حتى مطلع القرن التاسع عشر، كان دور الأهل متشابهاً أينما كان في العالم. فالعائلة هي الخلية الاجتماعية الأساسية لاستمرار الحياة. ودور الأهل هو القلب والعقل والقوة المادية الدافعة للحفاظ عليها. وكان هذا الدور، المتوارث منذ القِدم، هو الوحيد في حياة العائلة، إذ لم تكن الدولة الحديثة وبُناها المتعددة قد تكونت وأخذت كثيراً منه.
وبينما حافظت أكثر العائلات العربية على الدور التقليدي للأهل، باستثناء فئات قليلة، لم يكن الوضع كذلك في المجتمعات الغربية. فقد تعرَّض دور الأهل هناك إلى موجات عاتية من التغيرات، مما أدى إلى نشوء أوضاع مأساوية للأطفال، رافقتها آراء مثيرة للعلماء والكتَّاب هناك.
قديماً، كانت الزراعة هي المصدر الأساسي للعيش. وكان أفراد العائلة جميعهم، ما عدا الرضَّع، منغمسين في هذه الأعمال. وكانت العائلات عموماً مستقرة في المكان الواحد دون تبديل أو هجرة. وهكذا كان جميع الأقارب يجتمعون في وحدة جغرافية يكتنفها التضامن والألفة. لكن وطأة الحياة كانت ملقاة على عاتق الأم أكثر من غيرها. كان حجم العائلة كبيراً، إذ إن معدل الأولاد للمرأة الواحدة في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، كان ثمانية، كما تقول الدكتورة سوسان ويت من جامعة أكرون. والمعدل العام للعمر قصيراً، لكنه كان أقصر بالنسبة للأم؛ فأحياناً كثيرة كانت تموت عند الولادة. وكان دور الأبوين في تنشئة الأولاد يمتد طوال العمر كله.
التغيرات الاجتماعية ودور الأهل
كان لعصر النهضة، الذي امتد من القرن الرابع عشر إلى السابع عشر، وعصر التنوير الذي تبعه من منتصف القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، والثورة الصناعية التي أعقبتهما، الأثر الكبير على وضع العائلة ودور الأهل. جميع هذه الحركات تحدَّت النظام القديم القائم على الإقطاع والعبودية وأحدثت تغيرات كبيرة في بنية المجتمعات والعائلات، وشكلت تحديات للتقاليد والأعراف والعادات والاعتقادات التي سادت خلال آلاف السنين. وظهر ما نعرفه اليوم بالدولة الحديثة والدساتير والقوانين ومفاهيم كالديمقراطية والمواطنة وحقوق الفرد المتميزة عن حقوق الجماعة.
فكان النزوح الكثيف إلى المدن للعمل في المصانع والتوسع في ظاهرة الحياة المدنية، في طليعة المؤثرات على دور الأهل. إذ تركت هذه التحولات أثراً كبيراً على وضع الوالدين ودورهما. فاضطر الأب إلى أن يعمل بعيداً عن العائلة. وكانت تلك الخطوة الأولى في إضعاف دوره المتعلِّق بتربية الأطفال. أما الأم، في تلك المرحلة، فبقيت في المنزل ترعى شؤونه وحيدة، ولم تدخل سوق العمل المدفوع الأجر بشكل واسع حتى ستينيات القرن العشرين. وللمفارقة أنه في تلك الفترة، كانت النساء عند الحاجة يعملن لكن في أعمال يدوية وأحياناً قاسية، مثل العمل في مناجم الفحم. وكانت من علامات النجاح والفخر عند الرجال أن تتمكن الأم من التفرغ لتربية الأطفال، وأن يتحول دور الأب الأساسي إلى تأمين الموارد الاقتصادية.
في تلك الفترة بالذات، برزت حاجة المجتمع الجديد إلى العلوم في مجالات عديدة، فتوسع إنشاء المدارس والجامعات والمعاهد وازدادت أعداد الطلاب والمتعلمين. فخرج الأطفال، بالإضافة إلى الأب من المنزل وتقلص وقت العائلة المتجمعة.
