الرحلة معا

طوابير معرض الكتاب
ماذا تُخفي؟

الطوابير المصطفة أمام بوابات معرض الكتاب في الرياض، هي أول ما يلفت نظر الزائر بعد جولة من المشي الطويل من مواقف السيارات حتى أرض المعرض. أثناء الوقوف في الصف تراود المرء أسئلة بديهية مثل: لماذا يتكبد الناس هذا المشوار رغم أنهم يعيشون تحت إيقاع تقني متلاحق يغرس في الأذهان أن عصر الكتاب يغرب، وأن النشر الإلكتروني هو فضاء الجميع الآن، وخاصة في أوساط الشباب الذين تتجاوز نسبتهم %65 من سكاننا.

أمام تلك الحشود، ليس في معرض الرياض وحده، بل في معارض الكتب العربية وحتى الغربية، يتراجع الهاجس التقني، وتتقلص الثقة قليلاً بفكرة أن قوائم الكتب القديمة والمعاصرة منثورة على طريقة «PDF» على شبكة الإنترنت، وما عليك سوى رمي شباكك لتلتقط ما تشاء دون أن تغادر منزلك أو مكتبك أو مدينتك.

لا أريد أن أنعت بالجمود هنا، فأنا رغم تعلقي الفطري بالكتاب وما يمثله في حياتي، أؤمن مثل الجميع، بأن النشر الإلكتروني هو حاضر ومستقبل النشر، والمكان الأقدر على تسويق وتبادل الأفكار، وأن شبكة الإنترنت قد أزالت كل الحدود أمام تنقّل المعارف البشرية، لكننا بالرغم من كل ذلك لا نعتقد أنه قد آن أوان توديع الكتاب أو إهالة الثرى عليه.

ما دامت دور النشر تنتج الكتب والمطبوعات، وما دامت معارض الكتب العالمية والعربية تُعقد لتسويقها وتقيم الندوات وحفلات التوقيع لتوسيع رقعة القرَّاء فإن سوق الكتاب قائمة وحيَّة.

عالم النشر هو صناعة ضخمة، وخاصة لدى الأمم الناطقة باللغات الأكثر تأثيراً في العالم، فتلك الصناعة تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة وإلى تسويق فاعل وإلى تعاقدات دولية، فإذا لم تتحقق الأرباح الكفيلة بإعادة رؤوس الأموال تلك فلا أسهل من إطلاق شارة انهيار هذه الصناعة، والبحث السريع عن بدائلها القادرة على مراكمة الأرباح. ولنفكر في هذه اللمحة الإحصائية: في عام 2008م بلغت أرباح الناشرين في الولايات المتحدة قرابة 24 ملياراً ونصف دولار فيما لم تتعدَّ صناعة النشر العربي 4 ملايين دولار، وفي حين يزيد عدد النسخ من الكتاب الغربي على 85000 نسخة فإنها تتراوح بين 1000 و5000 نسخة عربياً.

أما ثاني ما يستوقف زائر المعرض فهو: يقظة دور النشر المحلية، ففي حين أمعنت دور نشرنا التقليدية، دهراً في طباعة وإعادة طبع الكتب الكلاسيكية في شتى الحقول، من الدين والتفاسير إلى التاريخ والاجتماع والأدب، ظهرت على السطح وبقوة، جملة من دور النشر برأسمال محلي أو عبر التشارك مع دور نشر عربية مرموقة لتشق طريقها في غمار صناعة النشر وسط بيئة غير جاذبة ولا محفزة، فالدوائر الثقافية الرسمية لم تدعمها عملياً، وعلى الضفة الأخرى كانت دور النشر العربية العريقة والأكثر خبرة على مستويات الشكل والمحتوى والتسويق قد وقفت بشكل ضمني ضد ازدهار الناشر المحلي، فقد اتضح لهم -بحسبة سريعة- مخاطر فقدان سوق استهلاكية رائجة في المملكة والخليج.

