طاقة واقتصاد

من يشتري سمكاً في شباك إلكترونية؟

  • People on Communication Globe
  • 134506-050-FBF4B020
  • CO-017-0131(1)
  • drawings
  • Picture 1

ثمة ما يثير الحيرة أمام شبكة الإنترنت. فبعضها يقدِّم لنا مجاناً كل ما جاء في صحف العالم، وبعضها يسمح لنا بتبادل الرسائل مجاناً، وبعضها الآخر يوفِّر مجال إجراء المكالمات دون المرور بالهاتف التقليدي وأيضاً.. مجاناً. وهذا ما كان يستحيل تخيله قبل أعوام قليلة. وكل هذه الخدمات تتطلب طواقم بشرية ضخمة وتقنيات مكلفة جداً، بما فيها الأقمار الصناعية اللازمة لذلك. فمن أين تأتي هذه المواقع بالأموال اللازمة لذلك؟ وبماذا يستفيد موقع «فيسبوك» مثلاً عندما يوفر لنا مجالاً للدردشة من بلد إلى آخر، ودون حدود، و..مجاناً. يوسف الديني يجيب: الإعلانات. والأرقام التي يوردها حول حجم صناعة الإعلانات على هذه المواقع مثيرة فعلاً للدهشة.

«لم تُبن روما في يوم وليلة»، كذلك الحال بالنسبة لاقتصاديات الإنترنت التي ظلت في بداياتها موضع تشكيك ولمز من قبل أنصار المدرسة القديمة في الاقتصاد والأعمال والتسويق.

وعلى امتداد الفترة الزمنية الطويلة التي ترسخت فيها بُنى الشبكة العنكبوتية التحتية، مما جعلها تزداد انتشاراً وتعقيداً، كان «الحرس القديم» ينظرون إليها كفقاعة تتضخم بوتيرة متسارعة، وأخذ يقينهم يزداد هو الآخر تضخماً بقرب انفجارها.

لكن الإنترنت كأحد تمثلات الحداثة وما بعدها، كانت تجد في موتها انبعاثاً بشكل مختلف ومغاير تماماً، ومن هنا ولد ما بات يعرف بـ «الجيل الثاني من الويب» الذي تميز بخصائص عديدة على مستوى السرعة، بسبب تحسن مستوى النطاقات العريضة وانخفاض التكلفة والتخفف من أعباء الضغط على الشبكة، وهذا ما زاد من حجم المستخدمين بشكل مطرد.

هناك شخصيات أدبية وفكرية وفنية عديدة كانت تتساءل حول مستقبل الإنترنت، وحدود هذا الهوس به، ومدى صدقية الإعلان فيه؛ وما يُروى من أرقام فلكية كأرباح لبعض المواقع أو حتى لقيمتها السوقية عند التقويم أو البيع.

ومن الممكن تفهم هذه التساؤلات لأنها تشكك بالقيمة المادية وما تعنيه من قيمة سوقية، ومداخيل، وأرباح، بناءً على النظر إلى القيمة الاعتبارية. بمعنى: مدى ملاءمة محتوى الإنترنت للقيمة مقارنة بالمحتوى الجاد.

حتى على مستوى «المحتوى» القيمي، تطورت الإنترنت كثيراً من مجرد ملهاة عوالم افتراضية إلى أداة بحثية ومعرفية، وأسلوب معيشي مفتوح على كل المستويات. لكن تلك ليست قصتنا.. القصة هنا: كيف تربح مواقع الإنترنت، وظاهر مداخيلها لا يوحي به باطن ما تقدمه من خدمات مجانية في الأغلب؟

وللإجابة عن مثل هذا السؤال، يجب أن نستدعي بكثير من التأمل، القاعدة التسويقية التي تؤكد أن نجاح أي مشروع إعلاني يعتمد على النموذج الذي يُبنى عليه. وكما نعلم فإن نموذج الأعمال في قطاع التقنية مبني على «الابتكار»، أو كما يقال عادة في التعبير الاقتصادي البسيط «تقديم اقتراحات للقيمة مقنعة وتنافسية بحيث لا تتوافر في مكان آخر».