في خضم هذه الحقبة المتغيرة، ظهر ما يعرف بـ «الفجوة بين الأجيال». وعبَّر عن هذه الفجوة الأديب الروسي «إيفان تورغينيف» في رواية عنوانها «الآباء والبنون» في النصف الأول من القرن التاسع عشر: صُدم الأب عند استقباله ابنه العائد من الدراسة في أوروبا الغربية بأفكاره الليبرالية. كيف لا! ودور الأب المقدس هو إرشاد أولاده إلى الالتزام بالروح الروسية التقليدية أو «السلافوفيليا». فمع انتشار الفكر الليبرالي في أوروبا وتسربه إلى المثقفين في روسيا، اعتبر الأهل أن هذا هو خروج عن «الروح الروسية المستقيمة» وأن دورهم في الحفاظ عليها بات مهدداً.
والحال أن التغييرات الأساسية التي طرأت على دور الأهل في هذا العصر، هو أنه لم يعد مقتصراً على القرارات اليومية التي يأخذها الأهل بشأن أولادهم. بل أصبح محكوماً بالمؤسسات الجديدة الناشئة في بُنى الدولة الحديثة كالمدرسة والجامعة والمستشفى والمخفر والقوانين والإعلام وغيرها الكثير. كما أن دُور الحضانة أخذت كثيراً من دور الأم.
العائلة العربية
هذا لم يحدث في المجتمعات العربية. فهي مجتمعات غير منتجة بالمعنى الذي شهدناه في البلاد الغربية. ودون أن نطلق أحكاماً تقييمية؛ فالمجتمعات غير المنتجة لا تنتج التغيير. إنها مجتمعات مستهلكة، واقتصادها ريعي لا يتطلب التغيرات الكبيرة في كافة بُنى المجتمع، وبالتالي على نطاق العائلة. وما يحصل من بعض التغيير يأتي بتأثير من الخارج، كما سنرى من بعض الدراسات في الجامعات العربية. والتأثير الخارجي يبقى تأثيراً هامشياً، بالرغم من الصخب الذي يمكن أن يولده من قبل بعض الأهل.
فنزوح العائلات العربية من الريف إلى المدينة لم يؤدِّ إلى حياة مدنية جديدة، كما شهدنا هناك. بل على العكس، قضى على بعض مظاهر المدنية التاريخية في مدن مثل القاهرة وبيروت ودمشق. وأصبحت هذه نوعاً من تجمع قرى ريفية حافظت على تقاليدها وأعرافها، خاصة على البُنى الاجتماعية الأساسية، كالعائلة ودور الأهل فيها. فالنظام الأبوي كما يسميه الدكتور هشام شرابي، في كثير من كتاباته، لا يزال هو نفسه سائداً في الكتلة الأساسية والكبيرة من المجتمعات العربية.
لقد تعرضت أدوار بعض الأهل في البلدان العربية للتغيير. لكنه اقتصر على بعض الشرائح المتعلمة والمرتبطة بعلاقات عمل أو تعليم بمؤسسات غربية. أما غالبية الأهل في منطقتنا فلم تتعرض لتغييرات جذرية.
وأظهرت دراسة ميدانية أجرتها الدكتورة باسمة حلاوة من كلية التربية في جامعة دمشق، في أربع مناطق مختلفة من المدينة أن «هذه النتائج تشير إلى أن المستويات التعليمية والاقتصادية، لا تؤثر في أدوار الوالدين في تشكيل شخصية الأبناء الاجتماعية، لأنهم يعيشون ضمن منظومة واحدة من القيم والعادات الاجتماعية».
لكن دراسة قام بها الدكتور محمد ممدوح عوني من جامعة الخليج العربي في البحرين حول تأثير التقنيات الحديثة على دور الأسرة في دول العالم الثالث خلصت إلى أن «انتشار القنوات الفضائية والإنترنت وأجهزة الألعاب الإلكترونية وغيرها من وسائل الترفيه تسببت بعزلة أفراد الأسرة الواحدة عن بعضها بعضاً، وضعف مراقبة ومتابعة الآباء لأبنائهم، وزيادة مساحة الحرية المتاحة أمام الأبناء، بينما قلَّ دور الأم في توجيههم أخلاقياً وسلوكياً، وخفَّ أثر الأهل أيضاً في تحسين التحصيل العلمي».
وظهر في بحث آخر أجرته الأستاذة «فتحية باحشوان» من جامعة أسيوط عن الأسرة في اليمن أن هناك بعض التغيرات في أدوار الأهل نتيجة العيش في المدن. لكن هذا التغير لا يمكن مقارنته بتلك التحولات الحادة في البنية الاجتماعية والاقتصادية والقانونية التي حصلت في البلدان الغربية.
