يحيل بعض العاملين في المسرح قلة إنتاجهم إلى عدة أسباب، منها قلة النصوص المسرحية المحفزة، بينما تتكدس في أدراج الكتّاب المسرحيين عشرات النصوص التي لم تُبعث بعد ؛ لقلةٍ مماثلةٍ ممن يتواصل معهم أو مع نصوصهم على حدِّ تعبيرهم.
وما بين هذا وذاك من تقاذف للاتهامات، ولّى نفر من المسرحيين ظهورهم، ميممين وجوههم صوب المسرح في مهده، ليعيدوه إلى أصله الفطري، ونشأته الأولى، يوم كان عفوياً، قبل أن يتقيَّد بمرور الزمن.
عاد مسرح الارتجال الحديث إلى خوض غمار التجربة من جديد، ناشداً العودة إلى الأصول، والخلاص من القيود التي يفرضها نص مكتوب، والسلامة من سخط كاتب مسرحي على تنفيذ نصه، أو على العبث به برؤية مخرج لم يتواصل معه حق التواصل، أو على أداء لم يبلغ تجسيد الحالة في صورتها المطلوبة.
العفوية والارتجال يصنعان بطلاً
شارلي شابلن مثلاً
لم تأتِ تجربة الارتجال من فراغ. فمن خلال المسرحيات المقيَّدة بنصوص؛ قفز الارتجال رافعاً كفه عالياً؛ ليشير إلى المسرحيين وإلى الجمهور أن التفتوا إليَّ!
فعددٌ من الأبطال لم يظهروا نجوماً إلا من خلال صدفة ارتجال قدمتهم للجماهير بصورة مرضية ومقنعة؛ ليكونوا أبطالاً بنياشين على صدورهم وضعها جمهورهم، ومن أولئك شارلي شابلن عندما اصطحبته أمه معها إلى المسرح، وهو في سن الخامسة من عمره.
حين اعتلت أم شارلي المسرح لتغني، ضعف صوتها حتى صار لهاثاً؛ وضحك من أدائها وصوتها الجمهور المكوَّن من جنود صاخبين، وأصبحوا يصفّرون ويطلقون صيحات استهجان؛ اضطرتها للخروج من المسرح حزينة خائبة.
عددٌ من الأبطال لم يظهروا نجوماً إلا من خلال صدفة ارتجال قدَّمتهم للجماهير بصورة مرضية ومقنعة؛ ليكونوا أبطالاً بنياشين على صدورهم وضعها جمهورهم
أمام هتاف الجمهور الضجر؛ لم يكن لمدير المسرح سوى سحب الطفل شارلي شابلن؛ ليقدمه بدلاً عن أمه. ولم يكن أمام شارلي وقتها إلا أن يغني بعد أن رأى نفسه تحت ضوء الأنوار الباهرة. وفي منتصف الأغنية، بدأ الجمهور يتفاعل مع صوت الصغير، ويرمي بقطع النقود احتفاءً بالبطل المقبل. فتوقف شارلي في الحال أمام المال؛ ليعلن للجمهور بعفوية أنه سيقوم بجمع ما سخى به، والعودة لإكمال الأغنية، فأثارت ضحكَهم عفويةُ الصغير وقطعه الأغنية لجمع المال.
وقت نزول الصغير شارلي لجمع النقود؛ وصل مدير المسرح حاملاً منديلاً لجمعه أيضاً. فظن شارلي أن المدير أتى لأخذ المال الذي وهبه له الجمهور! وفي هذا المشهد، بين خوف الصغير وجشع المدير؛ زادت ضحكات الجمهور، حتى لحق شارلي بالمدير خلف الستارة؛ ليراه يعطي أمه المال.
