ديوان اليوم

عبدالله الفيفي يقرأ
درويش

يستضيف ديوان الأمس ديوان اليوم في هذا العدد الدكتور 
عبدالله أحمد الفَيفي، الأستاذ في جامعة الملك سعود ورئيس لجنة الشؤون الثقافية والإعلامية في مجلس الشورى السعودي، الذي يقرأ لنا مختارات للشاعر محمود درويش ويقارن ما بين مضمونها وقالبها الفني، وأثر الواحد على الآخر فيها.
عاد محمود درويش في كتاب يوميّاته الذي نُشر بعنوان «أثر الفراشة»، (بيروت: دار رياض الريس، 2008)، إلى الشِّعر البيتيّ في عددٍ من النصوص. عاد إلى القصيدة العربيّة الموزونة المقفّاة بعد طول هجر. لكن، للحقّ، بدت قصائده البيتية دون التوهج الدرويشي مقارنة بقصائده التفعيليَّة! إذ يبدو أن القصيدة البيتية ليست وزناً وقافية فقط/ ليست نظماً. ولعل هذا التصوّر التبسيطي هو ما أغرى الناظمين بهذا الشكل من البناء، وأجفل الحداثيّين عنه.

القصيدة البيتية بركانٌ من التوتّر اللغوي والإيقاعي والدلالي في آن. لذلك كان يطربنا الجواهري بقصائده المتوافرة على تلك الطاقة الشعرية الساحرة، الغامضة، التي لا يُحس نبضها أي قارئ ولا كل ناقد، ما لم يكن مرهف الإصغاء لأصوات اللغة في موروثها الموغل في ذاكرته. إذ تمنح القصيدة من معدن ذلك الغامض الفاتن، الذي لا يملك المحلّل دائماً كشف جميع أسراره. إنها نوع من العموديّة التي تحدّث عنها القدماء، كأبي علي المرزوقي، لا باتّباع سنن القصيدة الجاهليّة بالضرورة كما كانت العموديّة القديمة، ولكن بإكساب النصّ ظِلاله الإشاريّة والأسطوريّة، التي تحمل المخيّلة إلى عالمها الجمعيّ، ذي الملامح الخاصّة المائزة، التي لا تشبه سحنة شِعرٍ آخر لشعب آخر. وبذاك تحافظ على سماتٍ فارقة، تجعل القارئ يدرك أن هذا شِعرٌ عربيّ، لا إنجليزي أو فرنسي أو روسي، لا للغته أو لعَروضه فقط. تحافظ على الاختلاف الذي يُحَسّ ولا يُجسّ، ويُتذوّق وإن لم يُفسّر؛ مع الاختلاف الذي لا يُذيب الشاعريّة العربيّة في شاعريّات أُمم أخرى.

تلك الخصائص تحتاج إلى حفرٍ أعمق وأوسع، ليس هذا بمجاله، لكن المسلّمة الأُولى التي يكشفها شِعر درويش أن الشاعريّة العربيّة لا تقتصر علاماتها الفارقة على العَروض أو على اللغة. نقرأ في الدرويشيّات الأخيرة، من البحر الوافر، بعنوان «على قلبي مشيت»، (أثر الفراشة، 87 – 88):
على قلبي مشيتُ، كأن قلبي
طريقٌ، أو رصيفٌ أو هواءُ
فقال القلبُ: أتعبَني التماهي
مع الأشياء، وانكسر الفضاءُ
وأتعبَني سؤالكَ: أين نمضي
ولا أرضٌ هناك… ولا سماءُ
وأنت تطيعني… مُرني بشيءٍ
وصوِّبني لأفعل ما تشــاءُ
فقلتُ له: نسيتُكَ مذ مشينا
وأنت تعِلَّتي، وأنا الـنـداءُ
تمرَّد ما استطعت عليَّ، واركضْ
فليــس وراءنا إلاّ الوراءُ

ربما تلفتنا في نصٍّ قصير كهذا كلمات، قد لا تكون مألوفة لدى درويش، كـ«مُرْني»، «تعِلَّتي». ما يشير إلى أن القصيدة البيتيّة تستدعي معجماً خاصاً يطاوع الوزن والقافية، وإنْ كان هذا يخضع في نهاية المطاف لمهارة الشاعر. فنحن نعرف مثلاً أن شاعراً كنزار قبّاني- وعندي أن شاعريّته إجمالاً قد تكون في بعض جوانبها أعظم من شاعريّة درويش، لولا أنه استمرأ التصفيق، وأغراه خفق المعجبين والمعجبات، ولأسباب لا شعريّة بالضرورة، فأمعن أحيانًا في المباشرة والنثريّة- قد استطاع أن يطوّع القوالب العَروضيّة العربيّة لكلّ أنفاس اللغة المعاصر، بل اليوميّة، لتأتي القصيدة لديه في ثوبٍ عربيٍّ أصيل حداثي معاصر.