تتغير القوالب.. والإعلانات واحدة
إذن الإعلان على الشبكة العنكبوتية هو في النهاية شكل ترويجي يهدف إلى تقديم رسائل تسويقية لجذب زبائن جُدد. من هنا، فإن تصفحك البريء لصفحة إنترنت تبدو لك فارغة من أي فواصل إعلانات مزعجة ومملة جعلتك تفر مكتئباً من التلفاز إلى شاشة الكمبيوتر، لا يعني سوى أنك انتقلت إلى مستوى آخر من الإعلان. فالزوايا الإعلانية (البانرز) التي تحيط برأس الصفحة وجوانبها وأسفلها، والوسائط التي تعمل في الخلفية، والدردشة مع أشخاص يقاسمونك الاهتمامات نفسها، والبريد الإلكتروني الذي لا تعلم حقيقة من أرسله لك، كلها أشكال ترويجية. دعك من هذا كله، مجرد نقرك المتواصل من الصفحة الرئيسة دخولاً في تفاصيل الصفحات الداخلية ثم في تفاصيل أخرى، وانتقالك أحياناً إلى مواقع أخرى، هي في النهاية أرقام مدفوعة الأجر. لأنها تعني الكثير لمالك الموقع الذي سيذهب مملوءاً بالفخر والإنجاز إلى المعلن ليقدِّم عدد زوار الموقع، وتفاصيل دخولهم، وكل المعلومات البيوغرافية عنهم.

كانت البداية لظهور الإنترنت كمنافس إعلاني مع شركة «Hotwired» عام 1994م، حين حققت الشركة أرباحاً تُعد ضئيلة إذا ما قورنت بالعوائد التي تجنيها شركات رائدة في هذا المجال. وإن كانت الخلفية التي مهدت لظهور الربحية من الإعلان على شبكة الإنترنت بدأت مبكراً مع ظهور خاصية «الوصلة» (Links) بمواقع أخرى مثل شركة «AT&T» التي وضعت على موقعها وصلة ربط للموقع، مقابل قيام هذا الموقع بوضع نقطة ربط بموقع «GNN».

منذ ذلك الوقت، كرت سبحة الإعلانات التي تستهدف شريحة مستخدمي الإنترنت. وراحت الشركات الكبرى تتنافس على وضع إعلاناتها على الشبكة. وعلى سبيل المثال دفعت AT&T وHotwired مبلغ عشرة آلاف دولار شهرياً عام 1997م، مقابل كل وصلة (link) يتم وضعها على الموقع. بينما بلغت تكلفة تثبيت «بانار» دعائي على موقع ياهو في العام نفسه مائة ألف دولار شهرياً.

المقارنة لصالح الإنترنت
وإذا كنت منحازاً للإعلان التقليدي، أو غير مؤمن بجدوى مثل هذه الإعلانات، بمعنى آخر؛ إن كنت من أنصار المدرسة الكلاسيكية في الإعلان، فربما من المفيد أن تفكر في خصائص الإعلان على الإنترنت.

وبمقارنة بسيطة، يظهر امتياز الإعلان على الشبكة عن نظيره في وسائل الإعلام التقليدي الأخرى، مثل الصحف والمجلات والتلفزيون والراديو، بعدد من الخصائص الجوهرية، تتصل في كثير منها بطبيعة الإعلان وهوية المعلن، وحتى لغة الإعلان، وطريقة بقائه في الذاكرة عبر حيل نفسية عديدة. وأهم هذه الخصائص هي:

تستطيع أن تعلن في الإنترنت ويبقى إعلانك متاحاً للشريحة المستهدفة طيلة الوقت خلال 365 يوماً في السنة، في أي مكان في الكرة الأرضية موصول بالشبكة، وبالتكلفة نفسها مهما كان المستخدم. وفي أحيان كثيرة، تكون مثل هذه التكلفة أقل بكثير من تكلفة صفحة في مجلة شهيرة أو إعلان مصور خاطف للأنفاس في وقت الذروة لمحطة تلفزيونية، ذات حضور متوسط على مستوى الجغرافيا، وعدد المشاهدين.

وفي الإعلان التقليدي أنت مستهدف ومتلقٍ فقط. بينما في إعلان الإنترنت أنت فاعل.. تستطيع أن تناقش وتنافس وتتفاعل مباشرة مع الجهة المعلنة. كما أنه يمكنك أن تبقى مستهدفاً بالمنتجات الموجهة إلى اهتماماتك.

وفي إعلان الإنترنت، على عكس الإعلان التقليدي، لا يتوقف قرار الشراء على خطوة لاحقة تقدم عليها بعد حين. فتبرد همتك، أو تغيِّر رأيك، بل أنت قادر على الشبكة أن تذهب بقرارك إلى أقصاه، فتشتري السلعة فوراً، وتتابع مراحل انتقالها إلى أن تصلك. كما يمكنك أن تسأل وتناقش أثناء ذلك مخاوفك أو رغباتك في المنتج. فخدمات ما بعد البيع عادة ما تكون متاحة وبشكل سلس ومرن.

