حياتنا اليوم

عادات المائدة..
انتصار الثقافة والعُرْف على الجوع

مهما تفرّدنا، ومهما استقللْنا، نحن إنما بشرٌ يسيّرنا قانون «الجماعة» المصوغ من منطق إنساني «فطري» ومنطق عقلاني مكتسب، مشتقّ مما تمليه العلاقات البشرية في سياق بيئة جيوتاريخية بعينها. وضمن هذا التوصيف، فإن عادات الطعام أو آداب المائدة لدى البشر بمختلف مشاربهم الجغرافية وتنويعاتهم الإثنية وأمزجتهم النفسية، تخضع لمبدأ المشاركة. لا نكتفي بأن نتعاطى معه، أي فعل المشاركة، كفطرة أو حاجة، إنما نحيله إلى ناموس وآداب وقواعد، من شأن كسرها أو انتهاكها أن يعرضنا للنبذ الاجتماعي أو النظر إلينا باعتبارنا قاصرين – نوعاً ما – إنسانياً.
ولأن آداب المائدة ليست واحدة، وغير مرشحة للعولمة في المستقبل المنظور، وتختلف ليس فقط بين ثقافة وأخرى، بل أحياناً ما بين بلدة وأخرى مجاورة لها، أو حتى ضمن القرية الواحدة، فإن حزامة حبايب تتناول هنا نماذج من هذه الآداب، فتعرض لنا تاريخها، وتغلغل جذورها في مفاهيم اجتماعية لا تمت بصلة مباشرة إلى الطعام بحد ذاته. ففي النهاية، ليس المهم ما نأكل، وإنما كيف نأكل، ومع من نأكل..

تشكّل مشاركة وجبة طعام مع آخرين، ضمن قواعد مرعيّة، واحدة من أوضح صيغ التعبير عن سمة الوجود البشري، وهو تعبير يفصلنا عن «الاقتتال» الشرس بين الكائنات الأخرى على الطعام.

في البدء، كان الطعام فريسة تُنهش، لكنّ الفطرة الإنسانية التي تخففت مع التاريخ والتشذيب القسري من ربقة الجوع والنهم، حوّلت الطعام إلى حاجة، فاشتهاء، فمشاركة في اقتسام الحاجة والاشتهاء، ثم ارتقتْ به إلى متعة للعين واللسان، وما لفّ لفّهما من حواس.

لم يعد يسدّ جوع البشر ما هو متاح، وحتى ضمن المتاح. فإنّ للطعام طقساً في الإعداد والتوضيب على مراحل، تخطّى كثيراً طقس «الصيد» البدائي؛ ويصل إلى ذروته في الطبخ أو الطهو، وما يقترن بذلك من إضافات من تبهير وتنكيه (من النكهة) وتزيين، في عملية منتخبة تجعل الطهو فعلاً إنسانياً خالصاً. لذا، لا يبدو من المستهجن أن يذهب عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي سترواس في دراسته المرجعية «أصول آداب المائدة»، إلى الزعم بأن الطهو يشكل الأساس الأول للتطور الثقافي البشري.

في محاولتهم لاقتفاء جذور وجبة الطعام الإنسانية، كفعل أكل أكثر منه كطعام، يخلص المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا إلى أن مشاركة البشر فيما بينهم الطعام، من خلال الجلوس معاً في حيز بعينه، على مائدة أو خلافها، حتّى وإن ضمت الـ«معاً» أشخاصاً غرباء تماماً، والخضوع الطوعي لأصول وقواعد بعينها، ضمن منظومة من «العادات» أو «الآداب»، هو ما يدخل في صلب التواصل الاجتماعي ويعدّ أساس التطور الإنساني. هذه المنظومة يُشار لها بـ«آداب المائدة»، وهي ليست معنية بماذا نأكل أو نشرب، وإنما كيف نأكل ما نأكل وكيف نشرب ما نشرب في إطار الجماعة البشرية، التي منها نبدأ وإليها نؤول. إن الطعام لم يعد حاجة وفقط، وإنما هو انتماء ثقافي وحضاري، ومشاركة الطعام، في إطار سلوكيات بعينها، هو تعبير عن هذا الانتماء.