الموجة الثانية من التحوُّل في دور الأهل
بُعيد الحرب العالمية الثانية ازدهر الاقتصاد الأمريكي بعد كبوة الثلاثينيات، وازداد الطلب كثيراً على الوظائف والاختصاصات. فأدى ذلك إلى ازدياد حضور المرأة في سوق العمل. فكانت فترة الستينيات وما أعقبها، فترة التغيرات الكبرى على دور الأهل بعلاقتهم بأطفالهم وبالمجتمع. لأن استمرار النزوح الكثيف إلى المدن أدى إلى توسع الطبقة المتوسطة وظهور ما بات يعرف بـ «الثقافة النسوية». وازدادت المطالبة «بحقوق المرأة» وحقها في التنازل عن حضانة أطفالها إلى المؤسسات والدور التي انتشرت بشكل واسع. ولم يعد العمل الشاق هو الدافع في الحياة. فقد شعر الشباب أنه أصبحت لديهم خيارات أكثر من تلك التي لأهلهم. بدأوا يشعرون بالحاجة لمعانٍ أوسع وفرص للتعبير عن ذواتهم. وعندما أخذت أدوار الأب والأم بالتساوي تجاه الأطفال، بسبب دخول المرأة سوق العمل والنزوع إلى تحقيق الذات، ضعفت غريزة التضحية تجاه الأطفال. وتوسعت كثيراً ظاهرة «أسرة الربائب» و«عائلة الربائب» وغيرهما.
تشير الإحصاءات اليوم إلى أن حوالي %66 من الأمهات اللواتي لديهن أطفال تحت عمر السنة الواحدة يعملن خارج المنزل. و75 – %80 من اللواتي لديهن أطفال تحت سن السادسة يعملن. وهذا يعني أن دور المرأة الرئيس لم يعد رعاية الأطفال.
ففي إحصاء للدكتورة ويت، التي استشهدنا بها سابقاً، أن ثلثي الأهل الذين استُطلعت آراؤهم، في فترة سابقة من السبعينيات، رفضوا الفكرة القائلة إن على الأهل العيش سوية في سبيل الأطفال إذا لم يكونوا سعداء بعضهم بالبعض الآخر؛ وإن سعادتهم بالنسبة لهم أهم من سعادة أطفالهم، إذا خُيِّروا في ذلك. فارتفعت نسبة الطلاق، الآن، إلى أكثر من %60 بين المتزوجين. هكذا انتقل العبء الأكبر لدور الوالدين إلى أماكن أخرى غير العائلة النواة.
وتبيَّن من دراسة قادتها كيرا بيرديت من جامعة ميتشيغان أن «أكثرية الأهل والأولاد البالغين يمارسون نوعاً من العلاقات المتوترة والعدائية بعضهم مع البعض الآخر» في الولايات المتحدة الأمريكية. واللافت في الدراسة أن التوتر مع المراهقات أكبر منه مع المراهقين. كما أن التوتر مع الأم هو أكبر من الأب. وتعتقد بيرديت أن ذلك يعود إلى أن دور الأمهات هو أكثر تدخلاً وحضوراً من الآباء.
وفوجئت بيرديت بتوصل دراستها إلى أنه كلما تعطَّل دور الأهل ازداد التوتر مع تقدم الوقت. وأن إسداء النصائح، وهو الدور الأساسي للأهل، كما يعتقدون، هو العنصر الأكثر إثارة للتوتر.
واشتدت وطأة الأمر بتعرض العائلة لاحقاً، بشكل غير مسبوق، لتأثيرات خارجية قوية. مثل التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها الكثير، التي تُولِّد رغبات وسلوكاً استهلاكياً يشكل بديلاً عن الانتماء والهوية. كما أنها تمارس توجيهات انضباطية ضمنية لأعراف جديدة، يُحكم على الأفراد وسلوكهم وفقاً لها. فأصبح دور الأهل في هذه الحالة الجديدة مأساوياً.
آراء متشائمة
في كتابها «الأم الآلة» تقول جينا كوريا إن تقنيات الإنجاب العصرية والتخصيب في المختبر وما يُعرف بأطفال الأنابيب وجميع المعاينات ما قبل الولادة، بما فيها الهندسة الجينية، تشكل خطراً حقيقياً على المرأة. لأن سلبياتها تتعدى إيجابياتها بحيث يتم التحكم بجسمها وجعله شيئاً يتلاعب به الطب. وهكذا يتم حرمانها من أهم أدوار الأمومة.