وكمعلن، تستطيع أنت أن تغيِّر إعلانك في أي وقت، أو أن تضيف إليه حزمة طويلة من الإمكانات التي توفِّرها التصاميم الإبداعية، وأن تستغل قدرة الوسائط المتعددة الفائقة على التجدد والإبهار. كما أنك في شريحة الإنترنت ستوفر الكثير من تكاليف دراسة العملاء، إذ إنك تفترض عادة مجموعة من العلامات الدالة لكل عميل بإمكانه استخدام الإنترنت بشكل جيد.

أبرز المزايا في الإعلان على الشبكة
يوفِّر الإعلان في الشبكة العنكبوتية العديد من المزايا منها:
• التواصل المباشر بين المعلن والمستهلك.
• المرونة في توصيل الرسالة الإعلانية بأسلوب مبتكر.
• وجود الإعلان بصفة متكررة ودائمة أمام أعين المستخدمين.
• القدرة على إيصال معلومات أكثر عن مادة الإعلان (السلعة)، وإجراء استطلاعات للرأي حولها.
• إتاحة الفرصة للمعلن لمعرفة مدى فاعلية الإعلان من خلال التقارير الإحصائية بشكل دقيق، مثل عدد المشاهدين الذين اطلعوا عليه، وهذا ما يصعب احتسابه بدقة في التلفزيون، أو في الدوريات المطبوعة.
• تتيح تقنيات التصميم وضع الإعلان بأشكال متغيرة، وإضافة الكثير من المؤثرات إليه، مثل الفلاش والصور المتحركة.
• إمكانية تحديد الفئة المستهدفة من الحملة الإعلانية حسب الدولة، والمدينة، والجنس، والعمر، والمهنة، ومستوى التعليم، والحالة الاجتماعية.

أما الدافع الأكبر للمعلنين على شبكة الإنترنت فهو أن الشريحة المستهدفة تأتي للبحث عن محتوى محدد، وغالباً في اللحظة النفسية الأكثر ملاءمة لعرض المنتج عليه. هذا المنتج الذي يصل إليه في قالب صمم خصيصاً له.

وحتى لا تبدو الأمور حالمة، فإن ثمة عيوباً أساسية تتصل بطبيعة الإعلان على الإنترنت، لكنها في طريقها إلى التلاشي بحكم تطور المجال ودخول شرائح جديدة باستمرار إلى السوق. من تلك المخاطر والصعوبات افتقار الكثير من الشركات إلى دراسة دقيقة لحجم السوق، وملاءمته لكثير من المنتجات. كما أن الإقبال على الإعلانات المباشرة ما زال ضعيفاً، مما حدا بالمطورين إلى إعادة النظر في طبيعة شكل الإعلان، وتطوير محتوى شبه تلفزيوني يعتمد على التأثير البصري، ومحاولة منافسته في تقديم بدائل خاصة، انطلاقاً من أن الشريحة الكبرى ما زالت تقضي ساعات أطول أمام الشاشة الفضية، وتفهم لغتها الأليفة جداً.

الإعلانات بالبلايين
إن سوق الإعلانات على الإنترنت واعدة جداً. فعلى سبيل المثال، احتوى موقع «فايسبوك» على ما يقارب 1 تريليون إعلان في العام الماضي. إذ بلغ عدد الإعلانات المعروضة على هذا الموقع خلال الربع الثالث من هذا العام الفائت، حوالي 297 بليون إعلان، أي ما يمثل %23.1 من إجمالي سوق الإعلانات العالمي على الإنترنت.

ويلي «فيسبوك» موقع «ياهو» حيث بلغ عدد الإعلانات المعروضة عليه حوالي 141 بليون إعلان، أي حوالي %11 من إجمالي سوق الإعلانات. وحلت «مايكروسوفت» في المركز الثالث، حيث بلغ عدد الإعلانات المعروضة على موقعها حوالي 64 بليون إعلان، وهو ما يعادل %5 من إجمالي هذا السوق. بينما أتت «فوكس» في المركز الرابع بحوالي 48 بليون إعلان، أي بنسبة %3.8 فقط.

أما «جوجل»، المنافس الأشرس، فاحتل المركز الخامس بنحو 35 بليون إعلان وحوالي %2.5 من إجمالي سوق الإعلانات.

عربياً، لا يزال الإعلان على الإنترنت يخطو ببطء شديد، ويؤكد الخبراء أن هذا يعود إلى قلة المحتوى العربي الجيد، وعدم وجود معلومات كافية عن الشرائح المستهدفة. إلا أن هناك تجارب كثيرة ناجحة تشي بمستقبل أفضل. ونحن نعلم، مؤخراً، شراء «ياهو» لشبكة «مكتوب» بالكامل. في صفقة ضخمة تجاوزت المائة مليون دولار. ولا بد للمشتري من عمل يرد إليه ما دفعه.. مضاعفاً على الأرجح.

أضف تعليق

التعليقات