الثقافة والأدب

رؤية التاريخ كما كان
بعد الخيال والتكهن والقراءة

  • 77a
  • 69a
  • 74a
  • 76a
  • KONICA MINOLTA DIGITAL CAMERA

ثمة طريقة جديدة للاطلاع على التاريخ. وتختلف هذه الطريقة كثيراً عن تلك التي ألفناها في مدارسنا, وعن تلك التي يعتمدها تدريس علم التاريخ في الجامعات.
أمين نجيب يحدثنا عن التحول الذي طرأ على أنماط اطلاع الإنسان على التاريخ, وصولاً إلى أحدثها, ألا وهو, بكل بساطة, رؤية الماضي كما كان.

يتذكر الإنسان تاريخه الشخصي عبر استعادة شريط من الأحداث، سُجِّل في منطقة معينة من الدماغ. ويمكن للإنسان أن يعود بذاكرته إلى السنوات الأولى من عمره. ولكن هذا الإنسان لا يستطيع أن يتذكر تاريخ غيره, بل عليه أن يتخيله. وأهم الوسائل المعتمدة في سبيل تخيّل تاريخ الآخرين هي الكتابة والقراءة.

يعتقد علماء الأناسة (الأنتروبولوجيا) أن الذاكرة الفردية, وكذلك الجماعية, من العوامل الأساسية في تشكُّل العقل البشري والحضارة الإنسانية وتطورهما. وكما أن الفرد يسجل تاريخه في منطقة معينة من الدماغ ويستطيع أن يستعيد هذه الأحداث في أي وقت, كذلك جهدت ذاكرة المجتمعات الجماعية أن تفعل, معتمدة على اللغة والتدوين وحتى الرسوم التي كانت تنجز لتحمل عن عمد أو عن غير عمد رسائل إخبارية إلى الأجيال التالية. مثل الرسوم التي عثر عليها في كهوف فرنسية (لاسكو) ويعود تاريخها إلى ثلاثين ألف عام, فكانت خير معين لعلماء الآثار ليستنتجوا الكثير عن حال الإنسان وتاريخه في ذلك الزمن الغابر.

وبعد الرسوم على جدران الكهوف والنقش على الصخور في الطبيعة, ظهرت الكتابة. فتعززت العلاقة بين الإنسان والتاريخ من خلال سلوك الكتابة اتجاهين متكاملين. الاتجاه الأول يتضمن كل الكتابات التي تترك إخباراً للأجيال التالية, مثل اللوحات الحجرية على مداخل المباني العامة التي تتحدث عن بنائها وتاريخ هذا البناء. والاتجاه الثاني في الكتابة التي تجمع شتات المعلومات التي وصلت إليها حول مرحلة زمنية معينة أو حدث معين, لتضعها في صورة متكاملة, أي كتابة التاريخ.

زمن القراءة والكتابة
ظلت كتابة التاريخ مسألة حية رافقت كل الحضارات الإنسانية التي عرفت الكتابة والتدوين. ومن محطاتها الكبرى في تاريخ الإنسانية نذكر الأعمال الكبرى الكاملة التي وضعها المؤرخون العرب مثل ابن الأثير و الطبري و ابن خلدون و المقريزي و ابن تغري بردي وغيرهم، الذين سعوا إلى جمع كل ما طالته أيديهم من تاريخ الإنسانية في مجلدات ضخمة, لا يزال المؤرخون يعتمدون عليها حتى يومنا هذا في دراسة الماضي.

وخلال النهضة الأوروبية التي اندلعت شرارتها الأولى في إيطاليا, نشأ التفات فريد صوب الماضي. فعمَّت الحفريات الأثرية مدينة روما, وفي تلك الفترة اكتُشف فوروم المدينة القديمة. ولكن هذا الالتفات, وإن كان قد لعب دوراً ثقافياً بالغ الأهمية, فإنه ظل حتى القرن التاسع عشر عاجزاً عن إدراك قيمة كل الآثار الصغيرة, وما يمكن استنتاجه منها, وهذا ما فعله علم الآثار بعدما رسَّخ مكانته بصفته علماً دقيقاً, ووسَّع آفاقه بالاعتماد على التقنيات الحديثة.

