قصة عم محمد الفوَّال كقصة الكثيرين ممن لم يعتادوا تسليط الضوء عليهم. يعملون في المهن البسيطة ولكن بجد وإخلاص وتفانٍ لتوفير الحياة الكريمة لأسرهم التي قد لا يرونها سوى أيام قليلة كل عام أو أكثر. ومع حلول شهر رمضان المبارك، الذي ينشط فيه الفوَّالون أيضاً, تعرِّفنا
بسمة محمد على شخصية عم محمد، آملة أن نرى من خلاله الكثيرين ممن لم ينالوا منَّا الاهتمام الذي يستحقون.
في البداية، لم يرغب عم محمد في إجراء الحديث معنا, قال إنه لم يجرِ لقاءً من قبل ولا يعرف ماذا يقول. ولكن بعد إلحاح وافق بتحفظ شديد بدأ يتلاشى تدرجاً بتقدم الحديث.
في شمير بتعز، إحدى محافظات اليمن، وفي عام 1950م, ولد محمد لأسرة مكونة من الوالدين وثلاثة أبناء. كان والده بائعاً في بقالة, أما إخوته فقد تخرج أحدهم في الجامعة ويعمل الآخر بائعاً في محل أحذية بباب مكة. أما محمد فقد دخل عالم المطاعم منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره, بعدما درس الابتدائية في اليمن وأكملها في السعودية لانتقال أسرته للعيش بها.
تزوج عم محمد في الثامنة عشرة, ولديه الآن أربع بنات وولد واحد، يتحدث عنهم بفخر قائلاً: الكبرى في الثانية والعشرين وهي ذكية ولكنها توقفت عن إتمام دراستها. أما الثانية فتنوي دخول الجامعة وهي متفوقة ودوماً يكون ترتيبها ضمن العشر الأوائل. وذكية جداً أيضاً, والبقية ما زالوا يدرسون بمدارس شمير بمحافظة تعز.. . يزورهم والدهم كل عامين شهراً أو شهرين ثم يعود. وهو يفكر في إحضارهم ليعيشوا معه في جدة.
بداية مبكرة..
قضى عم محمد 35 عاماً فوَّالاً بدأها مباشراً في مطعم. ثم تحوَّل إلى مساعد خبَّاز وفوَّال حتى يكتسب الخبرة اللازمة التي تؤهله لأن يصبح معلم فول وتميس.
في البداية كانت مهنة الفوالة هواية, ولأنها كانت ذات ساعات عمل محدودة مقارنة بالأعمال الأخرى كالبيع في متاجر البقالة أو العمل في المطاعم الأخرى، فإنها جذبت محمد إليها. ثم تطورت الهواية لدى عم محمد, فبدأ بتحسين صناعته الفول والتميس لينتج الأفضل والأحسن. وهكذا إلى أن أصبح الناس يقصدون محله لجودة الفول الذي يصنعه..
يعمل عم محمد الآن في محل للفول يقع في أحد المجمعات التجارية الشهيرة بمدينة جدة. قدم إلى هذا المحل قبل عامين تقريباً خبَّازاً للتميس, مع وجود فوَّال آخر يدعى علي أحمد صالح. كانت خبرة عم علي تصل إلى 40 سنة أو أكثر، لذا كان عم محمد يساعده في حمل القدور وفي صنع السلطة. وكانا يتحدثان عن الفول وعن أسرار صناعته وعم محمد يسمع منه ويسجِّل كل ما يسمعه في ذاكرته.
كان المحل تابعاً لمحل فول معروف بالهنداوية. وبعد ثمانية أشهر تقريباً تغيَّر صاحب المحل كما تغيَّر اسمه, وغادر عم علي المحل ليصبح محمد وحيداً, يخبز التميس ويصنع الفول, وهنا بدأ في تطبيق كل ما تعلمه من الحاج علي. يجب ألا يغتر الإنسان بنفسه ولا يكتفي بما يعرفه. بل يأخذ من غيره ويضع لمسته من خلال التطوير والتحسين المطلوب ليصبح العمل أجود من السابق .
وفعلاً فقد بقيت جودة العمل كما هي بعد مغادرة عم علي، بدليل قول الزبائن لعم محمد: سلمت يداك ولكن لم غيرتم الاسم؟؟ .
ذهبت وانتهت…
أول مرة عمل بها عم محمد معلم فول كانت في الثمانينيات الميلادية، بسوق اليمنى ناحية برحة الجيلاني قبل أن يبنى الجسر, وكان في السابعة والعشرين من عمره آنذاك.
وتنقل من باب مكة إلى سوق اليمنى إلى الرويس إلى شارع الميناء وهكذا حيثما وجد معاشاً أعلى. يقول بعزم بعد إلحاحي عليه لمعرفة التفاصيل: تلك الأيام راحت, وأنا الآن لا أتذكرها. ولو ذهبت بنفسي إلى هناك فلن أعرفها, فقد هدمت محلات وشقت طرق وبنيت جسور. ذهبت كلها!! ذهبت وانتهت, لا أفكر بها ولا أريد أن أتذكرها, والحمد لله فمن الطبيعي أن يمر الإنسان في عسر وفي يسر, وقد يلتقى مصاعب وما يسره وينسيه الهموم. والآن أنا مرتاح في عملي ولا أفكر في الماضي .