رفاق الخبز
إن الجماعة، لا الفرد، هي الأساس الذي قامت عليه البشرية. وليس صدفة أن تكون كلمة «جماعة» باللغة الإنجليزية «company» مشتقة من اللغة اللاتينية حيث تعني «خبز مع»، أي «أولئك الذين يتقاسمون الخبز
فيما بينهم». وهكذا، لا يبدو من قبيل الارتجال أن يقترن الطعام والشراب منذ عصور غابرة بالمشاركة الجماعية. بل لقد رصد علماء الأنثروبولوجيا أنه حتى في الثقافات القبلية الأكثر بدائية ما إن «يكسر» الناس «الخبز» مع الغرباء أو يتناول الشراب معهم، حتى تنشأ علاقة مسالمة فيما بينهم. ومع تطور العلاقة، التي تبدأ بكسرة الخبز أو الشراب، فإنه يصبح لزاماً على الناس، رفاق الخبز، حماية بعضهم بعضاً في حال تعرض أي منهم إلى خطر ما. فالطعام، أو بالأحرى وجبة الطعام المشتركة، هي أساس السلم بين الشعوب. (قد يبدو لافتاً هنا أن نسترجع في أذهاننا العصرية بعض الصور التلفزيونية للمفاوضات بين أطراف متناحرة أو متخاصمة، إذ يجلسون على مائدة طويلة – لا يمكن أن تكون مستديرة بالتأكيد – بحيث يكون الخصوم المتحاورون وجهاً لوجه، في نقاش لا يخلو من احتدام وقد ينتهي إلى طريق مسدود، ومع ذلك نرى على الطاولة ماء وعصائر وفاكهة وموالح وحلويات خفيفة. قد لا تعمل هذه الأطعمة والمشروبات على إحلال السلام لكنّها في تلك اللحظة، لحظة المفاوضات العقيمة ربما، تكون كافية لتبريد الخلاف والخصومة نوعاً ما!).

ففي كل الثقافات والمجتمعات، قديمها وحديثها، لا يبدو من الحكمة أو الحصافة بمكان رفض ما يُقدم للمرء من طعام أو شراب. فالعُرف والأدب يقتضيان أن نأكل ما يُقدَّم لنا كضيوف، والعُرف والأدب يقتضيان من المضيف «إكرام الضيف» أولاً. ولعل هذا العُرف يتجلى في أجل صوره في الثقافة العربية البدوية، التي تضع مبدأ «ثلاثة أيام» كحد أدنى يُكرم فيه الضيف «الغريب»، زائراً عابراً كان أم مستجيراً أم مطلوباً! بل إنه من العيب، كل العيب، أن تسأل شخصاً عن سبب زيارته أو حاجته، أو تجعله يفتح فمه بالكلام قبل أن تقدم له القهوة المحيية المرحبة، كأنك تقول له من خلالها: «أنت في وسطنا بأمان!» فإذا ما رفض الضيف قهوة مضيفه، عُدّت تلك إهانة ما بعدها إهانة!

الغذاء كطقس اجتماعي
من هنا، فإن أساس رقي المجتمعات الإنسانية يقاس بحجم القوانين التي تحكم علاقات الأفراد فيما بينهم ضمن وحدة الجماعة. والطعام أو مشاركة الطعام هو أحد هذه القوانين إن لم تكن أولها وأهمها. ذلك أن اقتسام الطعام وتوزيعه وفق أسس معينة كفيل بإحلال السلم والوئام، ومن دون هذه القوانين فإن الطعام من نصيب الأقوى جسدياً والأشرس، والأسرع في الوصول إلى اللقمة، وهذا ما يعني بالضرورة استثناء الأطفال والنساء وكبار السن، ومن في حكمهم من الضعفاء، وتركهم جوعى، والجوع يولد القهر، والقهر يولد العنف والعنف يقود إلى تفكك المجتمع. لكن المهم في مبدأ الرفقة هنا هو أن المشاركة في الأكل تغدو رمزاً لكل أنواع العلاقات، كما تدل على قبول قيم ثقافية بعينها، غير معنية بالأكل كمكوّنات أو كغذاء وإنما كطقس اجتماعي و«شعيرة» تفاعلية.

