طاقة واقتصاد

عندما ينتهي صبر القاضية

في مطلع شهر يوليو أعلنت وزيرة العدل بولاية برلين، انتحار القاضية كيرستن هايسينج، المعروفة باسم «القاضية لا رأفة». فتناولتها وسائل الإعلام بتقارير مفصلة، وأصبح الجميع ينتظر نزول كتابها، الذي يحمل عنوان «نهاية الصبر- الحزم مع الأحداث مرتكبي العنف»، الذي يتناول تجربتها كقاضية أحداث، في حي «نويكولن» الذي تسكنه الجالية العربية والتركية، والذي تسود فيه معدلات جريمة عالية للغاية، ومازال الكتاب يحتل المرتبة الأولى بين أكثر الكتب مبيعاً منذ شهرين.

من هي هايسينج؟
هي سيدة قانون، لم تبلغ الخمسين من عمرها، قررت ألا تكتفي بإصدار أحكام قاسية على الأحداث الذين يرتكب بعضهم فظائع تفوق الخيال، بل أرادت أن تفهم سبب قيامهم بذلك، والخلفيات التي تجعلهم قادرين على القيام بتلك الجرائم الشنيعة. وحاولت أن تسهم في الأخذ بيد الحدث ليخرج من دوامة الجريمة، ويعيش حياة بدون مخالفات، وتعترف في مقدمة كتابها بأنها غير قادرة على الوفاء بهذين المبدأين في عملها، بالشكل الذي يرضي ضميرها.

اعتبر الكثيرون أنها معادية للأجانب عامة، وللمسلمين والعرب بصورة خاصة، واتهموها بالعنصرية، لأنها كانت ترفض اللغة الدبلوماسية التي ينتهجها السياسيون في الحديث عن المشكلات التي تتسبب فيها الأقليات العرقية أو الدينية، وقال آخرون إنها قاسية ولا تعرف الرحمة، لأنها تصدر أحكاماً صارمة، إذا لمست من الجاني الاستهانة بالمحكمة، وعدم احترام القوانين. قالت إنه من الخطأ الفادح أن تستغرق القضايا البسيطة فترات طويلة، تفصل بين الجريمة وبين المحاكمة، بحيث لا يلمس الحدث العاقبة المباشرة لسوء تصرفه، ووضعت خطة عمل تكفل تنفيذ هذا الهدف، وقد جرى تعميم هذه الخطة، بعد أن لمس الجميع فائدتها. وكما عاشت حياة مثيرة للجدل، بين من يقول إنها تعطي بلا حدود، وبين من يقول إنها لا قلب لها، فإنها انتحرت يوم 3 يوليو، في الغابة القريبة من بيتها، وبقيت معلقة على الشجرة التي شنقت نفسها عليها، لمدة أربعة أيام، حتى عُثر عليها.

محتوى الكتاب
يقع الكتاب في 204 صفحات، ويتكون من سبعة فصول، إضافة إلى مقدمة وخاتمة، وتبدأ القاضية كتابها باستعراض حالات كثيرة من القضايا التي مرَّت عليها، وتقدِّم إحصاءات مثيرة للقلق عن تنامي الجريمة كماً وكيفاً. وفي الفصل الثاني تسمح للقارئ بمعرفة الكثير من التفاصيل عن عمل قاضية الأحداث، ولا تتورع عن النقد الذاتي، لأخطاء في قرارات اتخذتها، أو لقصور في أحد أطراف العمل، وللحيل القانونية التي يلجأ إليها المحامون، وفي الفصل الثالث تركز على الاعتداءات التي يقوم بها المتطرفون اليمينيون، المعروفون باسم النازيين الجدد، واليساريون المعروفون باسم المستقلين أو الفوضويين.

