الثقافة والأدب

فضاء الذات.. عزلة الشاعر

  • SCAN
  • A
  • B

ضيف هذا العدد هو الشاعر محمد إبراهيم يعقوب الذي يبحث عن دلالات العزلة عند عدد من الشعراء العرب ليختم بالشاعرين الفرنسيين: بودلير ورامبو. ويعقوب من مواليد جازان، صدرت له دواوين: رهبة الظل وتراتيل العزلة وجمر من مرُّوا. حصل على جائزتي أبها وجازان الثقافيتين وشارك في مسابقة أمير الشعراء بالإمارات وأمسيات أدبية عديدة.

يقول بورخيس: «ربما تفتقر نوايا الشاعر إلى الأهمية»(1)، فالمسافة بين الوعي والتعبير أبعد ما تكون عن إمكانية القياس، ودلالة التتّبع.

وهنا، ربما يحسن بنا عدم الإنصات إلى منطلقات محسومة في هذا الإطار، فالشاعر ليس حبيس عزلته، بقدر ما يحاول عمداً أن يتحرك في محيط أكبر من محيطه الكوني، هو فضاء ذاته، أياً كانت كينونة هذه الذات، فالكون لدى الشاعر هو مساحة صغيرة جداً، لا تكفي ما يعتمل داخله من أكوان أخرى صنعها لنفسه، يراها أكثر قدرة على استيعابه واحتضانه وتبرير وجوده.

وإذا كان امرؤ القيس قد تمرّد على كون بحجم ملك أبيه، فراح يجوب الآفاق في عصابة من الذّؤبان والشذّاذ(2)، فإنّه وبعد ضياع ملك أبيه، لم يطق هذه الصيغة لحياته أيضاً، فذهب في طريق اللاجدوى من جديد، وعندما قال عمرو بن قميئة لامرئ القيس: «غرّرت بنا»، كان يختصر رحلة العزلة التي يسكنها الشاعر باختياره، لأن كل الفضاءات لم تحتمله، ولا تستطيع، يقول:
إذا قلتُ هذا صاحبٌ قد رضيتهُ
وقرّت له العينان، بُدّلتُ آخرا(3)

وكأن الدهر (الكون) يغدر به في كل حال، ولا يستطيع أن يقف بجانبه، لذلك فهو لا يركن كثيراً إلى وجوده في هذه الحياة، يقول:
فقلتُ له: لا تبكِ عينك، إنّما
نحـاول ملكاً، أو نمـوتَ فنُعذرا(4)

إن خيار الموت لديه، هو الاعتذار له عن حياةٍ وكون لا يستحقّه، إنه خيار فضاء الذات الذي ينُظر إليه كملاذ وأفق أكبر من كل هذه الحياة، ومن هنا تأتي عزلة الشاعر، التي هي بالنسبة له كون آخر أوسع وأكثر رحابة.

وإذا تتبعنا رحلة شاعر آخر هو طرفة بن العبد، فنجده يعلّق كل فشله على هذا الكون الذي يصغر كثيراً عن امتلاء طرفة به، فبين بحث عن حق أخذ منه، إلى نثر حياة في الريح، وفي كل مرة يعود متمرّداً على كونه الذي يصنعه ويحطّمه في كل مرة دون هوادة، وحين راح ينفق على لهوه وملذّاته وعلى رفقة السوء(5)، لم يعلّق الجرس إلا لهذا الدهر، ومن فيه، يقول:
كل خليلٍ كنتُ خاللته
لا ترك الله له واضحـة
كلهم أروغ من ثعلبٍ
ما أشبه الليلة بالبارحة!(6)