أنتَ تأكل، إذن أنتَ تعيش. أنتَ تأكل مع الجماعة، وفق قانون هذه الجماعة، إذن أنتَ تعيش بشكل أفضل وأرقى. فالأكل مع الجماعة يعكس انسجاماً موضوعيّاً وانتماءً، حتى وإن كان آنياً. أضف إلى ذلك أن طريقة الأكل التي تحددها ثقافة مجتمعية ما تضيء هوية المجتمع، بقدر ما تعكس مبادئه وأنماطه الفكرية والجمالية. والأكل الجماعي، بأنماطه القبلية ضمن ثقافة بدائية أو بأنماطه المدنية ضمن ثقافة مدينية متحضرة، يقتضي الاحترام، كمبدأ رئيس: احترام الطعام واحترام الجهد المبذول في طهوه وإعداده واحترام الناس الذين نأكل برفقتهم.

ولما كان الأكل عادة متكررة في اليوم، وعادة دورية كولائم ومآدب واحتفاليات، فإن ممارستها ضمن الأصول المحددة يعني إرساء ثقافة الأكل وإحالة التقاليد الاجتماعية أثناء الطعام في هذا الخصوص إلى ما يشبه طبيعة ثانية. أيا ما تكون عليه الحال، فإن آداب المائدة تظل في عرف التقاليد لا الأخلاق؛ والتقاليد تظل أقوى وأوقع تأثيراً من الأخلاق، ذلك أن التقاليد صنيعة اتفاق عام على كيفية التصرف في ظروف معينة، والتقاليد تستحيل مع تطور المجتمعات إلى ما يشبه إطاراً عاماً للسلوك المقبول، بحيث يمكن استخدامها لحماية السلطة والتمييز الطبقي، وهي مسألة قطعاً غير مرتبطة بالأخلاق.

«تثوير» المائدة
يمكن القول إن آداب المائدة وُضعت منذ أن بسط الإنسان الطعام على «مائدته»، علماً بأن المائدة هنا هي مصطلح مجازي يشير إلى تجمع أشخاص حول وجبة طعام ولا تعني المائدة بالتوصيف المتعارف عليه، أي الطاولة. ولم تكن هذه الآداب لتتبلور في صيغة أكثر تعقيداً، تسم المبادئ التي يقوم عليها «إتيكيت» المائدة العصري، إلا باختراع أدوات المائدة.

نستطيع أن نتخيل أن السكين هي الفاصل الحاسم ما بين حقبة نهش الفريسة بالأيدي، وبين تقطيعها في خطوة أولى نوعية قطعها الإنسان نحو التحضّر. لكن وجود السكين على الطاولة أنذر باحتمال اندلاع العنف، وهو احتمال يُفترض أن آداب المائدة وجدت في الأساس لإقصائه أو على الأقل لتحييده. لذا شهدت سكين الطعام تهذيباً مع تقليص احتمالاتها «القاتلة» من خلال تصغير حجمها مع الوقت وتدوير رؤوسها فلا تكون مدببة وتخفيف «شرشرة» حوافها، اللهم في سكاكين معينة تستخدم لقطع الديك الرومي مثلاً أو لتقطيع لحم «الستيك»! (ويقال هنا إن الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، الذي كان مفتوناً بالطعام وتوضيبه على مائدته، كان أول من أمر بأن تكون سكاكين المائدة ذات نهايات مدورة، وذلك في العام 1669م، وهو ما جعل تناول الطعام في حضرة السكاكين أقل مدعاة لعنف محتمل). من هذا المبدأ نفسه، تتفق معظم ثقافات العالم الراهنة على أنه لا يجوز أبداً تسديد السكين، في وجه رفاق المائدة، وتحريكها في وجوههم أثناء الكلام أو الأكل. وعند وضع السكين على الطاولة، يجب أن يكون حدها إلى الداخل لا باتجاه الخارج، ويفضل التقليل من استخدام السكين في الأكل قدر الإمكان، والاستعاضة عنها بالملعقة أو الشوكة للتقطيع. كذلك، من غير المقبول إمساك السكين بقبضة اليد بصورة عمودية، فذلك علامة على التحفز للهجوم، وهذه بحد ذاتها جريمة من جرائم «آداب المائدة»!