عاد شارلي مرتاحاً ليكمل وصلته مخاطباً الجمهور، وراقصاً على الأنغام، ومقلِّداً عدداً من الشخصيات بمن فيها أمه. وبكل براءة الطفولة صار يقلّد صوت أمه وهو يخفت، ويرى أثر ذلك على السامعين، وما بين الضحك والهتاف، هطلت عليه النقود ثانية. وحين جاءت الأم إلى المسرح لتأخذه، تلقت عاصفة من التصفيق، وكانت تلك اللحظة أول ظهور لشارلي شابلن على المسرح، وآخر ظهور لأمه. لتكون العفوية والارتجال وراء ظهور بطل لا تنساه ذاكرة الفنون فضلاً عن المسرح.
الارتجال المتعمّد عند عادل إمام مثلاً
يتعمد بعضُ الأبطالِ الارتجالَ والخروج عن النص للفت الأنظار، وإبهار الجمهور، واقتناص الضحكات، لتتوَّج الوصلة بالتصفيق. فمن منَّا لا يذكر من مسرحية «شاهد ما شافش حاجة» حوار عادل إمام وحاجب المحكمة الذي يحفظه عدد ممن شاهدوا تلك المسرحية حدَّ تسميعه. فذلك المشهد لم يكن سوى وصلة ارتجال بسبب استبدال كوب الماء المفترض بمشروب غازي. إذ يذكر عادل إمام في حوار له: «كان من المفترض أن يدخل حاجب المحكمة حاملاً لي كوب ماء، إلا أن مساعد الإكسسوارات لم يجد سوى زجاجة مياه غازية، وكان الجو حاراً، ولا يوجد مكيف هواء في المسرح، حتى إنني كنت أتصبب عرقاً خلال المشهد، فقلت لنفسي أن أرشف محتوى الزجاجة ببطء، حتى أشعر ببعض الراحة».
وأضاف: «عندما وجدت المياه الغازية (ساقعة) أعجبتني، وعندما هممت بإعطائها للشاب ساعي المحكمة، بدأت أتبادل الحديث معه بعض الوقت حتى أنتهي من الزجاجة، فبدأ الكلام عن مسكنه هو وزوجته وعياله السبعة وحماته في غرفة واحدة».
وإن لم يُشر عادل إمام إلى خروجه عن النص صراحة في هذا المشهد المتميّز، إلا أنه أثبت أن الارتجال نص لا يقل عمَّا هو مكتوب؛ بل يفوقه حتى صار محط اهتمام الجمهور وعنايته.
ويظهر أن هناك سراً ما بين عادل إمام وكوب الماء، ففي مسرحية «الواد سيد الشغال»، ارتجل حواراً مع مصطفى متولي، يرحمه الله، حين أحضر له كوب ماء، فامتد الحوار ما بين وضعه هنا أو هناك، أمام حيرة وذهول مصطفى متولي، حتى انتهى الواد سيد الشغال إلى طلب وضع كوب الماء في جيب البنطلون!
أمام هذا الطلب أفصح مصطفى متولي عن ارتجال عادل إمام بسؤاله: «تتكلم جد؟!»، في مواصلة للحوار، وإشارة إلى خروج عادل إمام عن النص؛ وفي تلك الإشارة تحفيز للجمهور ولفت انتباه، حتى أيقن عديد من الأبطال بأن الارتجال انعطافة تبهر وتجذب الأنظار.
الهامش حين يصبح متناً
لعل الهامش الخارج عن نص المسرحية بالارتجال أصبح متناً محفّزاً. ولذا كان قلب المعادلة مبشِّراً بنجاح مرتقب، ومحفِّزاً لعديد من المخرجين، ومن أولئك المخرج اللبناني لوسيان بورجيلي عام 2008م الذي كوَّن فرقته المسرحية القائمة على الارتجال، وقدَّم عمله «متلنا متلك» وما تليه من أعمال.
