تأمَّل الشعراء والمغامرون في أمواج البحر لقرون، وربطوا بالبحر أحلامهم المتعلِّقة بعوالم بعيدة أقل بؤساً وأغنى. وكان الموج مرسال الهدايا والمنح على مر التاريخ؛ سمكاً ولؤلؤاً ورسائل خبأتها قوارير مختومة. لكن بالنسبة للفيزيائيين، تمثل الأمواج مصدراً واعداً ومتجدداً للطاقة النظيفة (الخضراء). بشكل ربما يفوق مصادر الطاقة البديلة الأخرى من طاقة رياح وطاقة شمسية ووقود عضوي.
ومع أن الأرقام تبدو شديدة التفاؤل بخصوص طاقة الأمواج، إلا أنَّ التأمل في ما لها وما عليها قد يحدّ من الحماسة التي تحوط تقنياتها كحلول للحاجة العالمية المتزايدة للطاقة، والطاقة الكهربائية في المنازل والمنشآت تحديداً.
حين نتحدَّث عن طاقة الأمواج، فإننا نتحدَّث عن (محوّلات الطاقة الموجية)، تلك التي تستغل حركة المياه لتولِّد منها قوى تُستغل إما في توليد الكهرباء أو تحلية المياه، أو سواها من الأشغال التي تقوم بها محركات الديزل البديلة وسواها.
لكن حركة الأمواج ما هي إلا أثر لحركة الرياح على سطح الماء. وبالتالي يمكننا القول إن الطاقة الموجية التي نحن بصددها ما هي إلا وجه آخر لاستغلال الرياح. لكن وفيما تتطلَّب مزارع الرياح مساحات شاسعة من الأراضي المنبسطة لنصب عشرات أو مئات المراوح الهائلة، فإن مزارع الطاقة الموجيّة تنبسط على وجه البحر أو قاعه فلا تعيق التقدم العمراني ولا تشوه شكل الأفق.
وتشترك مولدات الطاقة الموجية مع مراوح طاقة الرياح في كونها لا تنتج أية ملوثات ولا تستهلك وقوداً كربونياً. لكن هذا لا يعني أنها لا تؤثر، بالسلب أحياناً، على البيئة البحرية المحيطة بها. كما ويكمن الاختلاف الأكبر بين الأمواج والرياح في كون كثافة التيار المائي تفوق كثافة تيار الهواء بـ 800 مرة، ما يجعل الماء أكثر فعالية من الهواء في إدارة العنفات أو التوربينات التي تحول الطاقة الحركية إلى كهرباء. إذ إن تياراً بحرياً سرعته 12 ميلاً في الساعة ينتج قوى دفع تعادل تياراً هوائياً سرعته 110 أميال في الساعة! وبالنتيجة ففيما تقاس المحصلة الكهربائية لمزارع الرياح بالميغا (مليون) واط-ساعة سنوياً، فإن سوق الطاقة الموجية على مستوى الكرة الأرضية يقاس بالتيرا (مليون مليون) واط-ساعة سنوياً.
أين يمكن استغلالها؟
كما أن هناك خرائط لأبرز معاقل الطاقة النفطية أو الشمسية، تتفوق بعض الدول حالياً في استغلال طاقة الأمواج. ومرد هذا التفوق جزء منه جغرافي، يتمثل في وجود سواحل ممتدة ذات مياه عميقة وأمواج مستمرة على مدار العام، وجزء منه تقني وفني لا يمكن تحقيقه إلا بوجود الخبرات والمعدات اللازمة لاستغلال تقنية الطاقة البديلة هذه.
يعود تاريخ التطبيقات الأولى للطاقة الموجية إلى أواخر القرن التاسع عشر. وقد نشطت الأبحاث المتعلِّقة بها بشكل ملحوظ منذ التسعينيات الميلادية. ومنذ العام 2008م تُعد منشأة Aguçadoura في بيلاميس البرتغالية بمنزلة أول (مزرعة طاقة موجية) في العالم، وقد قُدِّرت الطاقة الإنتاجية لهذه المزرعة بنحو 2.25 ميغاواط-ساعة في العام، على الرغم من أنها لم تلبث أن أغلقت بعد أسابيع من افتتاحها تحت وطأة الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم في ذلك العام.
