قول في مقال

للخروج من الملل العام

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن رتابة الحياة اليومية، وعن حالة الملل العام الذي يعاني منه الشباب العربي. وغالباً ما يتوقف هذا الحديث عند وصف الحالة ولا يتوسع إلا في ضرب الأمثلة حولها، أو تسليط الضوء على بعض وجوهها دون الأخرى.
إبراهيم الشاخوري يتجاوز توصيف الحالة، باحثاً عن السبب ومتطلعاً إلى مخرج.

لوهلة، تظن العالم العربي يعيش حالة من الملل العام، فجموع الشباب العربي ما بين الخليج والمحيط تصنف لحظات كبيرة من حياتها تحت عنوان «الملل»، بل وتُعده تذكرة مجانية للقيام بقائمة طويلة من «الحركات» الشبابية الغريبة.

ولوهلة، يعود صدى مصطفى الرفاعي متحسراً ليتردد «يقولون إن في شباب العرب شيخوخة الهمم والعزائم، فالشبان يمتدون في حياة الأمم وهم ينكمشون، وإن اللهو قد خف بهم حتى ثقلت عليهم حياة الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت كالمستحيلات».

ثم لوهلة أخيرة، تستفيق لتسأل: هل صحيح أننا بعدما ملأنا حياتنا بالفراغ صرنا نعيش «وهم الامتلاء» بدل المشي الحثيث نحو حلم أكبر من «خديعة اللحظة» و«فخ الرتابة»؟ وما الذي يحركنا فعلاً في حياتنا؟ هل خياراتنا وإنجازاتنا قائمة على اتصال عميق مع الذات ومعرفة وثيقة بالقدرات وإيمان عميق بحلم أكبر؟ أم إننا لسنا أكثر من «تفاصيل» مسكونة بالآخرين؟ وهل يمكن الهروب من ذاكرة تسكننا نحو حلم نسكن فيه؟

«الكذب المنطقي»
على الذات
لعل أولى الخطوات في الإجابة عن هذا كله هو تسجيلنا لاعتراف أنه من السهل الحياة مع الأسئلة بدل العيش مع الإجابات، وأننا أحياناً نحيط أنفسنا بسور من «الكذب المنطقي» الذي يسكّن ويخفف ألم الانفصال عن الحلم، ففي كل مرة نستمر في عمل الكثير من أعمالنا اليومية التي لا تتفق مع القناعات العميقة داخلنا، نلجأ إلى «كذبة منطقية» لنتغاضى عن ألم الفشل. فعدم قراءة كتاب كنا نتوق لقراءته كان بسبب مقاطعة وتشتيت الآخرين لنا، والوصول إلى موعد متأخرين هو بسبب الازدحام غير المتوقع أو بسبب النسيان. وعدم تحقيقنا للأحلام التي كنا نتمناها صغاراً من أن نصبح مهندسين أو أطباء كان بسبب التعليم الذي أحبطنا، و«الواسطة» التي أحرقت فرصنا وعدم دعم وتقدير الأهل! ولكل فشل أو انفصال عما نؤمن به هناك قائمة تطول من المبررات. وحين لا تنجح هذه المسكنات، هناك «الملل» الذي نتنفسه في دخان «الشيشة» ونسمعه في أحاديث «القهاوي» ونقرأه في غرف الدردشة. كلها مسكنات أخرى تساعد على تخدير حواسنا وتعطيل عقارب الساعة ولو مؤقتاً.

وحتى نستفيق من حالة «الملل القومي» الذي نعيشه، يجب أن ندرك أن أي شيء عدا الارتباط الواعي بما هو مهم، ليس أكثر من ارتباط لا واعي بأمور تافهة، أو بتعبير أفلاطون فإن الحياة التي لا نتفحصها حياة لا تستحق العيش. هناك دائماً تلك الرغبة الدفينة عميقاً في داخلنا لتحقيق طموح كبير، وهي رغبة لا تموت، لكن إذا ما أردنا فعلاً أن نحوِّلها إلى واقع، فلا بد من العمل على تغيير بعض تفاصيل حياتنا. فأحد تعريفات الغباء «هو القيام بنفس الأشياء بنفس الطريقة وتوقع نتائج مختلفة». لو توقفنا لثوانٍ وتساءلنا، ما هو الشيء -شيء واحد فقط- الذي لو قمنا به بصدق وبشكل مستمر فإنه سيغيِّر كثيراً من حياتنا الشخصية والعائلية؟ وما هو ذلك النشاط الذي لو قمنا به بكفاءة وبشكل متواصل فإنه سيغيِّر من حياتنا المهنية أو الدراسية بشكل هائل؟ وحين تجيب عن هذه التساؤلات يأتي السؤال الأخطر، إذا عرفت هذين الشيئين وكنت موقناً بهما، فلماذا لا تقوم بفعلهما الآن؟ وهنا نعود إلى خزان «الكذب المنطقي» الذي نشرب منه كلما أظمأنا عطش الإنجاز. إحدى أكبر «الكذبات المنطقية» في حياتنا هي عدم وجود وقت كاف! فالكل يتعلل بأننا لو امتلكنا وقتاً كافياً لكان بالإمكان إنجاز الكثير في حياتنا، ولكن المسألة ليست في إنجاز كم أكبر من المهام في وقت أقل، المسألة الأهم هي في القيام بالأمور الصحيحة وليس الثانوية، لهذا لا بد من العودة إلى السؤالين السابقين والإجابة عنهما بصدق.

