من مواليد مدينة الخبر عام 1979م. درس هندسة النظم الصناعية، ولكن خلف الهندسة تختبئ موهبة شعرية يكاد صاحبها أن يعتم عليها تواضعاً، وربما ضناً بها إلا على مستحقي الاطلاع عليها، جرياً على عادة كل المجيدين الجيدين. فكان يكتفي بنشر كتاباته في مواقع متخصصة على شبكة الإنترنت، علماً بأنه أقام عدداً من الأمسيات الشعرية في المملكة وخارجها. واقتناعاً من القافلة بوجوب اطلاع أكبر عدد ممكن من القرَّاء على ذائقة عبدالرحمن ثامر وموهبته الشعرية، كانت دعوتها إليه لكتابة هذا الباب.
الشعر أرواح اجتمعت في حرف
هو كما قال جبران: «إنما الشعر كثيرٌ من الفرح والألم والدهشة مع قليلٍ من القاموس», وهو كما لم يقله جبران. الشعر نبضٌ يُحسُّ ولا يوصف, الشعر أرواحٌ وأرواحٌ وأرواحٌ اجتمعت في حرف, والشعر نوعان، رغم كل شيء, الشعر عزفٌ ونزف, عزفُ قلبٍ يطربُ وعينٍ تُعجَب ونزف روحٍ مجروحةٍ وحياة مقهورة.
الشعر الحقيقي تهتز له الخلايا وترتجف له العين وترتعش له الكف, وكما قيل:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس حريًا أن يقال له شعرُ
الشعر مسيرة الروح على الأرض وكتاب القلب المفتوح من أول حرفٍ إلى نقطة نهاية سطر الحياة.
****
امتدت روح الشعر فكان أحمد بن الحسين, كان أبو الطيب المتنبي شاعر العربية وفارسها الأول, هو المثال الأول والأوضح والأعلى للشعر وروحه. وقد كان يسبح في كل ما تلمحه عيناه وتتخيله روحه, وقد تجلَّى وتجلَّى حينما اجتمع الرثاء والحب والوفاء والصداقة في حرف واحد, في حرفه المرسل من الكوفة مع حمامة الصدق إلى سيف الدولة ولأجل خولة الراحلة عنهم جميعاً:
يا أُخْتَ خَيرِ أخٍ يا بِنْتَ خَيرِ أبِ
كِنَايَةً بهِمَا عَنْ أشرَفِ النّسَبِ
أُجِلُّ قَدْرَكِ أنْ تُسْمَيْ مُؤبَّنَةً
وَمَنْ يَصِفْكِ فَقد سَمّاكِ للعَرَبِ
لا يَمْلِكُ الطّرِبُ المَحزُونُ مَنطِقَه
وَدَمْعَهُ وَهُمَا في قَبضَةِ الطّرَبِ
ولأنه أراد غير ما سمع فقد فزع آملا إلى الكذب, ولما لم يجد مساحة غير التصديق شرق بالدمع وشرق الدمع به:
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً
شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
ويلتهب فؤاده ويطول الليل عليه أكثر من غيره, ويقول محمود شاكر عند هذا النبض: «فليس يطول الليل على شاعر من أجل أخت أميره, وإنما يطول من أجل حبيبته التي فاته بها الموت»:
أرَى العرَاقَ طوِيلَ اللّيْلِ مُذ نُعِيَتْ
فكَيفَ لَيلُ فتى الفِتيانِ في حَلَبِ
يَظُنّ أنّ فُؤادي غَيرُ مُلْتَهِبٍ
وَأنّ دَمْعَ جُفُوني غَيرُ مُنسكِبِ
ويأبى الشعر إلا أن يجري على لسان أبي الطيب وأن يجعل فيه أسباب كل شيء, أسباب الحب والحزن والحياة والموت والوفاء:
وَلا ذكَرْتُ جَميلاً مِنْ صَنائِعِهَا
إلاّ بَكَيْتُ وَلا وُدٌّ بلا سَبَبِ
قَد كانَ كلّ حِجابٍ دونَ رُؤيَتها
فَمَا قَنِعتِ لها يا أرْضُ بالحُجُبِ
وَلا رَأيْتِ عُيُونَ الإنْسِ تُدْرِكُها
فَهَلْ حَسَدْتِ عَلَيها أعينَ الشُّهبِ
****
وامتدت روح الشعر فكان الملك الفارس الشاعر المعتمد ابن عبَّاد ملك إشبيلية وكانت أميرة الحب والسيدة الكبرى ورفيقة الفرح والحزن اعتماد الرميكية. جمعهما الشعر وربطهما الحب ورافقهما الوفاء, فهما بيت شعر مكتمل حقيقة لا مجازاً, كان المعتمد الصدر وكانت اعتماد العجز, ففي لحظات تنزّهٍ مع صاحبه ووزيره الشاعر ابن عمَّار على ضفاف نهر قال المعتمد وهو مأخوذ بمشهد الماء:
حاكت الريح من الماء زرد
وطلب من ابن عمّار أن يكمل فتوقف ابن عمّار, والتفتت اعتماد من بين جوارٍ يملأن الماء عند النهر, التفتت التفاتة الربيع للدنيا مكملة البيت:
أي درعٍ لقتالٍ لو جمد
ليجدها وتجده على غير ميعاد ولتبدأ قصةً تشبه إلى حد الألم قصةَ الأندلس, ومن جميل ما قاله المعتمد في زوجته وقد جعل حروف (اعتماد) اسمها ابتداءً لأوائل الأبيات:
أغائبة الشخص عن ناظري
وحاضرة في صميم الفـؤاد
عليك السلام بقدر الــشجون
ودمع الشؤون وقدر السهاد
تملكت مني صعب المــــرام
وصادفت ودي سهل القيــاد
مرادي لقياك في كل حيــــن
فيا ليت أني أعطى مـــرادي
أقيمي على العهد ما بيننــــــــا
ولا تستحيلي لطول البعــــاد
دسست اسمك الحلو في طي شعري
وألَّفت فيه حروف اعتمـــــاد
وبعد أن دارت بهما الأيام ونُزع ملك إشبيلة من يده على يد ابن تاشفين, أُخذ المعتمد أسيراً إلى أغمات في المغرب ومعه رفيقة دربه اعتماد وبعض أهله, قضى سنين أسرٍ وقهرٍ طويلة, ورحل الملك الأسير عن الحياة بعد أن رحلت حبيبة قلبه قبله, وأمر أن تُكتب رائعته التي رثى بها نفسه على قبره ومنها:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي
حقا ظفرت بأشلاء ابن عبــاد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت
بالخصب إن أجدبوا بالريّ للصادي
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا
بالموت احمر بالضرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم
بالبدر في ظلم بالصدر في النادي
ولم أكن قبل ذاك اليوم أعلمه
أن الجبال تهادى فوق أعواد
ويكون الدهر شاهداً والدنيا ناظرة, وتتمثل الأيام في جسد الشاعر لسان الدين بن الخطيب حين ترك وراءه حدائق الأندلس وكل ما فيها يتغنى بموشحه:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلسِ
ليقف في أغمات المغرب على قبر المعتمد منشدًا:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات
رأيت ذلك من أولى المهمات
لم لا أزورك يا أندى الملوك يدا
ويا سراج الليالي المدلهمات
وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه
إلى حياتي لجادت فيه أبياتي
****
وامتدت روح الشعر فكان شاعر المهجر الأكبر إيليا
أبو ماضي, شاعراً غاص في النفس الإنسانية, بكى معها وشدا لها وأشار بيده إلى منظر الشروق كي تنظر معه. يصف إيليا صاحب الحرف من وجهة نظر قلب شاعر:
هو من نراه سائرا فوق الثرى
و كأنّ فوق فؤاده خطواته
إن ناح فالأرواح في عبراته
وإذا شذا فالحبّ في نغماته
يبكي مع النائي على أوطانه
و يشارك المحزون في عبراته
وتغيّر الأيام قلب فتاته
ويظلّ ذا كلف بقلب فتاته
هو من يعيش لغيره ويظنّه
من ليس يفهمه يعيش لذاته !!!
كان إيليا داعياً للجمال وراسماً لوحاته بألوانه فيقول في رائعته:
أيّهذا الشّاكي وما بك داء
كيف تغدو اذا غدوت عليلا؟
إنّ شرّ الجناة في الأرض نفس
تتوقّى، قبل الرَّحيل، الرّحيلا
وترى الشّوك في الورود، وتعمى
أن ترى فوقها النّدى إكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل
من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا
ويقول في نفس مسار روح التفاؤل والبسمة:
قال السماء كئيبة! وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما!
قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتــسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما!!
وتملَّكت فكرة التفاؤل ورؤية الجمال كلَّ إيليا حتى صار يرى بأن الحزن على الموت يجب أن يكون حزناً رقيقاً قريباً من سماء السكون, فيقول من وجهة نظر حزن شاعر:
أنا إن أغمض الحمام جفوني
ودوَى صوت مصرعي في المدينة
وتمشَّى في الأرض داراً فداراً
فسمعتُ دويّه ورنينه
ورأيت الصّحاب جاثين حولي
يندبون الفتى الذي تعرفينه
لا تشقي عليَّ ثوبك حزنا
لا ولا تذرفي الدموع السخينة
غالبي اليأس واجلسي عند نعشي
بسكونٍ، إنّي أحبّ السكينة
****
وامتدت روح الشعر فكان محمود درويش , كان الوطن والغربة والطفولة والحب والحرب, وكان فوق ذلك كله الأم والأب. جعل درويش كل أحد يحن إلى خبز أمه وإلى قهوة أمه على الطريقة الدرويشية فيقول:
أحنّ إلى خبزِ أمي ..