كانت كتب التاريخ محطة كبيرة في تسجيل الذاكرة الجماعية وتقديمها إلى أوسع جمهور ممكن. لكن كتب التاريخ لم تخل من سلبيات عديدة. منها على سبيل المثال عدم تمكن المؤرخ الفَرد من أن يجمع في كتابه كل ما توصلت إليه الحضارة البشرية من معلومات, بشأن موضوع كتابه, ولا المعلومات من فروع علمية أخرى ذات صلة بالموضوع. وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في المقدمة التي وضعها لكتابه في التاريخ.

يقول أحد المؤرخين: إن التاريخ علم يبحث في حقيقة الماضي ويتحرى أخباره. وهو في الوقت ذاته يرمي إلى فهم الأزمنة الغابرة, فنٌ يرمي إلى تصويرها ورواية أحداثها بطريقة مترابطة, معقولة, تبعثها حية في الأذهان. ورواية التاريخ -من حيث هي فكر وفن- تنطلق من العلم بالواقع. وللمؤرخين فيها أساليب ومذاهب وتحاليل وآراء قابلة للأخذ والرد, وفيها اتفاق واختلاف. ولقارئ التاريخ في آخر الأمر أن يكون هو الحكم فيعتمد من الروايات التاريخية في هذا الموضوع أو ذاك ما يجده مقنعاً في الجزء والكل, ويرفض منها ما يجده غير مقنع .

أي بصريح العبارة، فإن رؤية الذاكرة الجماعية أو استعادتها خاضعة إلى حد بعيد إلى كل قارئ على حدة ومراجعه الخاصة بذاكرته. وهذا ما استمر طول عصر كتابة التاريخ بالنص والرسم. ولكن هذه الفجوة في طريقها إلى الزوال مع إطلالة عصر جديد, صار يُعرف ثقافياً باسم ما بعد النص .

التمهيد لرؤية الماضي
إلى جانب الكتابة, مورس تمثيل التاريخ منذ القدم عند كثير من الحضارات. لكنه بقي مقتصراً على الرجوع إلى أحداث الماضي لسرد مسارها. فالأماكن والأشياء بقيت محدودة الحضور, وتعتمد على أداء مخيلة الأفراد, ولا تقدِّم على المسرح إلا معلومات شحيحة يسمح بها وقت العرض. وفي القرن العشرين, ظهرت السينما, التي سرعان ما أفردت مساحة كبيرة من اهتماماتها للأفلام التاريخية.

لعبت الأفلام التاريخية الأمينة للحقيقة التاريخية دوراً ثقافياً لا يقل شأناً عن دور كتاب التاريخ الذي يتناول الموضوع نفسه. لا بل ظهرت وسيلةً ممتعةً للاطلاع على الماضي, أكثر من الكتاب. ولكن السينما (والتلفزيون بعدها) بقيت محكومة بحدود آلة التصوير ذات البعدين فقط, وكذلك بحدود سوق الأفلام السينمائية. كذلك بقيت في حالة الأفلام الوثائقية, محصورة في الأماكن والبقايا الأثرية الموجودة في هذا الموقع أو ذاك. ولذا, يمكن القول إن السينما بقيت أقرب إلى الكتب المطبوعة منها إلى علم الآثار الافتراضي, الذي ظهر بعد النص .

رؤية التاريخ
يعود تعبير ما بعد النص إلى عالِم الاجتماع والفيلسوف الأمريكي تيودور نيلسون الذي استعمل هذا التعبير أول مرة عام 1963م, واستنبط لاحقاً تعبير الافتراضي (virtual).

ظهر ما يسمى الواقع الافتراضي في الستينيَّات من القرن الماضي بمحاكاة الطيران على أجهزة ثابتة, خصوصاً في المجال الحربي لأغراض التمارين. لأن تمرين الطيارين على القتال وهم على الأرض أقل خطراً مما هو على متن طائرة تحلِّق في الأجواء. واعتمدت أولاً الأشياء المتحركة قبالة الطيارين المتمرنين. وسرعان ماحلَّت أفلام الفيديو محلها. ومع ظهور محاكاة الحاسوب (الكمبيوتر غرافيكس) في السبعينيات, صار الطيارون يتمرنون على أركان افتراضية بالغة الدقة في محاكاتها الواقع. ومن هذا التطور بالذات, ونتيجة له, ظهرت ألعاب الحاسوب. حتى هوليود نفسها أخذت تستخدم هذه التقنيات في أفلام السينما, خصوصاً أفلام الخيال العلمي. واتسعت دائرة التطور التقني في المجال نفسه ليظهر ما صار يعرف باسم التجسيد العلمي (Scientific visualization), وبموجب هذه التقنية, صار بالإمكان استعمال محاكاة الحاسوب لتحويل البيانات والأرقام إلى صور, والصور إلى أفلام عبر ما صار يعرف باسم التحريك (Animation), حيث تتفاعل المعلومات المختلفة مع التغير في البيئة وفي الأوقات المختلفة والحقب التاريخية البعيدة.