في الفصل الرابع تتناول بالتفصيل نماذج من الأحداث من عتاة الإجرام، أو من هم في الطريق إلى أن يصبحوا كذلك، وترى أن غالبيتهم العظمى هم من العرب والأتراك، وقلة من الألمان والروس والفيتناميين، وغيرهم، وهو الفصل الذي سيأتي تناوله بالتفصيل. أما الفصل الخامس فتتناول فيه هايسينج الوضع في المدارس وفي الدوائر الحكومية المسؤولة عن متابعة الأطفال والأحداث، ودوائر الشرطة، وتضع الاقتراحات لتطوير إسهام المدارس في التقليل من جرائم الأحداث. وفي الفصل السادس تتناول تطبيق التوجيهات الصادرة من قضاة الأحداث، والإجراءات المتبعة لمساعدة الأحداث للتخلص من ممارسة العنف، من خلال دورات متخصصة، وتستعرض الخبرات المكتسبة في دول أخرى، مثل النرويج، وبريطانيا، وهولندا. وفي الفصل السابع تستعرض تصوراتها لشق طرق جديدة في التعامل مع أوضاع جرائم الأحداث، وهو ما أطلقت عليه اسم «نموذج نويكولن»، ثم تقدِّم توصياتها، وكلمة ختام.

إحصاءات مثيرة للقلق
في العام الماضي قامت شرطة العاصمة الألمانية برلين بإجراء تحريات عن 31861 مشتبهاً، أعمارهم أقل من 21 سنة، وشملت الاتهامات الموجهة إليهم السرقة والابتزاز والاعتداء البدني والتهديد والإضرار بالممتلكات، وكان غالبية المشتبه فيهم من الذكور، مع ملاحظة تزايد معدلات الجريمة بين الفتيات، والتي بلغت نسبة حصتهن فيها 27 في المئة من مجموع الجرائم، خاصة السرقة والاعتداء البدني، مصحوباً بالسب بألفاظ قبيحة. وتبيِّن تحقيقات الشرطة، أن تناول الخمر أو المخدرات يجعل من هؤلاء الكائنات الرقيقة وحوشاً كاسرة، لا تتورع عن استخدام العنف بفظاعة، إلا أن الفتيات يكن أمام المحكمة أســـــرع اســــــــــتعداداً للاعتراف بخطئـــهن، والالتزام بالإجراءات العقابية المفروضة عليهن.

أما بالنسبة للأحداث من أصل أجنبي، فتدل الإحصاءات على أنهم متخصصون في أعمال العنف، ورغم أن نسبتهم في الشعب الألماني منخفضة نسبياً فإنهم يرتكبون الاعتداءات البدنية بمعدلات تفوق الضعفين مقارنة مع نظرائهم الألمان، وبمعدل 170 في المئة في جرائم الشوارع، وبنسبة 230 في المئة في الاعتداءات البدنية الخطرة، وبنسبة 240 في المئة في السرقة في الشوارع، وثلاثة أضعاف نسبة الألمان في استخدام المواصلات بدون شراء تذكرة. وتوصلت القاضية بناءً على بيانات الشرطة إلى أن هناك 550 شخصاً من المجرمين الخطرين في الحي الخاضع لمحكمتها، تراوح أعمار ثلاثة أرباعهم بين 14 و21 سنة، كان مجموع الجرائم التي ارتكبوها وحدهم 7000 جريمة.

وتقول هايسينج إن 71 في المائة من المجرمين الخطرين، أي الذين يرتكبون عشر جرائم أو أكثر في السنة، هم من الأجانب، وفي حي نويكولن، ترتفع هذه النسبة إلى 90 في المائة. وتوصل خبراء الجريمة إلى قاعدة هي: «كلما زادت خطورة الجريمة، زادت نسبة الأجانب وأبنائهم».

الجالية العربية تحت المجهر
تعيد القاضية إلى الأذهان ما كتبته الصحافية التركية جونر بالشي في كتابها «أراب بوي» الذي نشرته في العام الماضي، والذي يحكي قصة شاب من أصل لبناني، يرتكب مع رفاقه العرب أفظع الجرائم. فتقول القاضية إن القضايا التي حكمت فيها في محكمة الأحداث تفوق ذلك بمراحل! وتلفت القاضية الألمانية إلى أن الكثير من الأسر التي تزعم أنها عربية ليست كذلك على الإطلاق، إذ إن معظمها ينتمي إلى أقليات عرقية كانت تعيش في لبنان أو في بعض البلدان الأخرى، وجاءت إلى ألمانيا، حيث زعمت أنها عائلات فلسطينية لا وطن لها، وبالتالي لا يمكن ترحيلها. فتضطر الحكومة الألمانية إلى منحها حق الإقامة المؤقتة، لكن دون حق العمل.