دور النشر السعودية مثل: (مدارك وطوى والمسبار وجداول وأثر) بادرت منذ أعوام إلى طباعة الكتب الفكرية التي تعالج القضايا الأكثر جدلاً واختلافاً في المشهد الثقافي، وبعض الكتب الأدبية والاجتماعية، وشقت طريقها لتنافس على حصد نصيبها من كعكة النشر، ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة توضح حجم مبيعات كل دار، فإن المؤشرات تؤكد أنها نافست بقوة، كما أن وجودها المحلي الدائم قد ضمن لها فرصة المبادرة بتلبية حاجات النشر والمكتبات والمراكز الثقافية الوطنية بأية منتجات فكرية حين تطلبها. لكن هذا لا يقلل من الحاجة إلى تفهم شكاوى الناشرين من غلاء مساحات العرض وأجور الشحن وتكبدهم مصاريف السفر والنقل والإقامة لموظفيهم، وهذا ما يجعل هامشهم الربحي منخفضاً خاصة أن بعضها لا تعتمد على الأسماء الرائجة عند طباعة كتبها، بقدر اعتمادها على الكفاءة والجدية البحثية لدى كتَّابها، يضاف إلى ذلك أن منع بعض العناوين أو أسماء الكتَّاب من التداول كفيل بالقضاء على الربح وربما التمهيد للخسارة.

هناك جانب آخر يلفت نظر المتابع وهو مدى جدوى استضافة إحدى دول العالم كل سنة. «السويد» مثلاً كانت ضيفة هذا العام. وبما أننا نعرف ضمناً أن تراث هذه الدولة وثقافتها المعاصرة التي تتشكَّل من الموسيقى والمسرح والسينما والأزياء وفنون التصميم لن نشهدها لأنها غير موجودة ولا مكرسة في مؤسساتنا ومراكزنا الثقافية، فقد توقعت أن يكون الأدب السويدي أكثر حضوراً، وبما أنني لم ألمح حضوراً مميزاً لهذا الأدب في أركان المعرض فقد هرعت إلى جناح السويد. قالت لي الموظفة المشرفة إن الجناح يتوافر على مجموعة من قصص الأطفال وهي غير متوافرة إلاَّ للعرض فقط، وأشارت إلى مجموعة من النشرات التعريفية بوجوه الحياة في السويد، وإلى موقع على الإنترنت لمن أراد معلومات أكثر. قلت لها إنني أطلب أكثر من هذه المعلومات السياحية فتذكرت أن وزير الثقافة السويدي قد ألقى خطاباً في حفل افتتاح المعرض لخَّص فيه وجوه الثقافة السويدية تاريخاً وأدباً. اقترحت هي أن أزور دار المنى المجاورة والتي تنشر الأدب السويدي مترجماً إلى اللغة العربية، حين دخلت الدار الصغيرة بادرتني صاحبة الدار أن كتب جاستين غاردر صاحب رواية (عالم صوفي) الشهيرة وكاتبين مرموقين آخرين قد نفدت، ولم يبق سوى بعض كتب الصبيان والبنات. ثم شكت صاحبة الدار من أنها لا تتلقى دعماً من أحد وأنها أتت كدار نشر خاصة. غادرت جناح السويد وأنا أتساءل لماذا لم يتم مثلاً إحياء ليلة خاصة عن جائزة نوبل، الأكثر شهرة، ولماذا غاب كتَّاب السويد وكتبهم عن معرض هم ضيوفه الشرفيّون ..!.

ما ينبغي قوله أخيراً أن معرض الرياض الذي اشتد عوده بعد كل هذه السنوات، مطالب بوضع مقاييس مهنية ودقيقة لدور النشر المشاركة سواء من حيث حداثة إصداراتها أو من حيث مواصفات تلك الإصدارات شكلاً ومضموناً أو أية شروط إجرائية تلتزم بها، كما أن عليه أن يلبِّي الشروط الشكلية والجمالية القادرة على اجتذاب الزائرين وأن تتم برمجته تقنياً، وأن يحتل الكتاب الرقمي مكانته على الشاشات العارضة، فالكتاب بشقيه الورقي والرقمي سلعة أو منتج ثقافي يخضع لآليات العرض والطلب وعلينا أن نتعامل معه على هذا الأساس.

أضف تعليق

التعليقات