لم تكن «آداب المائدة» لتتطور وتتهذب إلا من خلال اختراعين أساسيين: أدوات المائدة ومائدة الطعام نفسها. يعتقد أن السكين والشوكة وُجدتا منذ الأزل، لكنهما كانتا تستخدمان لكل الأغراض المتخيلة، التي سهَّلت الوجود البشري الأول، ولم تكونا أداتي أكل. قد تكون أول أداة استخدمها الإنسان في الأكل هي أداة شبيهة بالملعقة، حيث تشير التنقيبات الأثرية إلى أن الإنسان الأول عرف صيغة قريبة من الملعقة في العصر الحجري القديم! واستخدم الرومان والإغريق ملاعق من البرونز والفضة، كما عثر في قبور المصريين القدماء على ملاعق من الخشب والحجارة والعاج. وأثناء العصور الوسطى في أوروبا، استخدم الأثرياء ملاعق كبيرة مصنوعة من الفضة المطروقة، فيما اكتفى الفقراء بملاعق مصنوعة من الخشب والعظام. وعلى الرغم من أن السكين اختراع سابق للملعقة، إلا أنها ظلت لقرون أداة تقطيع، ولم توضع على المائدة، في شكلها المهذب إلا في القرن السابع عشر. وفيما يتعلق بأطباق الطعام، فعلى الرغم من أن الحضارات البشرية ابتكرت أطباقاً من المعدن والخشب والخزف، فعرفها الإغريق والرومان والأشوريون والمصريون وكذلك قدماء المكسيك والبيرو والمايا والإنكا والصينيون، إلا أن الثابت أن الطبق ظل لقرون أداة طعام جماعية، يغرف منه الجميع على المائدة، ولم يكتسب قيمته كأداة طعام للاستخدام الفردي، إلا لاحقاً.

الشوكة ورحلتها عبر العالم
هنا، قد تكون شوكة الطعام أداة الطعام الأكثر ثورية في هذا السياق، على اعتبار أن السكين وإن سبقتها إلا أنها ظلت مقترنة بالتقطيع أكثر منه بتناول الطعام. كذلك فإن ملعقة الطعام ظلت محصورة بتناول أطعمة معينة كالشوربة، كما كانت للسكب وتوزيع الطعام أكثر منه لتناوله بها، على غرار «الكفكيرة» أو «المغرفة» المستخدمة حالياً، وظل الناس يعتمدون على أيديهم في تناول اللحوم وأنواع الأطعمة «الصلبة». وبالتالي، قد تكون الشوكة هي أداة المائدة الأولى التي أسبغت على الطعام تجربة فردية، وقدراً أكبر من الخصوصية في إطار التجربة الجماعية الأكبر للأكل.

