الرثاء واحد من فنون الشعر الأبلغ أثراً في النفوس. لقدرته على جمع المديح والمحبة والمودة والوفاء والتأمل في القصيدة الواحدة. ولم يتوقف الشعراء العرب في هذا الفن على رثاء إخوانهم من بني البشر, وإنما بكوا أيضاً الحيوان, كما يظهر هنا في هذه الأبيات التي جمعها لنا صلاح عبدالستار الشهاوي.
إن اهتمام الشاعر العربي بالطير والحيوان قديم جداً -إذ كانت البيئة البدوية أهم مصدر من مصادر الإلهام الشعري لديه- ولذلك رأيناه يصف الفرس والناقة والنعامة والظبي والظليم وغيرها. وجعل ذلك ركناً أساسياً من أركان قصيدته وعنصراً بارزاً من عناصر منهج الأغراض فيها. ومن الحيوانات التي حظيت برثاء الشعراء العرب، حمام القمري والماعز والطاووس والديك والحمار والبلبل والهر والكلب.
وقد اشتهر برثاء الطير والحيوان عدد كبير من الشعراء.. أول ما يصادفنا من أشعارهم الكثيرة في ذلك، أبيات للشاعر ابن العلاف النهرواني العباسي في رثاء قط. وقد كان القط المرثي شرهاً يأكل طيور الجيران، فترصده الموتورون وقتلوه شر قتلة فقال يرثيه:
ياهــــــرُ فــــارقـــتـــنـا ولــــم تــــعدِ وكنت عندي بمنـزل الولـــد
فكيــف ننفكّ عن هواك وقد كنت لنا عدّة من العدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنـا ولم تكن للأذى بمعتقد
تدخـــل بــــرج الحمــــام متئــدا وتبلغ الفرخ غير متئد
أذاقـــك المـــوت من أذاق كمـا أذقت أفراخه يدا بيد
لا بـــارك الله في الطـــعـام إذا كان هلاك النفوس في المعد
كم أكــــلة داخلتْ حشــــا شَـــره فأخرجت روحه من الجسد
ولأبي نواس في رثاء كلبه، الذي يدعوه بخلاب والذي لسعته حية فمات، أبيات يقول فيها:
يا بؤس كلبي ســـيد الكـــلاب قد كان أغناني عن العُقابِ
يا عين جودي لي على خلاّبِ مَنْ للظباء العفر والذئابِ؟
خرجت والدنيــــا إلى تبــــــــاب به وكان عدّتي ونابي
فبينما نحن به في الغــــــــــاب إذ برزت كالحة الأنيابِ
رقشــــاء جــــــرداء من الثيـــاب لم ترع لي حقاً ولم تحابِ
فخـــرّ وانصاعت بلا ارتيــاب كأنما تنفخ في جراب
ونفق لابن عنين حمار فتملح في رثائه حين عد الليلة التي مات فيها ليلة مهولة، وحين اعتبر موت الحمار نكبة عظمى لا تحتملها جماعة من الناس فضلاً عن فرد ضعيف مثله فقد كان يعلِّق على هذا الحمار أكبر الآمال فلا عجب في أن يدعو لقبره بالبقاء والسقيا. يقول ابن عنين:
ليل بأول يوم الحشر متصل ومقلة أبداً إنسانها خضل
وهل أُلام وقد لاقــيت داهيــة ينهدُّ لو حَمَلَته بعضها الجبل
لا تبعدن تربة ضمت شمائله ولا عدا جانبيها العارض الهطل
أما القاسم يوسف بن صبيح فنراه يرثي عنزاً له فيطيل في رثائه لها إطالة تدل على ما تركته في نفسه من فراغ وما خلفته في قلبه من منزلة. فيقول:
أصبحت في الثرى رهينة رمس
وثناها حي لدي الأحياء
بوركت حفرة تضمنت السو
داء بل ضمنت من السوداء
كيف لي بالعزاء لا كيف عنها
