اطلب العلم

أبنية صديقة .. للعقل

في الخمسينيات، كان الطبيب والباحث الأمريكي جوناس سالك يعمل على اكتشاف علاج لمرض شلل الأطفال، في معمل مظلم يشغل قبواً في بناية بمدينة بيتسبرج. وكان العمل صعباً، والتقدم فيه بطيئاً، لذلك قرر سالك أن يسافر لتصفية ذهنه، وقصد بلدة أسيزي الإيطالية. وهناك، أقام في مبنى قديم من طراز القرن الثالث عشر، حيث كان يقضي وقته في التجوال بين أعمدته وساحاته الفسيحة. وفجأة، وجد سالك أن عقله قد انفتح على رؤى وأفكار جديدة، كان من ضمنها تلك التي قادته إلى اكتشاف لقاحه الناجح ضد مرض شلل الأطفال.

توقف سالك كثيراً بعد نجاحه، عند التأثير الكبير الذي أحدثه تواجده في تلك البيئة الجديدة، في قدرته على التفكير والابتكار. ولأنه لمس بنفسه كيف يمكن أن يؤثر المكان وخصائصه المعمارية على الأداء العقلي، فقد قرر التعاون مع المهندس المعماري لويس كان، لبناء معهد سالك بولاية كاليفورنيا الأمريكية، ليكون أول معهد للعلوم يصمم بغرض تحفيز التفكير والابتكار، وإحداث قفزات معرفية.

واليوم، تلقي الأبحاث العلمية مزيداً من الضوء والتوضيح، على الاستنتاجات التي تربط بين الأداء العقلي للإنسان والخصائص المعمارية لبيئته. ففي العام 2007م قامت جون مايرز الباحثة بجامعة مينيسوتا الأمريكية بدراسة، أوضحت نتائجها كيف أن ارتفاع سقف الغرف يؤثر كثيراً على طريقة تفكير من يشغلونها. ففي الغرف ذات السقوف المنخفضة، يميل الأشخاص إلى التركيز على التفاصيل الدقيقة. أما في الغرف التي يبلغ ارتفاع سقفها حوالي 3 أمتار، فيبدأ الأشخاص في التفكير بصورة أكثر تجريدية، وفي تكوين علاقات جديدة غير تقليدية بين المعطيات العقلية التي تقدَّم لهم.

«الأمر يتوقف على طبيعة المهمة».. هذا ما تستخلصه مايرز من نتائج تجربتها. فأحياناً تحتاج المهام التي نقوم بها إلى مزيد من التركيز على التفاصيل، ولهذا يمكن أن يمثل السقف المنخفض ميزة مهمة في غرفة العمليات. بينما يزيد المرسم ذو السقف المرتفع، من قدرة الرسام على استحضار أفكار جديدة، وإنتاج لوحاته بمزيد من السهولة والانسيابية في التفكير .

وإلى جانب ارتفاع السقف، فإن المنظر الذي توفره الغرفة من نوافذها يؤثر أيضاً على الأداء العقلي. وعلى الرغم من أن النظر عبر النافذة، مرتبط في بالنا بالتشتت، إلا أن الأبحاث تؤكد أن الإطلال على حديقة أو مساحة خضراء، يرفع القدرة على التركيز. ففي دراسة أجراها كينيث تانر الباحث بجامعة جورجيا الأمريكية، اتضح أن الطلبة الذين تطل فصولهم على مساحات مفتوحة من عناصر طبيعية، يحققون نتائج أعلى في اختبارات اللغة والرياضيات، من رفقائهم الذين تطل فصولهم على المباني والطرق وساحات انتظار السيارات، وغيرها من عناصر الحياة في المدن.

ولخواص البناء من الداخل، الكثير من التأثير أيضاً. فهناك أبنية وغرف تساعد محتوياتها على الاسترخاء والراحة، بينما تثير أخرى مشاعر التوتر والقلق. فقد قام موش بار الباحث بكلية الطب بجامعة ستانفورد الأمريكية بدراسة لمراقبة وتسجيل نشاط المخ لمتطوعين، أثناء استعراضهم لمجموعتين من الصور الفوتوغرافية لبعض الأدوات العادية التي نتعامل معها في حياتنا اليومية، والتي تملأ مساحات المباني والغرف من حولنا. وكانت المجموعتان متماثلتين ماعدا في شيء واحد. إذ كان نصف الأشياء في الصور لها حواف حادة، والنصف الآخر لها حواف مقوسة.

ولاحظ بار ارتفاع نشاط منطقة محددة بالمخ، أثناء التعرض لصور الأشياء ذات الحواف الحادة. وهي المنطقة الخاصة بالتعامل مع الخوف، وحالة الاستنفار التي يطلقها المخ حين التعرض لما يثير القلق والاضطراب. ويعزو الباحثون الأمر إلى وجود رد فعل بدائي محفور في طبقات المخ، يربط بين الأشكال الحادة والتعرض للخطر.

يجتهد الباحثون لجمع نتائج الدراسات في هذا المجال، والوصول بها إلى استنتاجات عامة وتوصيات، حول الطريقة المثلى لتصميم الأبنية المختلفة .. الشركات، والمكاتب، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والمنازل أيضاً. ولنا أن نتخيل من الآن، كيف يمكن أن تؤثر مراعاة ذلك الأمر على قدرتنا على الإنجاز والعمل والتعلم. وعلى استمتاعنا بأوقات الاسترخاء والراحة.

أضف تعليق

التعليقات