وليست الإحصاءات المخيفة التي توردها القاضية حول نسبة المخالفات والجرائم التي ترتكبها الجالية «العربية» في برلين مقارنة بنسب ما يرتكبه غيرها كالجالية التركية مثلاً، هو ما يثير القلق. بل أيضاً غوص القاضية في نقد صارم للأسباب الاجتماعية وتداعي القيم الأسرية والتربوية التي تُعد من وجهة نظرها مسؤولة عن جرائم الأحداث. وصرامتها في هذا النقد هي التي دفعت الكثيرين، حتى من كبار السياسيين الألمان إلى وصف موقفها وآرائها بالعنصرية وتصنيفها كشخص معادٍ للعرب والمسلمين.

انطباعات شخصية
صحيح أن الكتاب يرسم صورة قاتمة، وأن من سيقرأه من الألمان سيزداد عداءً للعرب والمسلمين في ألمانيا، خاصة وأن القضاة يحظون بمصداقية عالية، لأنه معروف عنهم النزاهة والموضوعية، علاوة على أن المؤلفة تعتمد في كتابها على إحصاءات وأرقام من السلطات المعنية، والتي لا مصلحة لها في الإساءة للعرب والمسلمين، فما العمل؟

إن الكتاب لا يدق ناقوس الخطر للمجتمع الألماني فحسب، بل ينبغي على الجالية المسلمة والعربية أن تدقق النظر فيما ورد فيه، فإما أن يكون خطأ، وعندها لا بد من الرد عليه، من دون انفعالات واتهامات، بل بموضوعية، وبإحصاءات تدلل على ذلك، أو يكون ما ورد فيه صواباً، وهذه ستكون كارثة، لأنها تعني أننا ارتضينا أن تقوم جماعة منا بتشويه الصورة، ونحن لا نضرب على أيديهم.

عموماً الكتاب الجديد الذي نزل هذه الأيام، والذي من المتوقع أن يزيح كتاب هايسينج عن قمة الكتب الأكثر مبيعاً، هو كتاب وزير المالية الأسبق في ولاية برلين، وعضو مجلس إدارة البنك المركزي الألماني، تيلو زاراتسين، بعنوان: «ألمانيا تقضي على نفسها»، والذي يتصف بعداء شديد للعرب والمسلمين المهاجرين إلى ألمانيا.

نقد الكتب لا يكفي
إن الانتقادات من قمة الدولة الألمانية وكافة الأحزاب لهذه المقولات الاستفزازية في مثل هذه الكتب، لن تفيد كثيراً، إذا كان الرأي العام الألماني يقبل على قراءتها، لأنها تزيد مخاوفه من المسلمين، خاصة عندما يكون واقع الجالية العربية المسلمة، يدور في غالبية الأحيان في دوائر المساعدات الاجتماعية، بدلاً من قاعات البحث، والمؤسسات الاقتصادية والصناعية.

فإذا لم يفكِّر المسلمون في ألمانيا في كيفية إعادة صياغة علاقتهم مع المجتمع الذي يستضيفهم أو يحملون جنسيته، فإن عزلتهم ستزداد، وستتزايد حملات اليمينيين المتطرفين ضدهم، وسيختار الناخبون سياسيين يتبنون هذه المخاوف من أقلية ترفض مشاركة المجتمع في احتفالاته، وتعيش في أحياء مستقلة، في مجتمعات موازية، لا تتذكر القوانين إلا عندما تكفل لها تحقيق مصالحها، وشيئاً فشيئاً يقف الغرب أمام أحد خيارين، إما أن يقبل بدولة داخل دولة، أو يطالب هؤلاء الضيوف بأن يرحلوا من حيث جاءوا.

مهما كانت مرارة هذه الكلمات، فإنها ضرورية لأن نبدأ أخيراً في نقد الذات، بدلاً من الإشارة بأصابع الاتهام دوماً للآخرين، الذين أصبح بعضهم يصرح بأنه قد حان وقت «نهاية الصبر»، كما فعلت هايسينج قبل انتحارها، الذي قد يكون له دلالات أكثر من مجرد مشكلات عائلية.

أضف تعليق

التعليقات