أدب وفنون

القارئ البطل، القارئ صانع الرواية

002-don-quichote-and-sancho-panza-theredlistالكثير من الروايات العالمية والعربية البارزة، اختار أصحابها أو كتَّابها أن يكون أبطالها قرَّاءً، أو لديهم نهم في قراءة الكتب. وأحياناً يشعر القارئ أنه يعيش في ثنايا الرواية، والقراءة من البطل غالباً ما يكون لها وظيفة إما سردية حكائية أو رمزية، وتختلف من رواية إلى أخرى. وإذا كان من الصعب الإحاطة بمعظم الروايات أو الحكايات التي ورد القارئ بطلاً فيها، فإن بعض الروايات قد تعبّر عن مجمل ما نريد قوله.

909cdc913b8b4a57c5b87c045704c001تتحدث أول رواية حديثة وهي «دون كيشوت» لثرفانتس، عن رجل عجوز نحيف من الأشراف الإسبانيين يعيش مع ابنة أخته وخادمه وكان مغرماً بقراءة قصص الفروسية. وربما لأنه صدَّق ما قرأ أصيب بالجنون، فبدأ يتخيل أن ما قرأه موجود حوله وأنه فارس من فرسان ذلك الزمن الذي قد ولَّى، واختار لنفسه هذا الاسم الذي يدل على مكانته العالية في عالم الفرسان ألا وهو «دون كيشوت»، وقرر البدء برحلة يقوم خلالها بمساعدة الضعفاء ونصرتهم، فتعرَّض في طريقه لسلسلة من الهزائم حتى وجده قروي في حالة إغماء ونقله إلى قصره، حيث تحرق ابنة أخته كل روايات الفروسية. وحين لا يجدها يعتقد أن الساحر سرقها فيرحل ثانية مع قروي جبان اسمه (سانشو بانشا) حيث يهاجم في طريقه طواحين الهواء لأنه يعتقد أنها عمالقة ويتعرض لضربات قوية.

ويرى دارسو أدب ثِرفانتِس أنه اتجه إلى نقد روايات الفروسية بهدف تقديم خدمة للأدب والأخلاق. وقد أشار الكاتب نفسه، أكثر من مرة، إلى كراهيته لهذا الفن الذي كان يسخر منه. دون كيشوت بحسب الروائي كارلوس فوينتس «هو ضحية مزدوجة لقراءته. إذ يفقد صوابه مرّتين، أوّلاً، عندما يَقرأ وثانياً، عندما يُقرأ. وقد فشل دون كيشوت كقارئ ملاحم يريد نقلها إلى الواقع بهوس شديد. ولكن فيما يخصّ موضوع القراءة، بدأ يقهر الواقع وينقل له جنون قراءته».

crime-and-punishmentالقارئ البطل دائماً محطة في حياة شخوص بعض الروايات، للانتقال إلى عالم مختلف ومتبدل ومغاير وصادم ومربك وربما جميل. كان راسكولنيكوف بطل رواية «الجريمة العقاب» لديستويفسكي، قبل ارتكابه لجريمته، طالباً في كلية الحقوق، حيث قرأ كثيراً من الكتب. وكما أنه قبل إقدامه على جريمة القتل والسرقة والنهب نشر مقالة في جريدة «الحديث الدوري»، وكانت رأس الخيط الذي عرف من خلاله المحقق بور فيري بتروفتش، حقيقة الجريمة والمجرم.

وسعيد مهران بطل رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ هو لص شبه مثقف، يدخل السجن، وحين يخرج منه تبدأ مأساته فيجد أن زوجته التي طلقته وهو في سجنه قد خانته، وتزوجت من صديق له في عصابته. ويجد أن ابنته الصغيرة سناء تنكره إنكار الولد الذي لم ير أباه أبداً، ويخاطب سعيد مهران، رؤوف علوان الذي شجعه في الماضي على السرقة: «أنا مثقف وتلميذ قديم لك قرأت تلالاً من الكتب، بإرشادك وطالما شهدت لي بالنجابة».