تمتدّ جذور شوكة المطبخ إلى زمن الإغريق، حيث كانت كبيرة، بطرفين طويلين مدببين. وكانت تستخدم مع السكين لتيسير عملية تقطيع اللحم. وعرف الرومان الشوكة واستخدموها في القرن الثاني للميلاد. وبحلول القرن السابع، ظهرت الشوكة في بلاد الشام ومنطقة «الشرق الأوسط» عموماً. ومن القرن العاشر وحتى القرن الثالث عشر للميلاد، شاع استخدام شوكة الطعام في مدينة بيزنطة اليونانية، وفي القرن الحادي عشر انتقلت الشوكة إلى إيطاليا، لكن الإيطاليين لم يفتنوا بأداة الطعام الجديدة، فتأخر استخدامها، ولم تصبح رائجة إلا في القرن السادس عشر. في العام 1533 ميلادية، سافرت الشوكة من إيطاليا إلى فرنسا حين تزوجت الإيطالية كاترينا دي ميديشي (أو «كاترين دي ميديسي»، كما تعرف بالفرنسية) بملك فرنسا المستقبلي هنري الثاني. لكن الفرنسيين لم يتقبلوا الشوكة على مائدتهم بسرعة. ومع مطلع القرن السابع عشر، وصلت الشوكة إلى إنجلترا على يد رجل إنجليزي يدعى توماس كوريت، بعد أن شاهدها أثناء سفره إلى إيطاليا. غير أن الإنجليز استخفوا بها، متسائلين باستهجان: «لماذا يستخدم الفرد الشوكة للأكل بينما أعطاه الله يديه لهذا الغرض؟!» لكن الشوكة تسللت إلى موائد الأثرياء ببطء، متخلية عن وظيفتها المساعدة للسكين في المطبخ متحولة إلى أداة أكل رئيسة، ومقترنة مع الوقت بالحصافة والكياسة ومنتهى الذوق. ذلك أن المرء بات ينهض من على المائدة بيدين وأصابع نظيفة، لم تعلق بها بقايا لحم أو شحم! ومع انتقال الشوكة إلى الطبقات الوسطى، احتلت هذه الأداة الصغيرة، بسيطة التصميم متعددة الأشكال والأحجام والاستخدامات، صدارة التعليمات الدقيقة الخاصة بـ«إتيكيت» المائدة.

والحديث عن أدوات الطعام يقودنا إلى عادة لا تزال سائدة في العديد من المجتمعات، من بينها المجتمعات العربية البدوية، وهي الأكل باستخدام أصابع اليد. وعلى الرغم مما تبدو عليه هذه العادة من بدائية وارتجال، إلا أنها محكومة في واقع الأمر بقوانين شائكة؛ إذ لا يجب استخدام سوى اليد اليمني في الأكل (في تقليد صارم يتقاسمه الهنود، الذين لا يمسون الطعام باليد اليسرى أبداً)، ولا بد من تناول اللقمة بالأصابع لا بكفة اليد، كما لا يجب دفع الطعام في الفم دفعاً، وإدخال كل أصابع اليد في الفم، فهذا سلوك ينم عن شره. وللعلم فإن الأكل باستخدام أصابع اليد تقليد شائع على مدى عصور البشرية، فقد مارسه الإغريق والرومان لأكثر من ألف عام، حين كانوا يأكلون وهم شبه مستلقين على الأرائك، مستخدمين في ذلك كلتا اليدين.