التخلي عن أرشيف الكذبات المنطقية ومعرفة ما نريد هو أول خطوة نحو القضاء على حالة الملل العام وتبديد وهم الامتلاء الذي نعيشه. ولكن، ولأننا نعيش الواقع، فإن أموراً كثيرة ستستمر في تشويشنا وحرفنا عما نريد. ما يهم في هذا كله هو التأسيس لأهدافنا، بمعنى أن إيماننا العميق الذي يتكئ على الدين والثقافة والعائلة يجب أن يصوب مسارنا دائماً كلما فقدنا الإحساس بالاتجاه. ولأن الإحساس بالاتجاه مهم، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل نملك بالفعل اتجاهاً واضحاً في الحياة أم أننا لا نستطيع رؤية أبعد من عطلة نهاية الأسبوع؟ وبأبعد نظر، فإننا لا نرى سوى الراتب في نهاية الشهر؟ كيف يمكن لنا أن نخلع ثوب الملل وأن نعيش الإنجاز إذا لم نعرف ما هو هذا الإنجاز؟ بل أحياناً كثيرة ما نبحث عن ذواتنا وطموحنا في مرايا الآخرين. فكل ما نفعله أو نختاره نقوم به هو بناءً على توقعات الآخرين. وحين نقع في هذا الشراك، فإن الملل يتسلل سريعاً إلينا، وسرعان ما سنتخلى عن أحلامنا لأنها ليست لنا في الأساس. وقد قيل إن الإنسان فقد روحه يوم اكتشف المرآة. لهذا لا بد للحلم أن يمتد عميقاً في جذور الإيمان والقيم حتى يكون ثابتاً كلما اهتزت ذواتنا في خضم الحياة.

أحلام الطفولة..
أغلى مما تبدو عليه
إحدى المقولات التي استمروا في إخبارنا بها، هي أن الأحلام التي نحملها في بداية حياتنا عن رغبتنا في أن نكون أطباء أو مخترعين هي «أحلام طفولة». وإذا ما عاشت هذه الأحلام قليلاً فإنها «أحلام يقظة» سرعان ما تموت بذهاب سن المراهقة. وفي رأيي، فإن تلك أكبر «الكذبات المنطقية». تلك الأحلام هي ما يجب أن نتمسك به طيلة حياتنا، قد نغير قليلاً في تفاصيلها بعد استيعابنا للحقائق حولنا لكننا يجب ألاَّ نتخلى عنها أبداً. إذ إن المبدع ليس أكثر من طفل كبير.

فلو تخيلنا طفلاً قادراً على وصف خياله بالشعر مثلاً، ألن يكون أكثر الشعراء إبداعاً في تصويراته وخيالاته؟ ولو تخيلنا طفلاً قادراً على رسم خياله في لوحة فنية، فإن إبداعه لن يكون محدوداً.

وحين نحاول أن نتذكر تلك الأحلام، أو أحلام اليقظة التي راودتنا ونحن في بداية الشباب، فإننا في الأغلب لن نتذكر تحديداً تاريخ وفاة تلك الأحلام. لكننا سنعود مرة أخرى إلى قائمة المبررات لنختار منها واحداً نرفقه مع شهادة وفاة أحلامنا. تلك الأحلام التي نخرت فيها رتابة الحياة، وقتلها ضعف الهمة، ووأدها غياب الإيمان العميق بما نفعل، يمكن لها أن تولد من جديد بل وبملامح أجمل ونبض أقوى لو وقفنا لوهلة وتأملنا عميقاً في ذواتنا، وحاولنا كسر «العادة». لأن من يريد أن يمتلك الإرادة، فعليه كسر «العادة». ولو فعلنا ذلك فإننا سنجد ذلك الوميض الذي يجعل من بشريتنا كينونة مختلفة عن كل الأشياء في هذا الكون، ولكسرنا حالة الملل التي نخرت كل مفاصل حياتنا، ولأنجزنا ما نفتخر به في حياتنا ولأضفنا شيئاً جميلاً على هذه الحياة.

ولنتذكر دائماً «إذا لم تزد شيئاً على الحياة، كنت زائداً عليها».

أضف تعليق

التعليقات