حين يزيد مستوى الماء بهذه الخزانات عن مستوى الماء المحيط فإن مسارها سينعكس تلقائياً بفضل الجاذبية الأرضية لتعود إلى المحيط عبر فتحات دخولها…
وبشكل عام، يقدّر عدد مؤسسات تطوير تقنيات الطاقة الموجية حول العالم بمئة وثلاثين مؤسسة، تتركز 35 منها في المملكة المتحدة. وتمثل إنجلترا وأسكتلندا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا وجنوب إفريقيا دولاً رائدة أو واعدة في هذا المجال. وهي كلها كما نلحظ دول تواجه تحديات إما على صعيد شح مصادر الطاقة الأولية، أو ارتفاع الكثافة السكانية على السواحل، ما يجعل الاعتماد على الطاقة الموجية مجدياً اقتصادياً.
وبالتركيز على الحالة الأمريكية تحديداً، نجد أن تقريراً أصدره معهد أبحاث الطاقة الكهربائية (EPRI) عام 2011م، يتنبأ بالمكاسب الأمريكية الكامنة في هذا المجال، فيقدّر كمية الطاقة الموجية الممكن استخلاصها على طول السواحل القارية لأمريكا بأكثر من 2.6 تيراواط-ساعة في السنة، مع العلم بأن تيراواطاً واحداً كفيل بتزويد أكثر من 90 ألف منزل أمريكي بالطاقة الكهربائية اللازمة على مدار العام.
إلا أن هذه الأرقام تظل مغرقة في التفاؤل وغير واقعية تماماً، حيث إن البحار ليست مكرسة كلياً لمعدات المولدات الموجية طوال الوقت. بل إن البحار والسواحل تحديداً، تتنازعها جهات عدة تشمل الموانئ بسفنها وناقلاتها، ومراكب الصيد، والعمليات البحرية التابعة للجيش وسواه من أجهزة الدولة، فضلاً عن مصارف المجاري والملكيات الخاصة. وبالنتيجة فليس كل ما هو بحر قابل للاستثمار مَوجياً. وإن كان من الواقعي افتراض أن ثلث الحاجة الكهربية للولايات المتحدة (ما يعادل 1.2 تيراواط-ساعة سنوياً) يمكن تحصيله موجياً في أحسن الظروف إذا لم تكن ثمة عوائق فنية أو مالية.
ويكشف الجدول في الصفحة المقابلة القدرة الإنتاجية المتوقعة على طول سواحل الولايات المتحدة وفقاً للمختبر الوطني للطاقة المتجددة NREL.
عدة تقنيات والفكرة واحدة
وبطبيعة الحال، يمكن لإنشاء محطة كهرباء موجية أن يقوم وفقاً لعدة تقنيات وأساليب هندسية. وتصنف محطات الطاقة الموجية تبعاً لطريقة اصطياد الموجة، ووفقاً لبعدها عن الشاطئ أو توغلها في المياه العميقة، ما يؤثر مباشرة في مردود المحطة. حيث إن المحطات التي تقام بعيداً عن الشاطئ تناسب المياه ذات الأعماق التي تتجاوز الأربعين متراً. وتتشارك محطات طاقة الأمواج في أن الجزء المتحرك منها يجب أن يكون قريباً من سطح الماء ومن الأمواج. وفيما يلي سرد لأبرز تقنيات اصطياد الأمواج واستخلاص طاقتها الحركية:
• كسّارات الأمواج (Terminator): طُوّرت الكسّارات أساساً للاستخدام على الشواطئ أو قريباً منها. تدخل الموجة هنا عبر فتحة تحت مستوى الماء إلى حجرة هوائية. وتتسبب حركة الموجة في تحريك الهواء الذي يحرك بدوره عموداً كبّاساً مرتبطاً بمراوح توربينية تشغل المولدات الكهربية. وبحسب حجم المولد وطبيعة الأمواج في المنطقة يمكن أن نحصل من كل كسارة على طاقة تتراوح بين 500 كيلو و2 ميغا واط.