وفاسيلي بطل «زوربا اليوناني» لنيكوس كازانتزاكيس رجل مثقف، غارق في الكتب يلتقي مصادفة رجلاً أميّاً، مدرسته الوحيدة هي الحياة وتجاربه فيها. سرعان ما تنشأ صداقة بين الرجلين ويتعلم فيها المثقف فاسيلي، الذي ورث مالاً من أبيه، الكثير من زوربا عن الحياة وعن حبها وفن عيشها.

الكتاب القاتل وكتاب الحياة
664413لعبة الحديث عن الكتب والمخطوطات والقارئ متوافرة بقوة في كثير من الروايات العالمية والعربية، وكلما أتقن الروائي الخداع والكذب، زاد من وقع نصه لدى المتلقي، وتوظيف القارئ كبطل في الروايات هو جزء من منظومة «أعذب الروايات أكذبها»، والقارئ بوصفه بطلاً، ربما يكون بديلاً من الحكواتي الذي كان واجهة لسرد الحكايات والفروسيات في زمن مضى، نلمح بقوة كيف أن بعض أبطال روايات كونديرا مثقفون وينتقدون الشعر بقوة. خصوصاً جاروميل في رواية «الحياة في مكان آخر». كان كونديرا قادراً في كتاباته على أخذ أبطاله حيثما يشاء ويتصرف حيث يريد أن يقول أفكاره، بمعنى أن أفكاره أقوى من السرد الروائي، وهو بهذا المعنى يستعمل القارئ أو المثقف في الرواية ليدين الثقافة التابعة للنظام الشمولي التوتاليتاري، الشيوعي تحديداً.

في رواية «اسم الوردة» يدفعنا أمبرتو إيكو لمتابعة وقائع محاولات مستمرة للكشف عن سر الجرائم الغامضة المتتالية التي تقع داخل جدران أحد الأديرة في القرون الوسطى في إيطاليا. ويتردد الحديث عن كتاب مسموم يقال إن له «قوة ألف عقرب». ويموت كل من يلمس صفحاته، لأن السم يتسرب إلى أصابعه التي تقلب هذه الصفحات. وهذا الكتاب الغامض المفقود، هو الجزء الثاني من مخطوطة أرسطو عن الشعر، وهو الجزء الذي خصصه للحديث عن الكوميديا والضحك. ثمة أسرار غامضة تكتنف اختفاء هذا الكتاب… وأخيراً يكتشف الشرطي وليام أن القاتل هو الراهب بورج، الذي أخفى المخطوط لأكثر من عشرين عاماً، وقعت خلالها كل تلك الجرائم. فالراهب هو الذي وضع السم في صفحات الكتاب، حتى يضمن أن كل من يقرأه يكون مصيره الموت.

tumblr_m5m24906Bg1qbhsbeقراءة الكتاب المسموم طريق إلى الموت في رواية إيكو، أما القارئ في رواية «الحياة الجديدة» للروائي التركي – «النوبلي» أورهان باموق، فيجد في القراءة وسيلة للانبعاث وتغيير الحياة والتجدد. في مطلع الرواية، يقول الراوي: «قرأت كتاباً في يوم ما فتغيرت حياتي كلها. من الصفحات الأولى شعرت بقوة الكتاب إلى حد اعتقادي بأن جسدي انتزع عن الكرسي والطاولة وابتعد». بطل الرواية شاب جامعي اسمه عثمان في بداية العشرينيات من عمره، يعيش حياة بسيطة كباقي أقرانه في قرية «طاش قشله» التركية، يقرأ كتاباً يقع بين يديه مصادفة، فيغيِّر هذا الكتاب مجرى حياته. ويعاود قراءة الكتاب عشرات المرات ثم إعادة صياغته وكتابته بلغته الخاصة. وفي كل مرة كان يقرأ فيها الكتاب كان ضوء قوي ينبثق منه يصعب على الشاب مقاومته. يُصاب بعدها البطل / القارئ بوحدة وعزلة. ولكن ما هو هذا الكتاب؟ ومن هو مؤلفه؟ وما هي الأفكار التي تختبئ في ثناياه؟ كانت جميعها أموراً مجهولة وغامضة.

