رغم الغيوم المعتمة التي تخيِّم على بعض مناطق الشرق الأوسط، وما تشيعه في النفوس من هزيمة ويأس أحياناً، فإن علينا أن نتذكر بعض المفاصل الحية في بنيان هذه المنطقة تاريخاً ووجوداً ومستقبلاً.
أحد تلك المفاصل العصيّة على الكسر هو مفصل «التنوع». والتنوع هذا ليس فكرة أو نظرية عابرة تتوهج ثم تنطفئ بين حقبة وأخرى. ولكنها خزانة ذهبية تتراكم فيها السنون والخبرات البشرية، وتتحوَّل إلى هوية راسخة تقف أمام كل محاولات المحو أو التبخيس. وعلى الرغم من أن ما نقوله هنا بديهي، فإن التذكير به يخدم هاجس هذه المقالة. لقد هبطت في هذه المنطقة الديانات، وتقاطعت فوقها الحضارات، ونمت على ضفافها الثقافات والأفكار، وهي لم تسلم من صراعات القوى الكبرى السياسية والعسكرية والاقتصادية على مدى قرون، فحصدت كغيرها من الأمم نصيبها من النتائج الموحشة التي تمخضت عن تلك الحروب والأطماع، بل وفقدت جزءاً من أراضيها لصالح كيان زُرع قسراً في قلب العالم العربي. لكن التنوع الخصب بكامل تجلياته الدينية والثقافية والعِرقية والإثنية والطائفية بقي الضوء الأشد لمعاناً، وربما الفضيلة الأكثر توارياً عن العين كلما حدَّقنا في جغرافية هذه المنطقة الأثيرة التي يمكن تسميتها على نحوٍ ما بقلب العالم.
أمم أخرى تقود العالم اليوم. والولايات المتحدة والصين، وهما القوّتان الكبيرتان اللتان تقفان على هرم تلك الأمم، تكوّنتا من أمم وأعراق شتَّى، وصنعتا أنظمة ثقافية واجتماعية ينصهر فيها أولئك المهاجرون الباحثون عن عيش، وعن صناعة أوطان جديدة بعيداً عن أوطانهم الأم. وقد خسر هؤلاء بلادهم الأولى وشطراً من ثقافتهم وهويتهم الاجتماعية، وتكبّدوا مصاعب الاندماج في أمم أخرى بما في ذلك خسارتهم لغتهم أحياناً، إلا أنهم أضافوا إلى ثقافة تلك البلاد الجديدة، وأغنوا هوياتها، وانخرطوا في صنع اقتصادات تلك الدول وقفزاتها التقنية والعلمية والمعرفية، وحققت بعض الأسماء جوائز عالمية مرموقة.
التنوع في منطقة الشرق الأوسط إذاً ليس تنوعاً ثقافياً وحضارياً فحسب، بل تنوع طبيعي، فهو خليط من الصحاري والجبال والأنهار، ويتموضع بين البحار والمحيطات ما يجعلها موقعاً استراتيجياً للتنمية المستدامة وميداناً لتنوع مصادر الطاقة والاقتصاد، فضلاً عن القوة البشرية الهائلة التي تشكِّل فيها الفئات الشابة شريحتها الكبرى.
«التنوع» هو إحدى الأيقونات التاريخية والحضارية الكبرى لشعوب هذه المنطقة، وإذا كانت بعض القوى الظلامية قد لجأت إلى نسف رموز ذلك التاريخ ومعالمه المادية وحواضنه العربية، فإنها لن تتمكَّن من محوه من الأرض والذاكرة والوجدان. ويبقى على شعوب المنطقة أن تجتاز خرائبها وخساراتها، وأن تبقى حاضنة لتنوعها الفريد الذي يصنع هويتها الثرية والفسيفسائية التي يمكن أن يغبطنا عليها بعض شعوب المعمورة.