرض في عدة دول فيما يقارب أربعمائة صالة عرض. ومؤخراً عُرض الفِلم في مركز سلطان بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية (سايتك) بحضور صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن فهد، أمير المنطقة الشرقية، وصاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، رئيس مركز الملك فيصل للبحوث الدراسات الإسلامية.
يستعرض الفِلم في 46 دقيقة طبيعة الشعب العربي السعودي في الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ، ويصف ملامحه الأصيلة من خلال رسالة موجهة للعالم الغربي بشكل عام وللمجتمع الأمريكي بشكل خاص. ويركِّز الفِلم على تصحيح الفهم الخاطئ الذي كرَّسته وسائل الإعلام الغربية لتشويه الصورة الحقيقية التي يتميز بها الإنسان والمجتمع السعودي.
ومن خلال رحلة بحثية، تتناول قصة الفِلم العمق التاريخي قبل ألفي عام من تاريخ شبه الجزيرة العربية وتُحكى على لسان ثلاث من الشخصيات السعودية أولها بطل الفِلم الطالب «حمزة جمجوم» المبتعث لدراسة السينما في جامعة ذي بول بشيكاغو، فعندما يعود إلى المملكة لزيارة عائلته يبدأ رحلته لاكتشاف هويته عبر الماضي والحاضر. ويأتي صوت الكاتبة «نعمة نواب» الشاعرة والمصورة الفوتوغرافية التي تعكس وجهة نظر ورؤية وحياة المرأة السعودية في المملكة وتنقل للمشاهد معالم المسيرة الروحانية التي يقوم بها حجاج بيت الله. أما الصوت الثالث في الفِلم فهو للدكتور ضيف الله الطلحي، عالم الآثار الذي يروي حقائق الماضي في الحضارتين المهمتين من تاريخ تطور الإنسانية: حضارة الأنباط في مدائن صالح، والحضارة الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويبرز إسهامات هاتين الحضارتين في التطور الإنساني بوجه عام، ويتنقل في روايته حتى يصلً إلى عصر الازدهار والرخاء الذي بدأ مع موحد الجزيرة العربية الملك عبدالعزيز آل سعود -يرحمه الله-.
تبدأ رحلة حمزة من مدينة جدة حيث يلتقي عائلته وجيرانه وأصدقاءه. ثم ينتقل من جدة إلى عمق الصحراء لاستكشاف جذوره القبلية بين البدو المشهورين بعاداتهم الأصيلة، ثم يتوجه نحو الساحل ليغوص في أعماق البحر الأحمر حيث يجد هناك عالماً من الشعاب المرجانية الباهرة، ويقف على قصص عن حطام السفن القديمة الغارقة في قاع البحر التي يتبين من موجوداتها بعض من ملامح الحياة في القديم.
ثم يلتقي حمزة عالم الآثار الدكتور الطلحي في مدائن صالح مهد حضارة الأنباط في الفترة ما بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد في المنطقة الممتدة من جنوب الأردن وحتى الجزء الشمالي من شبه الجزيرة العربية، وهي المنطقة التي استوطن فيها الأنباط لسنين تقارب نحو ثمانية قرون قبل سيطرة الرومان على البتراء. ويتعرَّف المشاهد إلى حضارة المملكة النبطية التي شكلت محوراً في العالم القديم للتعليم ومحو الأمية والفنون والاختراعات والتجارة التي كوَّنوا منها ثروة هائلة من بيع البخور والتوابل للإمبراطورية الرومانية الشاسعة.
وهكذا يستمر أبطال الفِلم الثلاثة في التجول والترحال فينتقلون إلى العصر الذهبي الإسلامي الذي تألق بعد ظهور الدين الإسلامي بنحو سبعة قرون وظهور الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، حيث تحقق في ذلك العصر اكتشافات طبية ورياضية وهندسية وفلسفية مهدت الطريق للتطور العلمي في أوروبا وفتحت المجال لثورة العلوم والتكنولوجيا الحديثة.
ويتطرق الفِلم إلى دور علماء العرب والمسلمين: ابن سينا وابن رشد والإدريسي وابن النفيس وابن الهيثم وابن خلدون وابن باجه وابن بطوطة وابن جبير وابن الجوزي والطبري والرازي والخوارزمي والبيروني وابن البيطار.. والكثيرون ممن أسهموا في تطور مختلف الفنون والعلوم الاجتماعية والفلسفة والسياسة والتاريخ والجغرافيا وعلوم الطب والصيدلة والرياضة والفلك والزراعة والكيمياء والفيزياء.
وتمضي الرحلة بين الماضي والحاضر يؤمها أنموذجاً للمرأة السعودية حين تطلّ الكاتبة نعمة نواب لكي تجوب رحلة أخرى وتصطحب المشاهد مع نحو ثلاثة ملايين حاج مسلم يتوجهون نحو مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. التجربة الإيمانية العميقة لأكبر تجمع إنساني بشري على وجه الأرض يعكسون بصورهم ومناسكهم وأزيائهم روعة التواصل الإنساني بين البشر من كافة الأطياف والأعراق.
ويمضي حمزة ونعمه والدكتور الطلحي في تلك القصة السينمائية التي تجمع بين التوثيق التاريخي والسرد الواقعي لتطرح الإيجابيات دون تجاهل ما يراه البعض من سلبيات، فيعترف الفِلم على لسان البطل بأن هناك تفاوتاً في الفرص بين الرجال والنساء فما زلن لا يستطعن الدراسة أو السفر دون تصريح من الأزواج أو الآباء. لكن حمزة يؤكد على تلك الصورة النمطية التي استشفها من أصدقائه الأمريكان حينما يقول: «بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، اعتقد العديد من أصدقائي في أمريكا أننا جميعاً متطرفون ولكننا لسنا كذلك»، ويؤكد بمصداقيته «نحن لسنا ملائكة و لم نبلغ الكمال بعد، والأمل في الشباب السعودي ليثبتوا للعالم أجمع أن الجزيرة العربية مهد للحضارة في الماضي والحاضر والمستقبل».
أخرج الفِلم المخرج الأمريكي جريج ماكجليقراى وكتب السيناريو جاك ستيفنس والموسيقى التصويرية من تأليف ستيف وود وقدَّم العرض الموسيقي يوسف إسلام والإنتاج والتوزيع لشركة أفلام ماكجليفراى وفريمان وشارك في الإنتاج مجموعة زينل السعودية.