سلبتني السوداء حسن العزاء
كيف يرجو البقاء سكان دار
خلق الله أهلها للفناء
ومما قيل في رثاء الحيوان من الشعر قصيدة لأبي الحسن علي بن محمد التهامي يرثي فيها قطاً له سقط في بئر سحيقة فمات وقال في رثائه:
ولما طواك البين واجتاحك الردى
بكيناك ما لم يُبكَ قَطٌّ على قِطِّ
ولو كنت أدري أن بئراً تغولني
بمهواك فيها لاحتبستك بالربطِ
وما كنتَ إلا مثل حظي الذي نأى
وتصحيفه باق تمثَّلَ بالحطّ
ورثى -كشاجم- الطاووس فبدأ مرثيته بالتشاؤم من الحياة وأن كل جميل فيها يتحول إلى قبيح وكل نعيم إلى بؤس وكل حي إلى فناء ودعا عينيه إلى البكاء على الفقيد بالدم بدلاً من الدموع فقال:
بــــــــؤس الليالي عقيبة النعم وكل ما غبطة إلى ندم
وكل ما صـــــحـــة إلى ســـــــــقــم وكل ما جِدَّةٍ إلى هرم
وللمنــــــــايــــا عـــيــــــن مـــوكـــلــــة بالحي لم تغتمض ولم تنم
وأي عـــــذر لمـــقــلــــةٍ بَعُـــــــدَ الـ ـطاووس عنها إن لم تَفِضْ بدم
رزئــتُـــــه روضــــةً تـــــرِّفُ ولــــــم أسمع بروض يسعى على قدم
أما القاسم بن صبيح الذي طالعنا له رثاء العنزة السوداء فيبدو أن له ولعاً برثاء الحيوان. فإلى جانب رثائه للعنزة نراه يرثي مطوّق -المطوق نوع من الحمام- فيقول:
كــــان المــطــــــــوق خــــــــــــــــــدنــــــاً من أكرم الأخدانِ
وصـــــــــــــاحـــــبــــــاً وخـــــــــلـــــيـــــــــلاً من خالص الخلانِ
ســـــــنـــــيـــن ســـــــبعـــــــاً وعشـــــــراً مخفورة بثمان
فغـــــــــــــالــــــــــه حــــــــــــــادث مـــــــــن حوادث الأزمانِ
فالقــــــــلــــــــب فـيــــــــه كــــــــــلــــــــوم من لاعج الأحزان
ورثى إبراهيم منيب الباجة جي بلبلاً سقط قتيلاً أمام ناظريه فسجل ذلك في قوله:
بلبــــل هـــــــاجـــــه الغـرام فغنى فوق أغصان بأنَّةٍ تتثنى
قابل الصبح هائماً وهو يشدو بنشيد يشجي فؤاد المعنّى
كلمـــا هــــــم أن يطــــــيـــر إليهــا ثّبط الوهم عزمه فتأنى
يتـــــغــــنى آنــــــــــاً ويســــــــكـــت آناً مشرئباً لغير طير تغنى
على أن أجود ما قيل في رثاء الطير والحيوان من أشعار قصيدة أبي الفرج الأصبهاني التي رثا فيها ديكاً له يدعوه أبا النذير وهي من جيد ما قيل في مراثي الحيوان ومن مختار الشعر. عذبة الألفاظ بديعة المعاني. مطردة الأجزاء منسقة القوافي كما قال عنها ابن شاكر الكتبي في تصديره لها وهي طويلة يقول فيها:
لهفي عليك أبا النذير لو انه دفع المنايا عنك لهف شفيق
أبكي إذا أبصرت ربعك موحشاً بتحنن وتأسف وشهيق
ويزيدني جزعاً لفقدك صادح في منزل داني المحل لصيقِ
صبراً لفقدك لا قِلىً لك بل كما صبر الأسيرُ لشدة ومضيق
هكذا رأينا الشعراء في رثائهم لحيواناتهم يجمعون بين البكاء المعنوي والبكاء المصطنع فتبدو عواطفهم من خلال شعرهم صادقة مرة، وكاذبة مرات أخرى فيغلب على هذا النوع من المراثي التظرف والفكاهة.