تنبني مسرحية «حبل غسيل» على بطولة ذلك الحبل، وما عليه من ألبسة متنوعة تستطيع أن تختزل العالم في عدد منها منشور على حبل. فأي قضية أو فكرة أو قصة لا تتطلب سوى أربعة أبطال خامسهم عازف، وعدد من قطع اللباس…
وكل هذه التجارب في المشرق والمغرب؛ وليدة تدريبات للممثل المسرحي على الارتجال كإحدى الأدوات الرئيسة لتكوينه وتأهيله وتطوير قدراته التمثيلية بين يدي المخرج وزملائه من المسرحيين، فيخرج بأنماط وشخصيات يتقنها حدَّ التقمص.
وقد خاض المخرج المسرحي محمد الجراح غمار التجربة من خلال ما يملكه من أدوات وخبرات، فأقام دورة في مسرح الارتجال بجمعية الثقافة والفنون فرع الدمام، توِّجت بتجربة أولى في شهر يونيو من عام 2016م، وخرج محمد الجراح من هذه التجربة بفريق مكوَّن من فيصل الدوخي ومحمد القحطاني وإبراهيم الحجاج وأحمد التميمي، إضافة إلى الموسيقي ماجد السيهاتي.
سيادة الجمهور
صعد الأبطال إلى المسرح ليقوموا بدورهم المطلوب من الارتجال، ولم يتركوا الجمهور أسفلهم، بل صعدوا بهم من خلال مشاركتهم في اختيار ما يريده أحدهم من عرض: فكرة، أو قصة، أو قضية، أو حلم؛ ليتم تنفيذها مباشرة، وفي ذلك لفتة لسيادة الجمهور، وعودة مكانته في زمن المتلقي الذي آن له أن يمارس فيه دوره الحقيقي، فتكون له الكلمة.
وعلا دور الجمهور في مسرحية (حبل غسيل) التي تم عرضها على مسرح عبدالرحمن المريخي – رحمه الله – بجمعية الثقافة والفنون بالأحساء؛ حين تناوب حاضرون من الجمهور على تقديم قضاياهم وقصصهم، حتى شعروا أنهم كتَّاب مسرحيون يشاهدون نصوصهم منفذة أمام أعينهم.
يتحقق بذلك حضور المشاهد بروح عالية يملكها كل من له دور في المسرحية، وهذا ما يرجوه مسرح الارتجال من تلك المشاركة الفاعلة والمتفاعلة بحضور الجمهور بانتباه كامل، لمشاهدة مدى تحقيق من يعتلي المسرح لمتطلباتهم، والاهتمام برأيهم مباشرة من خلال ردود أفعالهم الفورية. أو سماع النقد الذي يطلبه طاقم المسرحية من كافة الحضور، وتأكيدهم على ذلك بإبداء آرائهم على وسم #saudi_playback، الذي صممه الفريق لتلقي كافة الآراء سلبيها قبل إيجابيها؛ ولقياس مستوى التجربة، وتحسين الأداء من خلال ملاحظات الجمهور الثمينة.
سرعة البديهة اللازمة
يتطلب هذا النوع من المسرح تحديداً سرعة بديهة في اختيار البطل لدوره مباشرة دون إطالة تفكير، وقدرة عالية على التواصل مع الفريق. فبتجربة الارتجال يزول قلق حفظ النص وظهور مسحة التمثيل على البعض من خلال ما يبديه الحفظ والتسميع على البعض. فمن شأن تجربة الارتجال القضاء على ذلك بعفويتها المطلوبة وسرعة الحديث، ليمثّل البطل على خشبة المسرح كأي شخص تراه في الطريق.
تنوع الشخصيات
تنبني مسرحية «حبل غسيل» على بطولة ذلك الحبل، وما عليه من ألبسة متنوعة تستطيع أن تختزل العالم في عدد منها منشور على حبل. فأي قضية أو فكرة أو قصة لا تتطلب سوى أربعة أبطال خامسهم عازف، وعدد من قطع اللباس؛ لتجسِّد مشهداً متكاملاً متناغماً. فالمسرح يختزل ذلك العالم بتنوع قدرات الممثلين، وطاقاتهم التي تستوعب تجسيد عدد من الشخصيات ببراعة دون حدود أو قيود.
