حين بلغتْ الألفية الثانية تمامها، كان لنا أن نلتقي… أن يكتشف كل منا الآخر.
قبلها، كنا نلتقي في تلك السنوات المعطوبة من نهايات القرن البائد، من دون أن يتمعن أحدنا في وجه الآخر،… أعبر إلى جواره ولا يثير شيئاً من فضولي. يصادفني من غير رغبة في أن تلعب المصادفة دوراً أكبر من حجمها الطبيعي.
فيما بعد، كنا نفتتح الألفية الثالثة سوياً في ملتقى شعري كان يقام كل شهر تقريباً في نادي جدة الأدبي. كان كل شيء يتساقط في ذلك الزمن: النظريات والأوهام والأقنعة والملاحق والقناعات والأندية الأدبية.. وحتى الكثير من الأصدقاء، أولئك الذين كنا نظن الحياة لا تطاق من دونهم.
كان على الألفية الجديدة أن تمحو كل ما سبقها، لكي تعلن عن حضورها المدمر… التقينا في تلك اللحظة التي بلا ماضٍ. كنا أنا وهو (الصديق الشاعر عبدالرحمن الشهري، المعنيّ بهذا النص) هاربين من أمر ما، من جريمة ما، من قصيدة ما ارتكبناها في لحظة طيش شعري خارج عن إرادتنا، لذلك لم يسأل عن ماضيَّ، ولم أسأل عن ماضيه… كانت الأسئلة التي نطرحها مع كل لقاء من نوع: كيف نهرب؟ كيف نكتب؟كيف لا أشبهه؟ كيف لا يشبهني؟ كيف لا نشبه الآخرين؟…
ميزة علاقة من هذا النوع أنها تأتي بلا عقد، بلا تاريخ، بلا ماضٍ… لا يلتفت الناس في لحظات الهروب إلى الوراء، بل ينظرون إلى الأمام دائماً. لا وجود للسؤال: «من أين أتيت؟»، لا وجود إلا لسؤال واحد: «إلى أين تذهب؟».
الشعر هنا هو محاولة لترميم الذاكرة. ربما لطلب الغفران من أولئك الذين لم نُعرهم اهتماماً مناسباً في الماضي، لا لأنهم كانوا هامشيين في حياتنا، بل لأننا كنا ندخرهم للمستقبل.
قبل عشرين سنة
( لا بد أنها كانت عشرين سنة )
كان يمشي
( مؤكَّدٌ أنه كان يمشي )
في البهو الدائري للنادي الأدبي…
أمر بجواره
( حتما كنت أمر بجواره )
لا ألقي عليه الشعر أو السلام
ولا يستدير ناحيتي ليحرسني
بكلماته العذبة
كنا فقط نتدبر أمور الحياة
بما تيسر لنا من ذكريات
وأصدقاء …
بعدها بسبع سنوات
( هي في الغالب سبع سنوات )
كان يشير إلى جسده المثقل بالطعنات
ويقول لي : هذا هو كتابي …
كنت أكشف له عن الندوب الكثيرة
التي تعتور كلماتي
وأقول له : هذه هي هلاكي …
الآن …
بعد كل هذه السنين
نتدبر ( أنا وهو )أمورنا
بعناية شعرية خالصة
نعالج فارق الطول بيننا
بالجلوس في المقاهي السرية
والامتناع عن السير في الطرقات العامة…
لم أصعد إليه
ولم يهبط إلي
التقينا في منتصف الطريق
حين جلسنا سويا
على طاولة واحدة .