«فوق الملح» و«تحت الملح»
يختلف الدارسون في الاتفاق على تاريخ بعينه يشكل منعطفاً واضحاً في اختراع «إتيكيت المائدة»، أي كيفية ترتيب المائدة وإعدادها وتحديد صيغة جلوس الضيوف عليها. المؤكد أن الإنسان عرف المائدة منذ أن عمّر البسيطة، عبر لوح حجري وضع عليه رجل الكهف فريسته الأولى، ثم تطور هذا اللوح الحجري إلى لوح خشبي، تم رفعه عن الأرض بقوائم أو أرجل، ضمن مراحل تطورية لعب فيها الإغريق والرومان والمصريون القدماء دوراً مشهوداً لهم به. ومن الأرض، جلس الإنسان على حجارة صغيرة كمقاعد، فأرائك تتسع لأكثر من شخص، فكراسي مفردة، تؤمن للفرد خصوصية أكبر. لكن «إتيكيت المائدة» مسألة أخرى. في هذا الطرح، ينبري فريق من الباحثين في جامعة «واشنطن ستيت» في الولايات المتحدة إلى التأكيد بأن الأنجلو ساكسونيين هم أول من ابتكروا فكرة «إعداد مائدة الطعام» وتحديد مواقع الضيوف على المائدة، وذلك حوالي العام 1000 ميلادية، حين كان الضيوف يختارون مقاعدهم بناءً على موقع «وعاء الملح» على المائدة. فإذا جلس الضيف «فوق الملح» فهذا يعني أنه صاحب الحظوة وضيف شرف المأدبة! فالملح في ذلك الزمان كان سلعة ثمينة جداً، وكان يتم وضعه في وعاء من الزجاج أو الفضة بزخارف ونقوش مميزة كرمز على بذخ أهل البيت، وكلما كان الوعاء كبيراً، دلّ على أن مخزونهم من الملح الثمين فائض! وكانت مكانة الضيف الاجتماعية تُقيّم ببساطة من خلال حجم المسافة بينه وبين وعاء الملح على المائدة، فكلما جلس الضيف بالقرب من الوعاء دلَّ ذلك على مكانته الرفيعة، علماً بأن وعاء الملح يكون موضوعاً في منتصف المائدة، حيث يُقال بأن فلاناً الفلاني يجلس «فوق الملح»، أي بالقرب منه، فإذا جلس في مكان بعيد قيل إنه يجلس «تحت الملح»! قد لا يكون الملح معياراً لمخطط الجلوس على المائدة في يومنا هذا، لكن قطعاً ثمة تراتبية يتم التخطيط لها بحذر عند توضيب مائدة طعام رسمية لضيوف كبار! إلى ذلك، يقال بأنّ الأنجلو ساكسونيين هم أول من قام بوضع ملاءات وأغطية على الطاولات الخشبية لتغطيتها. وبالإضافة إلى «وعاء الملح»، وزع الأنجلو ساكسونيون على المائدة الأكواب وسلال الخبز وأطباق التقديم.

ماذا يفعل أهل روما؟
«إذا كنت في روما فافعلْ كما يفعل أهل روما»، هذا هو المبدأ العريض الذي يحكم قاعدة الضيافة، ويحدد إطار العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة، أو العشيرة العائلية، على مائدة الطعام، كما يرسم العلاقة بين الضيف والمضيف. فماذا يفعل أهل روما؟

معظم الثقافات تقتضي من الضيف الحضور في الموعد الموحد، وفي الغرب الأوروبي، يتخذ التزام المواعيد طابع القداسة، من شأن كسرها أن يعرضك لطائلة الاستهجان ووصمك بعار التخلف الحضاري! وإذا كان البعض يروم الحضور على مأدبة أو تلبية دعوة عشاء مبكراً، لتوطيد الألفة مع مضيفه، قبل أن يأكل من خبزه، فإنه في بلد مثل تنزانيا، من غير اللائق أن تدقّ باب مضيفك أبكر من الموعد المحدد، بل يفضل أن تصل متأخراً عن موعدك من 15 إلى 30 دقيقة، كي لا تبدو كالمتهافت على الطعام.

وهناك مسألة التراتبية التي يجب أخذها بعين الاعتبار، فيما يتعلق بـ«من يأكل أولاً» و«من يجلس أين»؛ ففي المجتمعات القروية والبدوية التي تفترش الأرض مائدةً لها (مثل العديد من الدول العربية إلى جانب أفغانستان وباكستان) فإن الضيوف يجلسون دائماً في أبعد نقطة عن الباب، في إشارة رمزية إلى الرغبة باستبقائهم في قلب المكان، وقلب الوليمة، فلا يكونون على مساقة قريبة من المغادرة، أو موقع يوحي بالنبذ والتطريف (من الطرف). وفي حال لم يكن ثمة ضيوف على المأدبة، فإن كبار العائلة، كالجد والجدة، يجلسون في أبعد نقطة عن الباب.

