قول في مقال

درس إلكتروني
في الهمة و..الكرم؟

في نهاية شهر ديسمبر, أعلنت «مؤسسة ويكيميديا» التي تصدر الموسوعة الإلكترونية «ويكيبيديا» عن اكتمال حملة جمع التبرعات التي كانت قد بدأتها قبل بضعة أسابيع.
طه النقاش يقرأ ما تتكشف عنه هذه الحملة من تفاصيل جديرة بالملاحظة على ضوء المخزون الثقافي العربي على شبكة الإنترنت, وواقع حاله الذي لا يبعث كثيراً على الزهو.

الذين تصفحوا موقع الموسوعة الإلكترونية «ويكيبيديا» خلال شهري نوفمبر وديسمبر الماضيين, كانوا يطالعون في أعلى الصفحة الأولى من أي موضوع عبارة «نداء عاجل من مؤسس ويكيبيديا جيمي ويلز», وقرب الإعلان عن النداء, كانت هناك صورة رجل توحي هيئة وجهه بشيء من الطيبة والثقة والاحترام (هو ويلز نفسه). والذين قرأوا النداء عرفوا فوراً أنه دعوة إلى التبرع لهذه الموسوعة الإلكترونية, التي توفر لقرائها كل ما يشاؤونه من معلومات مجاناً, وتخلو في الوقت نفسه من أي إعلان تجاري. ومما جاء في نداء ويلز أنه والكثير من العاملين في الموسوعة لم يتقاضوا أي راتب على عملهم خلال السنة الماضية, وأن أي قرش يتبرع به مستخدمو ويكيبيديا سيساعدهم على الاستمرار في عملهم للعام التالي (الحالي).
وفي نهاية شهر ديسمبر, طالع متصفحو هذه الموسوعة محل النداء السابق عبارة «شكراً لكم». فقد جمعت الموسوعة, أو بالأحرى مؤسسة «ويكيميديا» التي تصدرها, نحو 16 مليون دولار, أي ما يكفي لإدارتها طوال العام المقبل. وجاء في التفاصيل أن عدد المتبرعين فاق نصف المليون.

وكان المعدل العام للتبرع «22 دولاراً» من الشخص الواحد. وأن نحواً من 130 ألف شخص تبرعوا للفرع المحلي من ويكيبيديا..
فلماذا كانت الاستجابة على قدر الطموح؟

النجاح… مسألة قرار
أول ما ظهرت «ويكيبيديا» على شبكة الإنترنت, لم يلحظ وجودها أحد. فقد بدأت بجهاز «لابتوب» واحد. وما كانت تسمي «موسوعة» كانت تفتقر إلى الكثير في تغطيتها لموضوعات و«بنود» أساسية وكبيرة. وفي منتصف مسيرتها, أي قبل سنوات خمس, بدأ الناس يأخذون هذه الموسوعة على محمل الجد. ولكن تقييمها كان يتضمن الكثير من النقد والإشارات إلى الثغرات الملحوظة «أكاديمياً»… أما اليوم, وهذه الموسوعة تحتفل بمرور سنوات عشر على تأسيسها, فقد أصبحت على أرض الواقع المنهل الثقافي والعلمي الأول في العالم دون منازع.

فموقع «ويكيبيديا» هو الخامس في العالم من حيث عدد الزوار… وكل من يعمل في الشأن الثقافي أو العلمي أو التعليمي, صار يلجأ إليه للاستطلاع والبحث.. حتى تلامذة المدارس الإعدادية, صاروا يعتمدون عليه لإنجاز واجباتهم المدرسية، حسبما يروي المعلمون. وصار من الممكن أن تمر سنة أو سنتان أو ثلاث دون أن يتصفح الباحث الموسوعات التقليدية الكبرى. ونتيجة للغنى المتزايد في مخزون ويكيبيديا, وتعزيزه بالروابط المكملة لأي بحث. وإذا استمرت هذه الموسوعة بالنمو بالوتيرة نفسها, فمن المرجح أنها قبل نهاية العقد الحالي, ستتحول إلى البوابة الأولى للمعارف الإنسانية, التي لابد من المرور عبرها للوصول إلى أية معلومة في العالم. إنها حكاية نجاح مذهلة, ودرس في النجاح. فما الذي يقوله هذا الدرس؟

لسنا بحاجة إلى التوسع في الكثير من التفاصيل: فهناك طموح واضح في ذهن فرد لم يكترث للعقبات المادية, ورضي في سبيل تحقيق هذا الطموح بالعمل لسنة من دون راتب. وهناك «النَفَس الطويل» أي العمل لسنوات وسط اللامبالاة أولا,ً ثم الانتقادات ثانياً. قبل انتزاع اعتراف الجميع بجدوى هذا العمل وقيمته. وهناك أيضاً ما قد يكون الأهم من كل ذلك في السنة العاشرة من عمر هذه الموسوعة, وهو احتضان الناس لها. يعبر عن ذلك هبوب نصف مليون شخص للتبرع لها، حفاظاً على استمراريتها.