أكثر من ذلك، هو ما يتعلق بدور الأب؛ يقول دايفد بلانكهورن مؤلف كتاب «أمريكا دون أبوة»، «إن التحدي الداخلي الأهم التي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية هو إعادة تكوين الأبوة كدور اجتماعي حيوي للرجال. ما هو في خطر، هو ما نسميه نجاح التجربة الأمريكية. إذا لم نعكس اتجاه فقدان الأبوة، فإن أية مجموعة من الإنجازات مثل النمو الاقتصادي أو بناء السجون أو إصلاح نظام الرعاية الصحية أو مدارس أفضل، لن تنجح في وقف تدهور رفاه الطفل وانتشار العنف الذكوري. إذا تسامحنا مع هذا الاتجاه، نكون قد قبلنا حتمية استمرار الركود الاجتماعي».
ما هو الطفل؟ ما هي الطفولة؟
نتيجة هذا التردي الكبير في أوضاع العائلة وانعكاسها السلبي على أوضاع الأطفال، بدأ الاهتمام الأكاديمي والفكري بدور الأهل وعلاقتهم بالأولاد يزداد، وينفصل عن كونه جزءاً من علوم التربية، ويأخذ منحى مستقلاً لأهميته القصوى. وطرحت أسئلة جديدة حول «مَنْ هو الطفل، ما هي الطفولة؟».
وتقول الموسوعة الفلسفية لجامعة ستانفورد إنه وعلى الرغم من تعدد المفاهيم حول ماهية مرحلة الطفولة ودور الأهل، فلا تزال حتى يومنا، خاصة في العالم الغربي، تسود المفاهيم التي صاغها وكتب عنها الفيلسوف اليوناني «أرسطوطاليس»، في العقد الرابع قبل الميلاد، حول هذا الدور.
وفق هذا المفهوم الشائع شعبياً وأكاديمياً، فإن الطفل هو عينة غير ناضجة لعضو أو كائن حي يتطور مع الزمن ليصبح ناضجاً. ودور الأهل الأساسي وواجبهم هو في تأمين البيئة الضرورية التي تسمح بتحولهم إلى أعضاء بالغين.
وأدخل مؤخراً تعديلان على نظرية أرسطو. الأول يقول إن تطور الفرد من مرحلة الطفولة إلى النضج يلخص تاريخ تطور النوع نفسه. ويُعد سيغموند فرويد من أصحاب هذه النظرية. أما التعديل الثاني فهو أن هذا التطور يتم على عدة مراحل تاريخية من عمر الفرد. لقد تبنى هذه النظرية وطورها بشكل أصبحت مهيمنة في النصف الثاني من القرن العشرين جان بياغيت. الجدير بالذكر أن هذا المفهوم الثاني قد استند على فلسفة الرواقيين التي كانت سائدة في منطقتنا في العقد الرابع قبل الميلاد.
تقوم نظرية جان بياغيت المعروفة، على أن الطفل قبل سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة لا يستطيع «التفكير فيما بعد» أو «ميتا تفكير» (مثل التفكير عن التفكير). وهذا ما يعطي الأهل والمربين دوراً ومسؤوليات إضافية ويثبت عملياً الاعتقاد السائد حول هذا الدور والواجبات.
المفاهيم أيضاً تتغير
لكن، تزايدت في المرحلة الحديثة الأبحاث الجدية التي تشير إلى أن بياغيت يقلِّل من شأن الإمكانات المعرفية عند الأطفال. وبحسب هذه النظريات الجديدة فإن دور الأهل بعلاقتهم بأطفالهم تنحو، ويجب أن تنحو، إلى التغير. يقول الفيلسوف غاريث ماثيوس «إن بياغيت لم يستطع ملاحظة الأسئلة ذات الحيرة الفلسفية عند الأطفال الصغار جداً». ويتوسع في عرض كثير من النماذج الحقيقية الممتعة حول أسئلة طرحها أطفال صغار، ليبرهن أن أسئلتهم ذات أبعاد فلسفية جدية، هذا بعض منها:
1 – سأل «تيم» (6 سنوات) وهو منشغل بالأكل «بابا، كيف نتأكد أن كل شيء ليس حلماً؟».