ولدرويش في تلك المجموعة نصوص من البحر البسيط، كقصيدته «في صحبة الأشياء»، (م.ن، 115):
كُنّا ضيوفًا على الأشياء، أكثرها
أقلّ منّا حنينًا حين نهجُرُها

أو قوله من «ربيع سريع»، (م.ن، 127):
مَرَّ الربيعُ سريعًا مثل خاطرةٍ
طارت من البال- قال الشاعرُ القلِقُ

وكذلك يفعل في نصّه بعنوان «مناصفة»: (ص 231)، وغيره. بطبيعة الحال لم يكتب درويش قصائده تناظريّةً هكذا، كأبيات الشِّعر العربي، بل فرّق دماءها بين الأسطر، بطريقة تُوْهِم الناظر أنها قصائد تفعيلة. ألأن الشاعر يستنكف أن يظهر- بعد مشواره التحديثي الطويل، الذي أصدر فيه مجموعات كاملة بعضها على تفعيلة يتيمة، ولاسيما «فاعلن»- قد عاد إلى قواعده سالماً، وإن ببضعة نصوصٍ قصيرة جداً؟ درويش نحسبه شاعراً كبيراً، على كلّ حال، ولم يكُ في حاجة إلى التواري خلف الأشكال الفنية، أو الهرب من مثالب قبيلتين على حدّين متطرّفين من مزاعم التقليديّة والحداثيّة، بناءً على معايير شكلانية سطحية.

بل لقد خاض درويش في مجموعته تلك شيئاً من التجريب في البحور الشعريّة العربيّة، وذلك كأن يضيف على وزن البسيط تفعيلتين (مستفعلن/ فاعلن)، ليصبح البيت على عشر تفعيلات لا ثماني تفعيلات، كما في قوله، من نصّه بعنوان «عالٍ هو الجبل»، (ص 198):
يمشي على الغيم في أحلامه، ويَرَى
ما لا يُرَى. ويظنُّ الغيم يابسةً…
عالٍ هو الجَبَلُ

وقد مضى على هذا النظام في أربعة مقاطع، بحيث يمدّ نهاية تفعيلات البسيط بتفعيلتين تحملان القافية في نهايتهما. وهو كسرٌ للقالب التقليدي، جاء جميلاً، في ذائقتي، وإن كان قد أخلّ بتوازن الشطرَين، لو قُسم المقطع إلى شطرين في كل شطر خمس تفعيلات، وذلك من حيث تراتب التفعيلات، حيث كان الشطر الأول على (مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن/ فَعِلن/ مستفعلن)، والثاني: (فَعِلُن/ مستفعلن/ فَعِلُن/ مستفعلن/ فَعِلُن). إلاّ إنْ نَظَرنا إلى الشطر الثاني بصفته مقلوب الشطر الأول من حيث ترتيب التفعيلات. وفي هذا تصرّف جيّد، يحاكي مراودات الموشح الأندلسي لتجديد الموسيقى الشِّعريّة العربيّة في نطاقها، وإن كان من الموشّح ما خرج إلى آفاق مختلفة لا حصر لها، كما بيّن (ابن سناء الملك) في كتابه «دار الطراز».

وتأتي قيمة تلك الأوبة الدرويشيّة إلى العَروض العربي من أنها تعبِّر عن عدم القطيعة مع الشِّعر العربي في قوالبه الأصيلة، كما يحلو لبعض شُداة الحداثة، بلا حداثة، أن يَهِمُوا. كما أنها تدلّ على وعيٍ بإمكانيّة تحديث التراث من خلاله، لا من خارجه، وأن في الإمكان تفجير أشكال لا نهائيّة من «عرابسك» الموسيقى الشعريّة العروضيّة، عِوَض القفز عليها جملة وتفصيلاً لاستبدال الشِّعر بخواطر نثريّة- «مصرّحة وغير مصرّحة»- تسمّى شِعرًا؛ لا لشيء سوى أن الجميع يريدون أن يسمّوا شعراء، ولتذهب القواعد النوعيّة لجنس الشِّعر في مهبّ «الشعرنة»، مثلما أن طائفة مقابلة تريد أن تُكتب جميعًا في زمرة الروائيّين، ولتذهب القواعد النوعيّة للجنس الروائي في مهبّ ادعاء الرواية.