• المثبطات (Attenuators): وهي عبارة عن هياكل طافية متعددة الأجزاء، تسبح كالسفن الطويلة في المياه العميقة وتوجّه لتتوازى مع اتجاه الموجة، بحيث تتحرك أجزاء المثبط موجياً مع حركة الماء. وفي المفاصل المتحركة التي تربط أجزاء هذه الأجهزة يتم تركيب مضخات هيدروليكية تتغذى على الطاقة الحركية وتنقلها إلى مولّد مثبت في مقدمة الجهاز. ويضخ هذا المولد الطاقة المجمعة عبر كابل إلى محطة التوزيع الرئيسة على الشاطئ.
• نقاط الاستيعاب (Absorbers): كل نقطة استيعاب هي عبارة عن هيكل عائم يحتوي على مكونات تحرك بعضها بعضاً مع حركة الأمواج. ويمكن تشبيه كل منها بالعوامة الطافية على بعد 3 كلم عن الساحل وبداخلها أسطوانة مكبس أو محرك حث مغناطيسي. ومع حركة الموجة صعوداً وهبوطاً تتحرك العوامة ومعها المكبس ما ينتج عنه طاقة كهربائية على النمط المعتاد في التقنيات الأخرى.
• الخزانات المرتفعة (Overtopping Devices): ويسمى أحدها كذلك بالتنين المائي. تُنصب هذه الخزانات خاوية في عرض البحر ابتداءً، بحيث ترتفع حواف جدرانها فوق مستوى سطح الماء المحيط. ثم تتم تعبئتها عبر فتحات في القاع. وحين يزيد مستوى الماء بهذه الخزانات عن مستوى الماء المحيط فإن مسارها سينعكس تلقائياً بفضل الجاذبية الأرضية لتعود إلى المحيط عبر فتحات دخولها، لكن يتم تمريرها عبر مراوح توربينية تغذي مولدات كهربية. ويحسب على هذه التقنية أنها قد تهدِّد مستوى المياه حول الشواطئ عند تفريغ الخزانات ما يستدعي بناء سدود واستحكامات حول المزارع التي تعتمدها.
ما لها وما عليها
يظهر من الاستعراض السريع أعلاه لتقنيات توليد الطاقة من الأمواج اعتمادها على المبدأ نفسه. وبغض النظر عن التقنية المعتمدة، فإن كل تجمع لأي من الأجهزة المذكورة، تنتج عنه مزرعة للطاقة الموجية. وكما يتضح فهذه المزارع تتطلب تخصيص مساحات كبيرة من المسطح المائي على مسافات مختلفة من الشاطئ، ما يحدّ بشكل كبير من حرية الملاحة ويستتبع استحقاقات لوجستية وبيئية عدة.
يقدّر عدد مؤسسات تطوير تقنيات الطاقة الموجية حول العالم بمئة وثلاثين مؤسسة، تتركَّز 35 منها في المملكة المتحدة.
وبشكل عام يمكن تعداد ميزات مزارع طاقة الأمواج في النقاط التالية:
1. طاقة متجددة: الأمواج وافرة عند كل الشواطئ وهي موجودة دائماً ولا تنفد ما دامت الأرض تدور حول محورها. وهي ليست مرتبطة بموسم حصاد كالذرة التي يقوم عليها وقود الإيثانول ولا تختفي في الليل مثل الشمس وهي أعظم كفاءة من الرياح كما أسلفنا.
2. صديقة للبيئة: إذ تمثل الأمواج مصدراً نظيفاً للطاقة بلا غازات عوادم ولا مخلفات صلبة أو إشعاعية. بل هي تعطي كهرباء ناتجة عن طاقة حركية صرف.
3. مجموعة متنوعة من طرق الاستغلال: مهما تعددت الأساليب والتقنيات يظل الأصل واحداً. بل إن محطات حصد الأمواج يمكن أن تنشأ كما أسلفنا على أراضي الشواطئ، وبعيداً عنها بل وداخل السفن والناقلات الكبرى.
