يقول عمدة النقد الأدبي ابن رشيق: عرف الكتَّاب معاني للبلاغة في النثر لم يتوافر للنظم مثلها! . فهو يرى أن الإجادة في النثر أصعب من الإجادة في الشعر. ولذا، لا بأس في أن نختطف ديوان الأمس، في هذا العدد، من عالم الشعر إلى عالم النثر، لتحدثنا نجاح طلعت* عن المكانة التي احتلها النثر العربي في عصره الذهبي بين القرنين الثاني والخامس للهجرة، ولتعرض لنا مقتطفات من أجمل ما خطَّته أقلام قادة الكتابة في ذلك الزمن، وهم: ابن العميد والصاحب بن عبَّاد وأبو بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني.
إنّ مَن يراجع الكتابة النثريّة من القرن الثاني إلى القرن الخامس للهجرة، يرى أنّ ابن رشيق مصيب في قوله؛ فلذلك النثر بلاغة، أية بلاغة، وإحسان دونه كلّ إحسان!
لقد كانت بداية التطوّر في النثر العربي مع عبدالحميد الذي كان كاتباً لخلفاء بني أميّة. جاء بطريقة جديدة في الكتابة شرّعها لكل من حمل القلم بعده. فانتقل الإنشاء من طور إلى طور، ولم يكد يتغيّر حتى عهد ابن العميد (ت 360هـ)؛ فشاعت الكلمة المأثورة: بُدئت الكتابة بعبدالحميد وانتهت بابن العميد! . لقد كان ابن العميد حلقة الوصل بين النثر المطبوع والنثر المصنوع، قبل أن يهجم السجع ذاك الهجوم المريع على الكلام المُرسَل ويُضعف قواه بعد القرن الرابع.
نكبِر لِعبد الحميد فضْلَ الرّيادة، ولكنّنا سنتكلّم عن عصر ابن العميد، عصرٍ وصل فيه النثرُ إلى قمّة التأنّق والزخرف والكتابة الموشيّة عن طريق فرسان هذا العصر الأربعة: ابن العميد والصاحب بن عبّاد وأبو بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني. لم يكن هؤلاء الفرسان كتّاباً عاديّين. شكّلوا طبقة من الكتّاب يُشار إليها بالبنان. تميّّزوا بشغفهم بالعلم والأدب وتقديرهم لهما. وإن أنت قرأت عن حياتهم وعرفت أنّ ابن العميد والصاحب كانا وزيرين خيّرين على الأدباء فلا شك في أنك ستقول معي: ما أحسن أن يُستوزَرَ الأدباء! وما أفضلَ أن يتناظرَ الكتّاب! إن لفي ذلك نهضة عظيمة للأدب!
ابن العميد.. أكثرهم نثراً للشعر
كان أبو الفضل ابن العميد وزيراً لركن الدولة البويهي وكان أبو القاسم بن عبّاد (385هـ)وزيراً لمؤيّد الدولة البويهي. اتَصل الأخير بابن العميد شاباً، وأخذ عنه، واشتدّت صحبته له فلقّب من أجل ذلك بـ الصاحب . وعلى الرغم من اضطلاع الوزيرين بأعباء الوزارة وشؤون الدولة، إلا أنهما كانا من المولعين بجمع الكتب، مُقبلين على قراءتها، يتفنّنان في ضروب الكتابة ويَنظِمان الشعر. ليس هذا فقط، بل كانا صاحبَي جُود وإحسان. أغدَقا على الشعراء والأدباء والعلماء، فقصدَهما هؤلاء من بغداد والشام ومصر. وكانت مجالسهما لا تخلو ممّن يُحاضرون أو يتكلّمون ويَتناظرون، أو مِن رواة ومستفيدين، حتّى قيل إنهما كانا روحَ نهضة العلم والأدب، وبفضلهما ازدهر الأدبُ في عهد بني بويه ازدهاراً قلَّ أن يُصادِفه في عصر آخر.
وقد اخترنا من نثر ابن العميد سطوراً من رسالته لـ ابن بلكا عند استِعصائه على ركن الدولة البويهي:
كتابي وأنا مترجّحٌ بين طمَع فيك ويأس منك، وإقبالٍ عليك وإعراضٍ عنك. فإنّك تُدلّ بسابق حُرمة، وَتَمُتّ بسالف خِدمة، أيسَرهما يُوجب رعاية ويقتضي محافظة وعناية، ثمّ تشفعُهما بحادثِ غُلولٍ وخيانةٍ، وتُتبعُهما بآنفِ خلافٍ ومعصية… ولا جرمَ أنّي وقفت بين مَيلٍ إليك، ومَيل عليك، أقدّمُ رجْلاً لصدمك، وأؤخّر أخرى عن قصْدك، وأَبسط يداً لاصطلامك (استئصالك) واجتياحك، وأثني ثانية لاستبقائك واستِصلاحِك، فقد يغرُب العقلُ ثمّ يؤوب، ويعزُب(يغيب) اللبّ ثمّ يثوب، ويذهب الحَزم ثمّ يعود، ويَفسُد العزم ثمّ يَصلحُ، ويُضارَع الرأيُ ثمّ يُستدرَك، ويَسْكرُ المرء ثمّ يصحو، ويَكدر الماء ثمّ يصفو .