سماءٌ من عبير..!
شِعر: عبدالله أحمد الفَيفي
-أ-

ما الذي أبقيتِهِ منكِ ومنّي،
غيرَ ذكرى العِطرِ
تبنيكِ سماءً من رؤايْ؟!
****
آهِ، يا ليت سماءً تهطل الآن شذاها في عروقي
تشعلُ النبعَ المصفّى في أباريق بروقي،
ترتوي منكِ دهاقاً،
لحظةً، يا لحظةً واحدة فيكِ بدنيايَ،
وفيها: منك تمتدّ حياتي في حريقي!
أنتِ يا من قد تصفّى من بقايايَ بقايا من سماوات عروقِكْ!
****
ليت، يا ليت بقلبي غير قلبي!
منه أمضَى، ينتضيني منكِ،
يجتذّ من الماضي المواضي/ الحاضرات/ اللاعجِات الآن فيهِ،
ترتوي منها شراييني بزيتٍ من قناديل شروقِكْ!
****
ليتني أدري بترتيب المعاني في المباني،
كي أغنّي، بترانيم الأحاسيس العذارَى، البابليّات إذا تزهو ببابي،
كي أعيش العمرَ فنّي!
ليت أنّي..
ألتقيني فيّ/ فيكِ، عَوْسَجًا أو مَرْدَقُوْشا!
أنتقي ما في سحاب الصيف، إذ يطوي محيّاكِ إلى ساحات روحي،
أو إلى غيريَ تطويكِ انتقاءاتُ صروفكْ!
****
ما عرفتُ الحبّ رَفّةْ!
إنما الحبّ بقاموسي طيورٌ مبحراتٌ من مصيرٍ في مصيرْ!
سابحات في السديم الأوّل الغضّ الغزيرْ!
فهَبِيْ أن الهوى كان خيالاً، أو مُحالاً، أو خبالاً، أو خطيرْ
فلماذا تكسر الشمسُ سناها؟
تأكل الأُمّ ضناها؟
تُقفل الطيرُ صباحاً لَجّ في الأفق الكبيرْ؟!
****
«لم يكن حُبًّا»، (تقولينَ)؟
أما كان وراء الحُبّ إلاّ منكرٌ يدعو نكيرْ؟!
ولماذا حبّنا الشرقيّ سيفٌ مُشْرِقُ الغُرّة ما بين التراقي والثغورْ؟!
راحل ما بين حاء «الحُـ../..بّ» والباءِ،
فإمّا… أو فكلاّ… لا يصيرْ؟!
…………………
ما الذي أبقيتِهِ منّي ومنكِ غير ذكرَى،
محض ذكرى من عبيرْ؟!

-ب-

أقفلِ القلب وغادِرْ!
إن هذا الحُبَّ غادِرْ!
لا تُبيحنّ لريح العشق باباً، أيّها القلبُ،
تَعِشْ حُرّاً كريماً، أو فعِشْ عبداً أسيرْ!
****
قال قلبي:
أتُرَى، إنْ لم يكن عشقٌ بقلبي، كيف أمحو دفتر الذكرى؟
وأمحو من حياتي لثغةَ الروحين صبحاً وعشيّا؟
كيف أُلغي من تراثي كلمةً تعني «صداقةْ»؟
لم أعد أسطيع تغييري من الداخل، كي أغدو جداراً، أو رصيفاً، أو أداوي منطقيّات الحماقةْ!
فحصاد العمر شِعرٌ، وفصول الروح نهرٌ من شعورْ
وعلى مثليَ، هذي الأنفس الـ تختال ما بين المرايا،
من يمين الوقتِ لليُسرى تغنّي وتدورْ
جدّ صعبٌ فهمها، مهما يحاكيها خيالي، وعسيرٌ وصفها جدًّا عسيرْ!
****
لم تعد ثم حكايةْ
إنما كل الحكايةْ:
أن قلباً واحداً، كان يراه واحداً، نصفٌ تخلّى فجأةً، من دون إنذارٍ، وراحْ
ليته عاد كما كان، لطفلين سياميّينِ،
كانا بقيا قيد انفصال واتصّالٍ، وهْو- إنْ عاش، وإنْ مات- استراحْ!
…………………
****
ما الذي تعنيه في مخيال هذا وردةٌ، أو كِلْمةٌ، أو أغنياتٌ من حريرْ؟
ما الذي يعنيه: أنْ يعشق/ أنْ يُحرقَ/ أنْ يَذكرَ/ أنْ يُنكرَ/ أنْ يكتبَ/ أنْ يكذبَ؟
لا شيء! فغاباتٌ من الشهوات تعني عنده المعنى،
وتبقَى، رغم آلاف الدوالي، عنده: المعنى الأخيرْ!
****
فاذهبي، عشتارُ،
إنّي أنا كلكامشُ، أحمي عشبَ أوروك من العشقِ،
ومن ثور السماءِ المستثار المستثيرْ!
وعِدي غيري بأنفاسكِ، ليلاً، قد عرفتُ الآن جهلي،
وكشفتُ الشمسَ للسارينَ في القلبِ الضريرْ!

أضف تعليق

التعليقات