أما في الغرب الحديث، ثمة ميل متزايد نحو إلغاء التراتبية على المائدة، مع اعتماد الطاولة المستديرة أو البيضاوية، يتوزّع عليها أفراد الأسرة دونما إيلاء موقع مميز لفرد دون الآخر، في ترتيب يوحي بالتوحد والتماثل والتعاضد الجماعي، من دون أن يتعارض هذا التضامن مع الفردية والاستقلالية والذاتية المتمثلة في تخصيص طبق وأدوات طعام منفصلة لكل فرد على حدة. إلى ذلك، تكون أدوات المائدة موضوعة على حواف الطاولة الدائرية فتبدو أشبه بسياج يسوِّر المكان ويحده، كأنه يفصل الجماعة عن الجماعات الأخرى، ويحميها من تطفل الغرباء وتجاوزهم! أما أطباق الطعام الرئيسة، فيتم تناقلها من فرد لآخر، بحيث يسكب كل شخص منها في صحنه، فيكون مسار الطبق دائرياً أو بيضاوياً، على نحو يشي بسلاسة العلاقة وانسيابيتها بين أفراد الجماعة الواحدة.

في أوروبا إبان القرون الوسطى، وبعد عقود من اعتماد «المسافة من وعاء الملح» لتحديد موقع الضيف ومكانته، بات الضيوف المميزون يجلسون إلى يمين المضيف، مع تقديم أفضل قطع اللحم لهم، وأندر الفاكهة، وأغلى المشروبات. ولم تدخل عادة جلوس الضيوف معاً في أزواج إلا حوالي العام 1455 ميلادية، حين غدا من اللائق اجتماعياً جلوس «الجنتلمان»، أي السيد، بجوار «الليدي»، أي السيدة، متقاسمين طبقاً وكوباً واحداً. لكن المائدة الغربية تخففت اليوم من كثير صلف وادعاء، وإن ظلت محافظة على تراتبية معينة حين يتعلق الأمر بجلوس الضيوف وخدمتهم، وهي تراتبية معترف بها في معظم ثقافات العالم، لجهة الاحتفاء بالضيف في المقام الأول.

ومن يأكل أولاً؟
وفيما يتعلق بـ«من يأكل أولاً»، فإن المتعارف عليه في معظم المجتمعات أن العائلة لا تستهل الأكل إلا عند اكتمال جلوس أفرادها على المائدة. إن الأمر لا علاقة له هنا بالاحترام بقدر ما يتصل بتعزيز قيمة الجماعة والانتماء والركون إلى هوية العائلة، فالبدء بالأكل مع علمنا أن ثمة فرداً منا ناقص أو غائب، يعني إقصاءً لهذا الفرد، حتى وإن كان إقصاءً لا شعورياً، وبالطبع فإن الاستثناء هو أن يكون الغياب هنا قسرياً، فوق إرادة الجميع. أضف إلى ذلك أن اكتمال جلوس أفراد العائلة على الطاولة يضمن الحد الأدنى من المساواة في توزيع الطعام، ضمن هاجس الإنسان الغريزي كي لا يأخذ الآخر حصته. لكن التاريخ الأنثروبولوجي له كلمة مختلفة في هذا الطرح، كما أن الأولوية لمن يأكل مقترنة بشرط ثقافة الضيافة، الذي يحدّده كل مجتمع بحسب ناموسه الاجتماعي. ففي المجتمعات الإنسانية الغابرة، اقتضى العرف أن تكون اللقمة الأولى من نصيب المضيف كي يثبت لضيفه أن الطعام آمن أو غير مسموم! حتى اليوم، لا تزال بعض الثقافات تتبنى هذا النهج، الذي يشكل ضمانة للمضيف. ففي غينيا الجديدة، يحتفي القبليون من سكان البلاد الأصليين بالضيف الغريب بتقديم الماء له، لكن المضيف يقوم أولاً بتناول جرعة قليلة من الماء كي يظهر لضيفه أنه ليس خطيراً. ويمكن الوقوف على عادات وتقاليد مشابهة في العديد من القبائل في إفريقيا، حيث تُناط بزوجة المضيف مسؤولية تناول الجرعة الأولى من أي شراب مبرهنة على خلوه من السم. في أوروبا خلال القرون الوسطى كانت المضيفات هن الملزمات أيضاً بتناول الطعام والشراب أيضاً للتأكيد على أنه آمن.