ضد الملالي
The-New-Lifeالروائية الإيرانية المقيمة في أمريكا، آذر نفيسي، كانت مباشرة وواضحة بشكل أكبر في توظيف القراءة لقول أشياء عن الحرية والحياة والثقافة، سواء في كتابها «جمهورية الخيال» أو روايتها «لوليتا في طهران» إذ اختارت أن تكتب سيرة روائية، جوهرها نساء يقرأن الكتب (لوليتا تحديداً) لمواجهة الاستبداد والبحث عن الحرية. من عنوان روايتها الكليشية و«الكيتشوي» ندرك مآل ما تريده، إذ تروي قصة محاضرات في التمرد امتدت لسنتين، لقنتها نفيسي لمجموعة من النساء ابتداءً من عام 1995م بعد استقالتها من وظيفتها في الجامعة، وقبل أن تهاجر إلى الولايات المتحدة، وأسست نفيسي وطالباتها دائرة من الحرية الشخصية لهنّ، تخللتها قراءة روايات نابوكوف وسكوت فيتزجيرالد وجاين أوستن وهنري جيمس.

nameoftheroseومن الصين على عهد ماو نجد في رواية «بالزاك والخياطة الصينية الصغيرة» لداي سيجي، أن الكتب تغيّر الحياة. تصف الرواية الرحلة التي قام بها عازف الكمنجة مع صديقه ليو إلى الجبل الذي حكم عليهم بالإقامة فيه من أجل إعادة التأهيل التي كانت تتم لكل أبناء «الطبقة المثقفة». ثمة شاعرة في الرواية مصنّفة «عدوة للشعب»، تتظاهر بحياكة الصوف بينما «تكتب قصائد في رأسها». وهذا ابنها الملقب طوال أحداث الرواية بصاحب «النظارة الأنفية»، أي التي تثبَّت على الأنف، من دون أن نعرف اسمه الحقيقي، يخفي حقيبة ملأى بالروايات الغربية، مصدر حبكة الرواية.

البطل القارئ حيلة للسرد «أو» بطل رواية «ليلة التنبؤ» لبول أوستر، ينجو من مرضه بأعجوبة بعد أن شارف على الموت، فيقوم بكتابة رواية انطلاقاً من رواية كاتب أمريكي آخر. ولأن بطل روايته قارئ نصوص في دار نشر كبيرة، ترسل له حفيدة كاتبة أمريكية من مطلع القرن العشرين رواية جدتها التي كانت هربت مع عشيقها إلى لندن وكتبت روايتها هناك وهي تحمل عنوان الرواية نفسها «ليلة التنبؤ». وبقيت تلك الرواية معه، وأوصى بأن تكون الرواية لحفيدة الكاتبة. هكذا الكتابة في رواية أوستر أشبه بلعبة دمى روسية.

8140257في المقابل، أصدر كارلوس رويث زافون، مواطن ثرفانتس، روايتين نجد فيهما القراءة هي البطلة، القراءة هي المتاهة والجنون والسرد المشوِّق، الروايتان «لعبة الملاك»، و«ظل الريح» تتكاملان ببعضهما من مختلف النواحي. وبطل «ظل الريح» ابن وراق يبيع الكتب المستعملة والنادرة، يعيش مع أبيه الذي يأخذه يوماً إلى مكتبة كبيرة تدعى «مقبرة الكتب القديمة». وفي المقبرة يتعين على كارلوس رويث زافون أن يختار كتاباً يحتفظ به لنفسه. يختار دانييل كتاباً بعنوان «ظل الريح» لمؤلف غير معروف يدعى جوليان كاراكس. يقرأ دانييل الرواية بشغف وينغمس في صفحاتها وينسى ما حوله إلى أن يفرغ من القراءة. وفي رواية «لعبة الملاك» نذهب من جديد إلى مقبرة الكتب، دافيد، بطل الرواية الجديدة، يعيش ويكبر بين الكتب. والده شخص جاهل، يعامله بفظاظة وقسوة. لقد أرسله إلى صاحب مكتبة كي يعمل لديه. راح دافيد يقضي جلّ وقته في المكتبة يقرأ القصص والروايات. يتعرَّف إلى أعمال تشارلز ديكنز ويتعلق في شكل خاص برواية «توقعات عظيمة». يصبح مولعاً بديكنز وأعماله.

القارئ بطل الرواية لم لا، ربما لأنه لا رواية بلا قرَّاء، والقارئ صانع الرواية قبل الكاتب.

أضف تعليق

التعليقات