الصاحب بن عبَّاد.. أستاذ الحلية اللفظية
وإن كان ابن العميد أرقّ معاصريه طبعاً، وأقلّهم سجعاً، وأكثرهم نثراً للشعر وتلميحاً للأمثال والحكم، فإن الصاحب بن عبَّاد سار على نهج ابن العميد وزاد عليه في الحلية اللفظية ولا سيّما في السجَع والجِناس حتّى قيل فيه: لو رأى سجعة تنحلّ بموقعها عُروة المُلك، ويَضطرب بها حبلُ الدولة، لما هانَ عليه أن يتخلّى عنها .
و نختارفقرةً من رسالة كتبها الصاحب إلى القاضي الجرجاني حين نزوله بباب الريّ وافداً عليه:
أحقٌّ ما قيل أمرُ القادم، أمْ ظنٌّ كأماني الحالِم؟ لا والله، بل هو دَرك العَيان، وإنّه ونيل المُنى سَيّان. فمرحبًا أيّها القاضي براحِلتك ورحْلِك، بل أهلاً بك وبكافّة أهلك، ويا سرعة ما فاحَ نسيمُ مَسْراك! ووَجدْنا ريحَ يوسف مِن رَيّاك! فحُثّ المَطِيّ تُزلْ غلّتي بسُقياك، وتزح علِّتي بِلقياك. وقصّ عليّ يومَ الوصولِ لِنجعَله عيداً مشرّفاً، ونتّخذه موصماً ومعرّفاً، رُدّ الغلام أسرعَ مِن رجْع الكلام، فقد أمَرته أن يطير على جناح نسْرٍ، وأن يتركَ الصّبا في عِقالٍ وأسْرٍ:
سقى الله داراتٍ مرَرْتَ بأرضها
فأدّتْك نحوي يا زيادُ بن عامرِ
أصائلَ قربٍ أرتجي أن أنالها
بِلقياك قد زحزحْن حَرَّ الهواجرِ
الخوارزمي والغيرة من الهمذاني
أمّا الفارسان الآخران، أبوبكرالخوارزمي (383هـ) وأبو الفضل الهمذاني (398هـ)، ولقبه بديع الزمان، فهما أديبان وشاعران ولغويّان! جرت بينهما مكاتبات أفضتْ إلى مناظرات ومساجلات، وانقسم الناس بين هذا وذاك، منهم من غلَّب الهمذاني ومنهم من أيَّد الخوارزمي. ويبدو أن الهمذاني تفوّق على نظيره مدفوعاً بحماسة شبابه، وزلاقة لسانه، وحاجته إلى الظهور، فنالت هذه النكبة من الخوارزمي واعتلّت صحّته، ولم ينقضِ عليه الحَولُ حتّى مات من حسرته!
اشتهر كلاهما بسرعة الحافظة وقوّة الذاكرة، حتى ليُخبر عن ذلك العجبُ العجاب. قيل إن الخوارزمي قصد الصاحبَ بن عبّاد، فلمَّا وقف ببابه ذهب الحاجب إلى الصاحب وقال: إن أديباً يستأذن في الدخول . فقال الوزير قُل له: قد ألزمْت نفسي ألاَّ يدخل عليّ إلا أديبٌ يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب ، فقال أبو بكر للحاجب ارجعْ إليه وقُل له: هذا القدْرمِن شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فلمّا أُخبر بذلك الصاحبُ قال: هذا أبو بكر الخوارزمي! .
فضلاً عن ذلك، كان الخوارزمي إماماً في اللغة والأنساب، واقفاً على أسرار اللسان وخواص التركيب. بعض النقّاد يجعلونه، في النثر، من طبقة ابن العميد، وكثير من الناس يفضلونه على الصاحب. نختارمن نثره:
أكبَرُ مِن الأسير مَن أسَرَه ثمّ أعْتقه، وأشجعُ مِن الأسد مَن قيّده ثمّ أطلقه. وأكرمُ مِن النبْت الزكيّ مَن زرعه، وأكرمُ مِن الكريم مَن اصطنعه. لا أصيدَ أعظمُ من إنسان، ولا شبكةَ أصيدُ من إنسان، وشتّان بين مَن اقتنص وحشياً بحبالته، وبين مَن اقتنص أنسياً بمقالته! .