حاول.. وستنجح
الملاحظ في عم محمد هو محاولته الدائمة في البحث عن طرق جديدة لتطوير العمل وتوفير الوقت والجهد إضافة إلى رفع مستوى الجودة. حاول.. ولكن بغير طريقة شعار عم محمد الذي يؤمن به ويتبعه في عمله. ففي يوم ما قرر البحث عن طريقة أسرع لينضج الفول في ساعة بدلاً من ثلاث ساعات أو أربع. غطى جرة الفول بطبقتين من القصدير, وضع غطاء الجرة ثم طوبتين. بعد مدة من وضعها على النار لم يتحمل هذا الغطاء الضغط فانفجر القدر وتطاير الفول في أرجاء المحل. يقول بانفعال هذا موقف صعب جداً ومخيف, ولو كنت جالساً بجوار الجرة لاحترقت, ولكن ربنا لطف . ولكن عم محمد أصر على تطبيق فكرته، وهي زيادة الضغط لتقليل مدة الطهو. ولم يجد بداً من التجربة مرة أخرى. فأحكم لف القصدير على الفوهة, وأحضر غطاءً حديدياً ثقيلاً وضعه على الفوهة, ثم أربع طوبات. فنجحت التجربة، التي لا يزال يستخدمها حتى الآن، وهو مرتااااااح .
خطوة مهمة…
عمله في المركز التجاري خطوة مهمة في حياته. فهو يعد كل الأماكن التي عمل بها متعبة بسبب شدة الحر. أما الآن فالتكييف المركزي يلطف الجو. فتراه يتحدث برضا قائلاً: إذا أحسست بالتعب وأردت أن أستريح, أجد الجو البارد فأستمر في العمل وكأني لم أعمل. أما في الخارج فمهما حاولت أن أرتاح أبقى متعباً بسبب الحر .
أما من ناحية الفول فيقول بثقة: هنا أطبخ فولاً ممتازاً غير الفول الذي يطبخ في الخارج. أنا فوَّال, أعرف الفول وآكل فول. لكن فول عن فول يختلف، ومعلم عن معلم أيضاً يختلف . وكل هذا بشهادة الزبائن. الفول ده ما تلاقيه برّا , ويعقِّب قائلاً: هذا المكان على مستوى، لذا يجب أن يكون الفول مميزاً أيضاً. وأحب عندما يراني المعلم أن يشكرني. وفعلاً، عندما يأتي إلى هنا لتناول الفول يقول لي: مية مية .
وكمعظم المراكز التجارية الكبيرة, يوجد بجوار عم محمد عدد هائل من مطاعم الوجبات السريعة, ولكن عشاق الفول لا يجدون له منافساً. وقد تضحك عندما تسمع عم محمد يقول: الزبون فاهم الفول, لا يستعجل بل يقول آكل فول أحسن من الهمبرجة والبمبرجة والمسحب والمكعب . فتجد عشاق الفول يقفون مصطفين كل بانتظار دوره خاصة في شهر رمضان الذي يعد موسم الفوالين, إذ يصبح الفول من الأطعمة في وجبة الإفطار. وبعد العصر لا يجد عم محمد الوقت لالتقاط نفسه حتى يؤذن المؤذن المغرب.
المهنة غالية
وذات يوم أراد شخص استئجار المحل. فطلب من عم محمد تعليم صبي مهنته, فرفض عم محمد وقال: أنا لا أعطي مهنتي لأحد. وقال الرجل: سأزيد راتبك. فأجابه: مهنتي لا أعطيها لأحد, وأنا الأولى بالمحل, مهنتي بيدي، وأنا الأقدم، فلم تستأجر أنت وأعمل أنا لديك عاملاً؟ ثم يحدثنا قائلاً: سر المهنة مصدر رزق, وليست لعبة. هذه مهنة والمهنة غالية, مستحيل أن أعطي أي شخص هذا السر وهذه الخبرة إلا لابني .
يعمل عم محمد من التاسعة صباحاً حتى يغلق المركز أبوابه, أما إن كان لديه تجهيز أو عجن فيستمر بالعمل حتى صلاة الفجر, التي يؤديها أحياناً في مسجد المركز، ثم يرتاح حتى موعد العمل عند التاسعة صباحاً.
لم يندم عم محمد يوماً على اختياره الفوالة مهنة. فهو لا يتطلع إلى الوظيفة, والمهم عنده هو أنه متعلم يستطيع الكتابة وقراءة القرآن والحساب. وهذا يكفي في نظره. لديه طموحات وآمال كبيرة ولكن لم يأت موعدها بعد, وآخر كلمة قالها كانت: المستقبل يبشِّر بخير، إن شاء الله.