بين الحاجة والثقافة
تتعدَّد طرائق الضيافة وعادات المائدة اليوم بتعدد الثقافات، فالضيف يأكل أولاً في بعض الثقافات الراهنة، خاصة في العالم الإسلامي، فتُقدّم له الحصة الأفضل والأكبر من الطعام، كما يتم ملء صحنه مرات ومرات، ولا يسمح لطبقه بأن يفرغ لحظة، فيما تخصص اللقمة الأولى لكبار السن في العائلة، بغض الطرف عن وجود الضيوف، في مجتمعات أخرى. وإذا كانت ثقافتنا العربية تقتضي أن يقوم سيد البيت أو الأكبر سناً في العائلة، بخدمة ضيوفه من منطلق «سيّد القوم خادمهم»، فإن الأصغر سناً هم الذين يتولون تقديم الطعام للأكبر سناً أو للأرفع شأناً في المأدبة، بحسب ثقافات أخرى، كالثقافة الصينية مثلاً كما تمليه في هذا الخصوص المبادئ الكونفوشيوسية، التي تشدد على قيمة احترام الكبار في كل الظروف والمناسبات. والأدب الجمّ هو الذي يجعل الياباني لا يمد يده إلى الطعام إلا بعد أن يطلب منه مضيفه ذلك ثلاث مرات على الأقل!

أياً ما كان الطعام، على الضيف أن يأكله، معبراً عن رضاه واستمتاعه به. فإذا سمحت لك ثقافة ما بأن تضيف إلى طعامك الفلفل والشطة والليمون والكاتشب وخلافه على طبقك، إذا كنت في بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية أو إحدى دول أميركية اللاتينية لك، فالويل لك والثبور إذا تجرأت وطلبت الكاتشب أو المايونيز في بيت فرنسي، معتد بمطبخه وبوصفاته غير القابلة للإضافة أو التعديل. «كيف سولت لك نفسك أن تتعدى على المذاق الفرنسي المعتبر أيها الدخيل؟!» قد لا تغفر لك هنا الحقيقة أنك «غرّ» إزاء ثقافة الأكل الفرنسية. وقد تجد من المناسب أن تأكل كل ما في صحنك، احتراماً لمضيفك، واعترافا من جانبك بمذاق الأكل الشهي. لكن الأمر يتعدى الاحترام والمذاق في بلد مثل بريطانيا، فالإتيان على ما في طبقك مسألة تعود جذورها إلى حقبة الحرمان المريرة أثناء الحرب العالمية الثانية، من خلال فرض نظام التحصيص في توزيع الطعام الشحيح أصلاً، وهو ما عنى بالتالي التهام ما يتوافر على المائدة، ومسح الأطباق تماماً، لأنه من غير المعروف متى يمكن أن تُملأ هذه الأطباق ثانية! في المقابل، فإن أكل كل ما في طبقك في بيت مضيف صيني، أمر قد يثير حساسية واستياء؛ إذ يعني ذلك في الغالب أن مضيفك لم يقدم لك ما يكفي من الطعام، فأتيت على ما في طبقك كله، ولعلك غادرت المائدة وأنت لم تزل جائعاً!

في النهاية، نحن ما نحن عليه. ونحن أيضاً ما يمليه مجتمعنا علينا، بتقاليده المستوطنة في جبلتنا الإنسانية والقبلية والفكرية، وعادات المائدة جزء لا يتجزأ من هذه الجِبلة. فالطعام حاجة، والأكل ثقافة. وبين الحاجة والثقافة، نحتكم إلى العُرف أولاً، فمنطق العرف يسود حتى على منطق الجوع.

أضف تعليق

التعليقات