وقهوة أمي .. ولمسة أمي ..
وتكبر فيَّ الطفولة
يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا متّ، أخجل من دمع أمي!
ويكون الأب وجرحه وقوداً لدرويش وسبباً كافياً لامتداد روح الشعر فيه, اليتم والحزن يشعل حروفه والناس لا يعلمون:
لملمتُ جرحَكَ يا أبي
برموش أشعاري
فبكت عيون الناس
من حزني … ومن ناري
وغمست خبزي في التراب …
وما التمست شهامة الجار!
وزرعت أزهاري
في تربة صماء عارية
بلا غيم… وأمطار
فترقرقت لما نذرتُ لها
جرحاً بكى برموش أشعاري!
عفواً أبي!
قلبي موائدهم
وتمزقي… وتيتمي العاري!
****
وامتدت روح الشعر..
وامتدت روح الشعر..
وستمتد إلى نقطة نهاية سطر الحياة.
الراحلون.. وعليا وحارة المواويل
الراحـلـون..
وقَالتْ: أتَأذَنُ لي بانْسِحابْ؟
عَجِبتُ .. قِفي..
أبكُلِّ بُرود..
سَنَطعَنُ عالَمَنا بالغِيابْ؟!
ولَيسَ لأجليَ أرفُضُ..
لكن..
لأجلِكِ يا طِفلَةً من نَهارْ
عليمٌ أنا..
بجُروحِ الرَحيلِ
رَحيمٌ أنا..
بقُلوبِ الصِّغارْ
تَذّوَّقَ قَلبيَ طَعْمَ المطّاراتِ..
نامَ على عتَباتِ التَّذَاكِرِ..
صَاحَبَ أمتِعةَ الذَّاهبينْ
ومُنذُ حَنين..
تَرَكتُ فؤادي جَريحًا..
وصِرتُ..
أُطَبِّبُ أفئدَةَ الآخَرينْ
فلا تَطْلُبي الليلَ..
لا تَطْلُبي الليلَ يا طِفْلَةً منْ نَهارْ
وقَالتْ: أتَأذَنُ لي بانْسِحابْ؟
لماذَا السؤالْ؟!
فلَيسَتْ هنالِكَ تأشيرة للذَهابْ
ولَسْتُ لأمنَحَ نِصفَ جَوابٍ لأسئلَةٍ
من تَرفْ
برُغْمِ الذي بَيننا من جُنونْ
لأنَّ الذينَ قَضَوا بالرَحيلِ..
يلوذونَ بالبُعْدِ لا يسْألونْ
فَلا تَطْلبي الليلَ..
لا تَخْسَري الصُّبْحَ يا طِفْلَةً من نَهارْ
عليا … وحارة المواويل
محتضنًا… عامود إنارة
منتظرًا أن تشرق عليا
تنزل عليا من شقتها
ليس هنالك أي جديد
ما زالت في نفس الحارة
البقالة والبقال
وأبو “ميسور” الحمَّال
يحمل زيتًا..
يحمل همًّا
ويجرُّ حروف الموال:
( دا الصبر أمره طال
وش بعد وقف الحال
ياللي معاك المال
برضو الفقير له رب كريم)
**
تتخطَّى عليا بهدوءٍ..
وجع الأرصفة المنهارة
ما زالت في نفس الحارة
عين “شريفٍ” تنهش عفَّة أم “سعيد”
تصرخ أم “سعيدٍ” صمتًا
يملأ عالمها الموجوع
و”سعيدٌ” بين ذراعيها..
تطعمه بعضًا من جوع
وتتمتم قهرًا ومرارة:
( به عيونٍ في هدبها
تسكن آلام ومواجع
ومن سواد اليأس فيها
ما قوت تذرف دموع)
**
وتواصل عليا مشيتها
والكل يحاور مشيتها
ما زالت في نفس الحارة
“أسعد” ذو القلب المكلوم
“طاهر” ذو النفس الأمَّارة
شيءٌ منذ ثلاث سنين
محتضنًا… عامود إنارة
تتجاهل عليا بسمته
وتفوت كفيض رياحين
يطلق آهته المعتادة ويغنِّي ذاك المسكين:
( يخرب بيت عيونك يا..
عليا – عليا –
شو حلوين)