2 – سأل «جوردن» (5 سنوات) «إذا ذهبت للنوم في الساعة الثامنة ونهضت في السابعة صباحاً كيف أستطيع أن أتأكد أن لولب الساعة لم يدر أكثر من مرة؟ هل يجب أن أبقى مستيقظاً طوال الليل لمراقبتها؟ إذا شحت بنظري حتى لثوانٍ يمكن لهذا اللولب أن يدور مرتين».
3 – «جون إدغار» (4 سنوات) كان قد رأى طائرة في المطار تقلع وتَصغرُ كلما توارت عن الأنظار في الأعالي. أخذ رحلته الأولى، وعندما توقفت الطائرة عن الصعود واستوت في الجو، التفت إلى والده وقد بدا الارتياح على وجهه، لكن الحيرة تشوب صوته، «في الواقع لا تصبح الأشياء صغيرة هنا في الأعالي».
عقلية نمو وتطور مقابل عقلية ثابتة
بناءً على هذه الفلسفة الجديدة، يشدد المختصون على تغيير جذري في دور الأهل بعلاقتهم بأولادهم. تقول كارول دويسك في مقالة شيِّقة في عدد خاص من مجلة «ساينتفيك أميركان»، حول «الدماغ والعقل»، «إن مجتمعنا يقدِّس الموهبة (في مسح أجرته الكاتبة تبين أن %85 من الأهل يعتقدون أن مديح قدرة أطفالهم وذكائهم عندما ينجحون مهم لتشجيعهم)، وكثير من الناس يفترضون أن اكتساب ذكاء خارق أو قدرة – بالتوازي مع ثقة بهذه القدرة – هي وصفة للنجاح. وفي الواقع، أظهرت 35 سنة من الأبحاث العلمية أن التشديد على الفطنة والموهبة – واعتبار هذه الصفات فطرية وثابتة – تترك الناس عرضة للفشل. إذ يجب التشديد، بالأحرى على «عقلية النمو» التي تشجع التركيز على «العملية المتواصلة» أو (البروسيس) الذي ينتج نجاحات كبيرة في المدرسة والحياة». وتتابع أنه على الأهل والمعلمين أن يمتدحوا المثابرة والتخطيط والجهد وحب التعلم بدلاً من تقديس الموهبة.
ويقترح كثير من علماء التربية المعاصرين، تغيراً في دور الأهل نحو التحفيز بدل التلقين، والشراكة بدل الإرشاد، والنظر إلى الأخطاء من وجهة إيجابية على أساس أنها دليل على العمل والجهد والاضطلاع بالتحديات.
ونتيجة انتشار بعض هذه المفاهيم الجديدة وتطبيقها، لاحظ كثير من الباحثين أن تغيراً إيجابياً، ولو كان بسيطاً، بدأ يظهر في الإحصاءات، على تحسن دور الأهل بعلاقتهم بأطفالهم.
مستقبل دور الأهل
يُجمع العلماء والفاعلون على صعيد العالم، أننا دخلنا الآن في مرحلة تغيرات جديدة نتيجة التطور الكبير في التكنولوجيا الذكية والروبوتات. وهي تشبه، بل تتخطى التغيرات التي حصلت إبان الثورة الصناعية. حيث إن هذه الكائنات الذكية ستقوم، بحلول الثلاثينيات من هذا القرن، بمعظم الوظائف. ويضيف الأستاذ جميل مطر عن حوارات دارت في مؤتمر «دافوس» في سويسرا، هذه السنة، «دعونا نعلن على الملأ أن العالم على أبواب مرحلة تزداد فيها البطالة إلى حد اختفاء تعدد الوظائف وربما مهن معينة…».
لكن هؤلاء العلماء يختلفون حول ماهية هذه التغيرات المقبلة على العائلة ودور الأهل. منهم من يتوقع أن يكون لذلك تغيرات إيجابية. فبسبب الانخفاض الكبير في الأسعار نتيجة غياب الأجور (لأن الروبوت لن يتقاضى أجراً، ولا يحتاج رعاية صحية أو اجتماعية أو ضمان شيخوخة… الخ)، تزداد قوة الشراء بما يمتلكون وتزداد مساحة الزمن الحر لديهم. كما أن الوالدين لن يُجبرا على العمل الشاق لمدة طويلة والبقاء خارج المنزل، ثم يعودان مثقلين بالضغط والإرهاق. مما يمكنهما من تكريس الوقت الكافي للأطفال والعائلة، في جو من الطمأنينة والراحة النفسية، فيستعيدون دورهم في إعادة اللحمة بين أفرادها. عسى أن يكون ذلك صحيحاً.