قول آخر

عن القصيدة وطقسها

طقس الكتابة عملية تشبه الضرب في الرمل.
هي كمن ينظر إلى قدميه عندما يقود دراجة ليعرف كيف تتمّ عملية القيادة
ثم يتعثّر في الطريق.
الكتابة موعد مع الغياب، أوهي المكوث بانتظار جودو، أو البحث عن وليد مسعود.
قد تأتي وقد لا تأتي ..!
الأوراق، وستة عشر بحراً، وإرث هائل من قصائد النثر، وقلم دون غطاء، ولوحة مفاتيح شاهت حروفها بالنقر المتوالي من سبّابتك اليسرى.
كلهم يتأهّبون لكنها قد لا تجيء،
تغضب وترمي بكلّ شيء في أقرب سلة أمامك، لا فرق بين سلّة المهملات، وسلّة المحذوفات في الكون الافتراضي.
تختلط الإيقاعات، الوافر والرمل ممزوجان بالمتدارك.
وتحضر قصيدة النثر ذات الكلمات المغسولة بعناية، والنظيفة كطفل يذهب في يومه الأول للمدرسة، بإيمان كبير يهدم وثنية الإطناب، ولا يبجّل شراسة الإيقاع، وهكذا يفيض المعنى في جمل قليلة.
ثم ينتصب الخليل بن أحمد أمامك كعفريت صابّا جام غضبه عليك، وفي يده عصا القافية التي ينخس بها ظهور الشعراء منذ ما يزيد على ألف سنة.
تقوم منكسراً من مكانك الذي هيأته للقصيدة.. الحلم
ثم في خلسة من كلّ هؤلاء تطلّ عليك وأنت أعزل إلا من حزنك، عارياً إلا من البهجة بقدومها.
لا لشيء إلا لأنها هي سيّدة الزمان والمكان، وتلويحة الحطّاب الأخيرة في طريقه إلى شجر الكلمات، هي شهوة نبيلة ضدّ المحو، وأولى محاولات الإنسان لمناهضة التسلّط والطغيان.
القصيدة تفتح نافذة في العراء، وتصنع أرجوحة لأطفال القرى البعيدة.
هي من تحدّد إيقاعها، وأوان حضورها
ربما في الظلام،
وحين يغالبك النعاس، أو ذاهباً في صباح شاحب إلى عملك
هكذا تقبل من أورثتك الجنون
فجأة، تنبت كعشب فوق حجر، كبرق تهامي، أو كمطر الصيف.
تشبه غيمة خرجت عنوة في يوم مشمس.
***
الشاعر هو من يعيش القصيدة في حياته اليوميّة، قبل أن تتحوّل إلى لغة مكتوبة على الورق، وبالتالي لن يكون ثمّة طقس للكتابة قبل القصيدة وبعدها.
هذه قسمة جائرة.
إذا ما تجاوزنا مسمّى الطقس، فعلى الرغم من عدم ثباته على مفهوم يقيني وواضح، يبقى الشعر هو الكلمة السحرية التي نلوذ بها، عندما يخذلنا الواقع المعاش. وكلّ إجابة تدّعي معرفة أوحقيقة تظل على التخوم.
القصيدة ليست قطّة أليفة تصطحبها سيّدة نبيلة حيث شاءت، وليست هشّة كسطح الماء كما يتوقع كثير.
القصيدة تحتاج وقتاً للتأمل، كما يتأمل المحاربون طرائدهم وخصومهم من فوهات بنادقهم.
الانفعال ومحاكاة الواقع لا تليق بالشاعر، وقصائد المناسبات الظرفية، لا تصمد أمام عوادي الأيام وتقلّباتها السريعة والمتعاقبة.
مع ازدهار ثقافة التصفيق، على الشعر أن يلوذ بصمته الحكيم، وعزلته المضيئة، بعيداً بعيداً عن الهشيم.
نصّ واحد مأهول بالشعر، خير وأبقى من دواوين مسكونة بالصراخ والضجيج.
الكتابة الحقيقية تتكئ على علائقها المكينة بالذاكرة والتخييل، في مسعى حثيث لانقلاب أبيض على عالم متشظّ ومفكّك، هاجسها ديمومة تتعالى على الزمن والظروف المرحلية.

أضف تعليق

التعليقات