أظهر طاقم الفريق قدرة جيدة على تنويع الشخصيات. فحين يغدو فيصل الدوخي صوت العقل غالباً، يتبنى إبراهيم الحجاج روح الفكاهة والدعابة بما يملكه من روح مرحة وقبول لدى المشاهدين، بينما يجسد محمد القحطاني خليطاً يتطلبه المسرح من السذاجة والرعونة والمعارضة. ويختم ذلك أحمد التميمي بمزاياه الجسدية والخلقية ليمثل شخصيات متنوعة بقدراته الجسدية، وما يتطلبه العالم من نقيض للثلاثة الذين يعتلون الخشبة، وما يكونه الأربعة مجتمعين من شبه تكامل فيما بينهم لتحقيق احتواء العالم على خشبة مسرح.
اختلاق الأحداث
ويمتلك هذا الفريق قدرة مماثلة على جلسات العصف الذهني في بروفات الطاولة؛ غير أنها تتم بسرعة عالية تسبق الزمن بتواصل ذهني من دون حديث، وذلك حين يقفز أحدهم ليلبس زيّه خلف الحبل، فيأتي أمامه ويلقي بذرة المسرحية الأولى بتجسيد شخصية، ويرسل رسالته مباشرة بكلمات إما أن تكون بمونولوج داخلي أو بمكالمة هاتفية يكلم بها أحدهم، أو بأي وسيلة يبتكرها؛ مستدعياً شخصية من بعده الذي يسير على خطه، أو يبتكر شيئاً جديداً يكمل به، فينحرف بالأول إلى خط جديد يصل بهم جميعاً إلى خط الفوز.
أصبح الهامش الخارج عن نص المسرحية بالارتجال متناً محفّزاً. ولذا كان قلب المعادلة مبشِّراً بنجاح مرتقب، ومحفِّزاً لعديد من المخرجين..
إن شأن الفريق في ذلك الفعل؛ شأن طاقم المسرحيين الذين يجلسون جلسة الطاولة للبروفات، غير أن ما يميز فريق الارتجال قيامه بتلك الجلسة من دون طاولة. ولذلك، ينتفي النقاش، ويتبعه انتفاء التنازع فيما بينهم، إذ يسود بينهم التوافق والمجاراة لإكمال ما خطه أولهم دون خلاف.
الارتجال جرأة ومغامرة
الارتجال على المسرح تجربة تستحق كل التقدير لما تمارسه من جرأة في خوض مساحة مكتظة بالألغام. فالمخرج والأبطال يسيرون في حقل من الألغام بعناية فائقة وحذر شديد خلال اعتلاء الخشبة من دون نص محفوظ يملونه على الجمهور! بعيداً عن تجارب أخرى مريحة أكثر بكثير وتقوم على تسجيل الصوت واعتلاء المسرح بأجسادهم دون أصواتهم!
فليأت اليوم الذي نرى فيه فريقاً ينسف كل ما سبق، معتلياً المسرح بموهبته فقط، ليقول: «أيها الجمهور.. أتينا لنريكم ما تريدون .. لا ما نريد»!
لا شك أن تلك شجاعة مسرحية، لا يمتلكها من لا يثق بموهبته وقدرته على إبقاء الجمهور جالساً ساعة كاملة دون ملل أو كلل، بل ويراهن علاوة على ذلك على إمتاعهم وحيازة تأييدهم وحصد تصفيقهم.
ولعل من أهم ما يجلب ذلك التأييد والتشجيع؛ تلك الشجاعة التي يمتلكها الفريق، فليس الانتصار وتحقيق الكسب مطلباً؛ بقدر ما تراه من أبطال يملكون هذه الروح، فحسبهم أنهم في بداية تجربتهم، ويخرجون بنتائج تعفينا من تناول قصور تبديه البدايات دوماً.