نشرت مجلة “قافلة الزيت” في عددها رقم 299 عام 1979م، تحقيقاً مصوراً مطولاً عن جزيرة صقلية إبَّان الوجود الإسلامي فيها، وما بقي من أثر تركه الفاتحون المسلمون حتى اليوم. والتحقيق الذي حمل عنوان “صقلية…ابنـة الأندلس” كتبه عضو هيئة التحرير حينها سليمان نصرالله. هنا نعرض لمقتطفات منه:
صقلية تلك الجزيرة الخضراء الواقعة في قلب البحر الأبيض المتوسط، مرَّت عبر تاريخها بفترات حضارية عريقة متفاوتة في تأثيرها في المحيط الإنساني. بيد أن الفترة الإسلامية في تاريخ الجزيرة احتلت مركزاً مميزاً واعتبرت من أزهى الفترات التي مرَّت بها، حيث بلغت العصور الوسطى أوج ازدهارها وتقدّمها الاقتصادي والعمراني والعلمي، حتى عدت العاصمة “بالرمو” في طليعة المراكز العلمية الإسلامية، شأنها في ذلك شأن بغداد ودمشق والقيروان والقاهرة والمدينة المنوّرة وقرطبة وإشبيلية وغيرها.
كانت صقلية موئلاً لنخبة من مشاهير العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والصنّاع والحرفيين الذين كانوا ينتسبون إليها وإلى مدنها كالصقلي والسمنطاري والجرجنتي والسرقوسي والمسيني. فانتعشت الحركة الفكرية والعمرانية والزراعية في الجزيرة، مما جعلها كوكباً ساطعاً في ظلام العصور الوسطى الذي خيّم على أوروبا، وكانت كالأندلس سبباً مباشراً في إيقاظ أوروبا من سباتها.
فتح الجزيرة … وازدهارها
يعود اهتمام المسلمين بصقلية إلى فجر التاريخ الإسلامي، إذ كانت أول حملة عسكرية على الجزيرة خلال خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، أي بعد نحو عشرين عاماً من وفاة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، إذ قام معاوية بن أبي سفيان والي الشام، بإرسال حملة بحرية إليها، وهذه الحملة كانت امتداداً للحروب والمعارك التي قامت في الشرق ضد الإمبراطورية البيزنطية. وبعد ذلك تكرَّرت المحاولات الإسلامية لغزو صقلية. وبعد النجاح في غزوها اتخذ المسلمون من “بلرمة” أو “المدينة” كما سمُّوها عاصمة لهم لجودة مينائها وخصوبة المنطقة حولها. ولم تلبث “بلرمة” أن غدت من المراكز العلمية المرموقة بعد هجرة العلماء والفقهاء والصنّاع إليها. وأخذ المسلمون بإنشاء المساجد في العاصمة حتى بلغت 300 مسجد ونيف. أضف إلى ذلك القصور والأسواق والقنوات والحمامات التي أسهب في وصفها مؤرخو العصور الوسطى.
إن تاريخ صقلية إبَّان الحكم الإسلامي الذي امتد إلى ما يربو على القرنين، عكس عليها التغييرات السياسية التي وقعت في الشمال الإفريقي والشرق. فقد تولَّى الفاطميون الحكم بعد الأغالبة ثم انتقل زمام الأمور إلى “الكلبيين”. بيد أن الأعمال البارزة التي تحقَّقت في الجزيرة لم تكن سياسية، فقد أصبحت تحت الحكم الإسلامي أهراء العالم. فبينما اهتم البيزنطيون والرومان قبلهم بزراعة القمح فقط، أدخل العرب المسلمون محاصيل زراعية جديدة إلى الجزيرة كالقطن والحمضيات والنخيل والقنب وقصب السكر والتوت والبردي والبطيخ والسماق والزهور، وذلك باتباع أساليب ري جديدة، والقضاء على الإقطاع وتوزيع الأراضي، الأمر الذي أنهى الركود الاقتصادي والاجتماعي وبدأ عصر الازدهار الشامل في صقلية. فكانت “بلرمة” وضواحيها عامرة بالبساتين والمتنزهات والقوارب والطواحين على وادي عباس. وقد واكب التطور الزراعي ظهور عدد من الصناعات الوثيقة الصلة بالزراعة، كصناعة النسيج والسكر والحبال والحصر والحرير والورق الذي دخل أوروبا عن طريق صقلية. أضف إلى ذلك صناعة السفن التي قامت على أشجار الغابات كالبلوط والجوز والقسطل. وقد اكتسب الحرير الصقلي شهرة واسعة حتى إن الحكَّام كانوا يحرصون على أن تكون حللهم من الحرير الصقلي. كما طوّر العرب في صقلية أساليب التعدين، فاستخرجوا الكبريت والفضة والرصاص والزئبق والنفتا والزاج والكحل والشب والملح الصخري.
هذه النهضة الزراعية والصناعية واكبتها نهضة عمرانية نشطة في أرجاء الجزيرة وخاصة في العاصمة “بلرمة” التي أصبحت تضاهي القسطنطينية والقاهرة في ذلك العصر. وقد انعكست أبعاد هذه النهضة على المباني والمساجد والشوارع والحدائق والفوارات والبساتين والطواحين والمتنزهات والميادين العامة والأروقة المقنطرة المسقوفة، التي تغنى بها الشعراء والأدباء والرحالة المسلمون. فهذا ابن جبير الذي زارها بعد أن استولى النورمان على الجزيرة يطنب في سرد محاسن مدينة “بلرمة” ومزاياها، فيقول: “هي بهذه الجزائر أم الحضارة والجامعة بين الحسنيين: غضارة ونضارة، فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، عتيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تتطلع بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، عجيبة الشأن، قرطبية البنيان، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذّان، يشقها نهر معين ويطرد في جنباتها أربع عيون”.