التاريخ الافتراضي وآثاره
بوصول هذه التطورات التقنية إلى شتى حقول المعرفة الإنسانية وعلومها, نشأت خلال السنوات القليلة الماضية محاولات كثيرة في مجال التاريخ وعلم الآثار الافتراضيين لدراسة عوالم منسية وأخرى ضائعة, وإعادة تمثيل مجريات أحداث غابرة على شاشة الحاسوب.

في واحد من هذه المشاريع, أمر دونالد ساندرز رئيس مؤسسة رؤية التاريخ في ماساتشوستس بإغراق سفينة افتراضية قبالة شواطئ قبرص بطرق مختلفة بعدما أوجد البيئة الافتراضية الكاملة كما كانت عندما غرقت سفينة حقيقية في الموقع نفسه قبل نحو 2400 سنة. وقد ساعدت هذه التجربة في العثور على السفينة الحقيقية وموقعها في قاع البحر, وحتى على حمولتها.

وأعاد علماء آثار آخرون بناء مدينة بومبايي الرومانية على شاشة الحاسوب, تماماً كما كانت عشية ثورة البركان فيزوف الذي دفنها برماده. وصار بالإمكان رؤية حال هذه المدينة المزدهرة وحركة الناس في أسواقها وبيوتها كما كانت فعلاً, من دون أي جهد ملحوظ من المخيلة. وكذلك أعيد قبر فرعوني في مصر إلى حالته الأصلية, فبدا على الشاشة كما كان عندما دفن فيه الفرعون, لا ما بقي منه بعدما مرَّت عليه آلاف السنين, وعبث الإنسان به.

فباستطاعة علم الآثار الافتراضي, وباعتماده على رسوم ثلاثية الأبعاد, أن يعيد تركيب الأشياء والمواقع بدءاً من التفاصيل الصغيرة مثل مقبض الباب وصولاً إلى جغرافية موقع أثري بأكملها. والرسم الثلاثي الأبعاد, قابل للتحريك والاستعمال في أوضاع كثيرة ومختلفة وحسب الحاجة. وبناءً عليه يستطيع الباحثون والمؤرخون فهْم الكثير من الوقائع التي لم يمكن فهمها في السابق.

فبعد إقامة تمثيل ثلاثي الأبعاد لمدرَّج روما القديمة بكل تفاصيله كما أعدَّه فريق من جامعة كاليفورنيا, تعجَّب الباحثون كم ان الأروقة العليا كانت ضيقة. وعلى هذا الأساس فسروا الكثير من الظواهر التي كانت تحيرهم في استخدام هذا المدرَّج.

وبمؤازرة تقنيات حديثة مختلفة كالتصوير الطبقي, وأشعة الليزر, استطاع العلماء مسح بقايا بشرية وأعمال يدوية أثرية, على نحو يمكن زملاءهم من إقامة بدائل افتراضية لها.

وفي عصر ما بعد النص , تتجمع هذه المعلومات ويتكامل بعضها مع البعض على شبكة الإنترنت. يطلع عليها أناس متباعدون جداً, ويتفاعلون معها, ويضيفون إليها. وفي هذا المجال, يقول ساندرز: إن الطموح الكبير لعلم الآثار الافتراضي هو إعادة بناء الماضي بكل تعقيده: الناس, الحيوانات, الطقس, النبات, الخمائل, وكل ما كان يطرأ عليها من تبدل نتيجة العوامل الخارجية .

ختاماً, بات شبه مؤكد أن أولادنا وحفدتنا لن يتعلموا مادة التاريخ من خلال مذاكرة أسماء السلالات وجداول التواريخ المملة, التي كانت لنا ونحن تلاميذ هاجساً مزعجاً, بل سيدرسونه من خلال التطلع إليه كما كان. وسيشاهدون أترابهم في الأيام الغابرة وكيف عاشوا فعلاً, كيف كانت وجوههم وقاماتهم وسلوكهم, ويقارنوا كل ذلك بوضعهم هم, وسيستغربون ولا شك كيف تطورت الأمور هذا التطور المذهل.

أضف تعليق

التعليقات