وهذا التكرار لنفس الأحداث في حياة طرفة، يعزّز قيمة اللاجدوى منها وفيها، والموت هو أدنى فعل يستحقّه كونٌ كهذا لا يمكنه استيعابه، يقول:
وما زال تشـرابي الخمـور ولذّتي
وبيعـي وإنفاقـي، طريفي ومُتّلدي
إلى أن تحـامتني العشـيرة كـلها
وأفردت إفـراد البعــير المعبّــدِ
ألا أيها اللائمي أحضـر الوغـى
وأن أشهد اللذّات، هل أنت مخلدي؟
فإن كنتَ لا تسطيـع دفع منيّتي
فدعـني أبادرهـا بما ملكـت يدي
أرى العيش كنزاً ناقصاً، كل ليلةٍ
وما تنقص الأيام، والدهر ينفدِ (7)

ونجد هذا عند كثير من الشعراء، في هوان هذا العيش، فضاء الكون الذي لا يتّسع لفضاء الذات، يقول علقمة ابن عبدة الفحل:
يقول رجـالٌ من صديقٍ وحاسدٍ
أراك أبا الوضّـاح أصبحت ثاويا
فلا يعدم البـانون بيتاً يكنّهــم
ولا يعدم المـيراث منّي المـواليا!
حراصاً على ما كنت أجمع قبلهم
هنيئاً لهم جمعي، وما كنتُ ذاويا!! (8)

وحياة التشرّد واللاجدوى، والضيق بهذا الكون الذي لا يتّسع للشاعر، كون فضاء الذات لدى الشاعر أكثر رحابة بكثير من كون أقل، نجد هذه الحياة واضحة جلية عند شعراء حملوا على أكتافهم راية التجديد من مثل رامبو وبودلير.

فآرثر رامبو الذي هرب من باريس شاباً، والذي كانت تتوق نفسه رغم شبابه إلى الهروب مرة أخرى واللجوء إلى الحانات وحياة الشاردين (9)، وبعد رحلته مع بول فارلين وما حدث من سجن فارلين، عاد إلى أمّه بائساً مستاءً يبحث من خلال قصيدة نثر طويلة عن سرّ ذلك الشيطان اللعين الذي يدفعه إلى أدغال الشعر والإثم والهروب والصخب دفعاً (10)، لقد قضى رامبو حياة قصيرة حائرة وثائرة، لكنه كان يدافع عن كونه في كل مراحله، فضاء الذات الذي يتّسع لكل هذا التمرّد الذي لم يستوعبه زمنٌ يمرُّ على كل حال، يقول رامبو:
«عجباً! لقد توقفت عجلة الحياة. لم أعد في العالم»(11).

ويقول أيضاً: «ولتذكروني، حتى لا أتحسّر على العالم. من حظّي أنه لم يشتّد عذابي. ولم تكن حياتي، واأسفاه، سوى طيش نزق»(12).

ويأتي شارل بودلير من خلال يومياته في «عقدة الناجي الأخير»، كما لو أنّ الشاعر مطالب بالتكفير عن كونه لم يمت بعد!!(13).

يقول بودلير في «قلبي عارياً»: «إنه إحساس العزلة منذ الطفولة على الرغم من العائلة، وخاصة وسط الرفاق»(14).

ونختم بقول شارل بودلير في يومياته، لتعزيز ما ذهبنا إليه: «الأديب هو عدو العالم»(15).

(1) خورخي لويس بورخيس، صنعة الشعر، دار المدى – ص 69
(2) ديوان امرئ القيس، دار الجيل – ص 16
(3) امرئ القيس، ص 342
(4) امرئ القيس، ص 339
(5) ديوان طرفة بن العبد، دار الكتاب العربي – ص 39
(6) طرفة، ص 82
(7) طرفة، ص 105
(8) ديوان علقمة بن عبدة الفحل، دار الكتاب العربي – ص 8
(9) آرثر رامبو، فصل في الجحيم، دار التنوير – ص 10
(10) رامبو، ص 10
(11) رامبو، ص 32
(12) رامبو، ص 33
(13) شارل بودلير، اليوميات، منشورات الجمل – ص 32
(14) بودلير، ص 115
(15) بودلير، ص 147

أضف تعليق

التعليقات