4. صديقة للأرض: تتجنب الأرض اليابسة تماماً. ولا تترك حفراً وأخاديد ولا تسبب خسوفاً في الطبقات الأرضية. ولا تعرقل الاستثمار العقاري والزراعي والامتداد السكاني كما تفعل مزارع طاقة الريح والطاقة الشمسية التي تحجز مساحات شاسعة من الأرض لأجل معداتها.
لكن تظل هناك معوقات وسلبيات بطبيعة الحال، منها:
1. ليست مناسبة لجميع المواقع: فهذا المصدر يكاد يكون مكرساً للمناطق الساحلية فحسب، حيث يعيش %40 من الناس. لكن ماذا عن سكان المناطق الداخلية أو الصحاري أو الجبال؟ هنا ستتضخم تكلفة النقل بشكل كبير مما قد ينفي الجدوى الاقتصادية.
2. التأثير على النظام البيئي البحري: لا شك في أن وضع المعدات الضخمة لمزارع طاقة الأمواج بالقرب من الشواطئ وحتى في العمق البحري سيؤثر في حياة كثير من الكائنات البحرية وسيهز استقرار بيئتها. ولا نضمن حدوث تسرب في الزيوت والمركبات الكيميائية التي تدخل في تكوين آليات مصائد الأمواج. كما وأن تقنيات حصد الطاقة التي تضخ أطناناً من المياه إلى القاع ستغير من إيقاع المنظومة الحيوية في المناطق المحيطة بها ولا يمكن إغفال هذا التأثير السلبي.
طُوّرت الكسّارات أساساً للاستخدام على الشواطئ أو قريباً منها. تدخل الموجة هنا عبر فتحة تحت مستوى الماء إلى حجرة هوائية. وتتسبب حركة الموجة في تحريك الهواء الذي يحرِّك بدوره عموداً كبّاساً مرتبطاً بمراوح توربينية تشغل المولدات الكهربية.
3. معيقة للملاحة: إذا تم استغلال كافة الشريط الساحلي لدولة ما وتم نشر مزارع طاقة الأمواج على امتداد كل الشواطئ، فسيكون ذلك بمنزلة ضرب للحصار البحري، إذ إن السفن والمراكب البحرية لن تتمكن من النفاذ إلى البحر الواسع. وبالتالي، فالأفكار النظرية الخاصة بالحد الأعلى للطاقة الممكن توليدها من حركة الأمواج لا يجب أن تؤخذ كما هي، بل يجدر تقليصها بشكل حاد بالنظر للحاجة الكبرى للحفاظ على البحار مفتوحة.
4. الطول الموجي: طاقة الرياح تعتمد بشكل كبير على الطول الموجي، أي سرعة الموجة، وطول الموجة، وكثافة المياه. كما أنها تحتاج إلى تدفق ثابت من موجات قوية لتوليد كمية كبيرة من طاقة الأمواج. وبعض المناطق تعاني من سلوك موجي لا يمكن التنبؤ به بشكل دقيق، وبالتالي لا يمكن الوثوق بها كمصدر للطاقة يمكن الاعتماد عليه.
5. تتأثر بحالة الطقس: قد لا يركد البحر تماماً. لكن الأمواج قد تضعف جداً وقد تضربها الأعاصير. وهذا سيؤثر على ثبات الإنتاج وعلى الاعتمادية النهائية على المنظومة ككل.
6. صعوبة الصيانة: نعرف جميعاً كيف تتأثر خدمة الإنترنت حين يتعطل الكابل البحري العالمي. بالمثل، ولكون كثير من تقنيات توليد الطاقة الموجية تعتمد على نشر معدات في البحر البعيد ونقلها سلكياً إلى اليابسة، فلنا أن نتخيل الصعوبات التي قد يواجهها فريق الصيانة لو اتضح أن واحداً من عشرات أو مئات نقاط اصطياد الأمواج قد انقطع «كابله»، أو تعطلت آلياته. مع التأكيد على صعوبة التنقل عبر البحار وبطئه مقارنة بالحركة على البر، لا سيما في المناطق البحرية المتقلبة ذات الأمواج العاتية، التي تُعد، طبيعياً، الأمثل لتطبيق هذه التقنيات.