أمّا الهمذاني، مبتدع فنّ المقامات، فعَن قوة ذاكرته تحدّثُ صفحاتُ كتب الأدب. فمما يُذكر أنه كان ينظر في أوراقٍ من كتاب لم يعرفه نظرة واحدة ثم يَسرُد ما فيه دون أن يُضيّع حرفاً واحداً مما قرأه. وأحياناً كان يبدأ مقامته أو رسالته بآخر سطر منها إلى أن يصل إلى أولها. فهنيئاً له ذلك! أفلا يحقّ لمن امتلك ناصية اللغة وشواردها أن يلعب بالألفاظ لعباً؟ ويلعب لعبته بمهارة؟! هذا، إلى جانب الاعتراف بأن نثره يستهوي القلوب ويمتلك الشعور، وهو أقرب إلى الشعر المنثور الذي لم يفسده التكلّف ولم يسده الغموض. وقد تصرّف هذا الكاتب في فنون الترسّل حتى قيل عنه إنه فارس الطريقة العميديّة وابن بجدتها .
كنت أودّ لو نستطيع أن نمثِّل على نثر الهمذاني بقطعة من مقاماته، وأحبّها إلى نفسي المقامة المضيريّة التي تجمع إلى ظرفها وطرافتها سباقاً لغوياً يقطع الأنفاس.غير أن المقامات وهي حكايات، اجتزاؤها لا يَفي بالمطلوب هنا. لذلك اخترنا سطوراً من رسائله:
والله لولا يدٌ تحت الحَجَر، وكبدٌ تحت الخنجر، وطفل كفرخِ يومين قد حَبّبَ إليّ العَيش، لَشفختُ بأنفي عن هذا المقام، ولكن صبراً جميلاً والله المستعان .
وكتب إلى بعض أصدقائه يحذّره ممّن يثق بهم:
…. فلِلثقات، خيانة في بعض الأوقات. هذه العينُ تريك السرابَ شراباً، وهذه الأذن تسْمِعك الخطأ صواباً، فلستَ بمعذورٍ إن وثقتَ بمحذور، وهذه حال السامع من أذنه، الواثق بعينه. وأرى فلاناً يكثر غشيانك وهو الدنيء دُخلته، الرديءُ نحْلته، السيّء وَصْلته، الخبيث جملته.وقد قاسَمْته في أزرك وجعلته مَوضِع سرّك. ما أبعدَ غلطك عن غلط إبراهيم عليه السلام! إنه رأى كوكباً، ورأيتَ تولياً (هارباً). وأبصر القمر، وأبصرتَ القدر. وغلط في الشمس وغلطتَ في الرمْس! .
هؤلاء هم الروَّاد الأربعة الذين جعلوا السجع في عصرهم زيَّاً من أزياء البلاغة، فجاء نثرهم أعلق بالنفس وأملك للوجدان من نثر من سبقهم لأنه بحقّ شعرٌ لا يعوزه إلاّ الوزن. كما أنّ من جاء بعدهم لم يستطع أن يلحق بركابهم لأنّ الفرق بين السجع الحسن والسجع المصنوع خيط رفيع قطعه من اقتفى أثر هؤلاء الروّاد من كتَّاب مصر والأندلس في القرن الخامس وما يليه. باختصار، هؤلاء هم الفرسان الذين أتوا بألفاظ مسجوعة حلوة حادة رنَّانة. والذي يستطيع أن يأتي بألفاظ مسجوعة تشبه نقش أثوابٍ من الكرسف، أو ينظِّم عقداً من الخزف الملون، بحسب رأي ابن الأثير، هو في مقام تزلّ عنه الأقدام، ولا يستطيعه إلا الواحد من أرباب الفنّ بعد الواحد، ومن أجل ذلك كان أربابه قليلاً .
نـجـمــة الحـبــر..
لنا قمرٌ في اليمامة عالٍ ..
ولكننا حين نسهرُ يهبطُ من درجٍ في السماءِ
ليسهرْ.
لنا نجمةُ الحبر نكتبها والسماواتُ دفترْ
لنا في الحَمَامِ هديل اثنتين..
ولكن دمعهما قد تحجرْ..
لنا في الغرامِ فؤادٌ يتيمٌ
ولكنه حين يعشق أخضرْ.
لنا امرؤ القيسِ يبحثُ عن بلدٍ ضائعٍ
ثم يخسر.
لنا في الوقيعةِ يومان
زاهٍ وأغبر
لنا في الرصافة نايان
ينأى بنا الحزنُ حتى نؤلف أرواحنا
في كتاب الهجاء المبعثر
لنا في الندامة كأسان..
أُهريق أحلاهما ذات حزن
وثانيهما قد تكسّر..
لنا.. مالنا غير هذا الجحيم الذي قد أحاط بنا من جميع الجهات..
ولكنه عن ندىً سوف يُحسر.
لنا الله.. والله أكبر.
عبدالله الصيخان
شاعر سعودي