الشيء بالشيء يذكر!
والآن… ماذا لو تطلعنا إلى واقع حال ثقافتنا العربية والإسلامية على شبكة الإنترنت؟

التذمر من فقر هذا المخزون المنشور إلكترونياً, لا يزال هو نفسه كما كان في السنوات الأولى لظهور شبكة الإنترنت. ولا يزال يتكرر على كل لسان، حتى أصبح مملاً.
لا وقع له في النفس.

ويعود هزال الحضور الثقافي العربي على الإنترنت، مقارنة بغيره, في الأساس, إلى أنه ما من جهة عربية شحذت همتها لنشر التراث العربي بكل ما يختزنه من معارف وعلوم وفنون وآداب, بشكل منهجي كما فعلت الحكومات الغربية. وهذا ما يعرفه الجميع, ويعاني منه أي باحث عربي. ففي حين أن البحث مثلاً عن لوحات لفنان فرنسي من القرن السابع عشر, يوصل الباحث فوراً إلى كشف كامل بكل هذه اللوحات, فإن البحث عن سيرة رسام عربي معاصر, يتوه بالقارىء بين عشرات المواقع التي ورد فيها ذكره بشكل أو بآخر, وفي معظم الأحيان في مواقع منتديات هواة الحكي عن الفن والثقافة, ليس أكثر. الأمر نفسه ينطبق على أعمال كلاسيكية في الأدب والفكر العربي, لا وجود لها على شبكة الإنترنت، لا في صيغتها الأصلية الكاملة, ولا حتى مجرد ذكر لها, إذا لم تكن قد نشرت مجدداً في زمن صف الأحرف على الكمبيوتر, بحيث إن نشرها على الإنترنت لا يعود يكلف شيئاً.

ولكن أن تكون الجهات الرسمية العربية قد قصّرت في نشر التراث والمعارف العربية على شبكة الإنترنت, كما يطيب للبعض أن يردد, فإن ذلك لا يعني أنها وحدها تتحمل مسؤولية ذلك. فلماذا لم يظهر عندنا «جيمي ويلز» عربي بالهمّة نفسها والإصرار نفسه؟ خاصة وأنه ظهر فعلاً في الغرب، حيث لا تذمر من أي فقر في المخزون المعرفي على الإنترنت. في حين أن التذمر عندنا بقي تذمراً, ولم يتحول إلى مبادرة, أي مبادرة من شأنها أن تنتقل بالواقع إلى حال أفضل.

فالحكومات والجهات الرسمية إذن ليست وحدها مسؤولة عن هذا التقصير, بل هناك جزء من المسؤولية يقع فيه المثقفون أنفسهم, وخاصة أولئك الذين يزعمون أنفسهم «حاملي الهم الاجتماعي والثقافي العربي», فلو صرف هؤلاء بعض الوقت الذي يصرفونه على التذمر لاتخاذ مبادرة تنفيذية تغني مخزون المعارف العربية على الإنترنت، لكان وضعنا أفضل بكثير مما هو عليه.

وأخيراً وليس آخراً, هناك شطر كبير من المسؤولية يقع على عاتق المجتمع بشكل عام, أي على الجمهور العريض الذي يقر بحاجته إلى الاطلاع على تراثه الثقافي والمعرفي بلغته, ولكنه في الوقت نفسه, لايبدو مستعداً لأن يحرك ساكناً في دعم أي مشروع يهدف إلى تلبية حاجته هذه, بخلاف نصف المليون شخص الذين احتضنوا ويكيبيديا, وبذلوا بعض مالهم الخاص في سبيل إنقاذها.

إن المسألة ليست مسألة كرم وبخل. ففي كل يوم تطالعنا الصحف بأخبار تبرعات سخية قدَّمها، مشكورين، أناس ميسورون تلبية لنداءات إنسانية ملحة. وبإمكان الكثير من هؤلاء أن يحلوا أية مشكلة تتعلق بتمويل مشروع علمي ثقافي مثل ويكيبيديا وأكثر. ولكن العائق الحقيقي هو في مكان آخر.

العائق هو في توزع المسؤولية عن القضية التي نحن بصددها على أكثر من طرف: الجهات المسؤولة رسمياً عنها (جزئياً), والمثقفون والباحثون (جزئياً) أيضاً. والمجتمع ككل (جزئياَ كذلك).

فالمشكلة إذن هي مشكلة تكامل واشتراك في النظرة إلى أهمية إغناء المخزون المعرفي العربي على الشبكة, والارتفاع به, ليس بالضرورة إلى حد الكمال, بل إلى الحد اللائق على الأقل..

الخطر كل الخطر. هو في تراجع الإحساس بضغط الحاجة إلى التصرف والعمل. خاصة وأن ما ينشر على المواقع العربية باللغات الأجنبية عن التراث المعرفي العربي يتمتع بمستوى عالٍِ من الجدية والقيمة, بحيث بات الكثير من الباحثين العرب يعتمدون عليه. والأدهى من كل ذلك, هو أن الموسوعة «ويكيبيديا» تترجم إلى العربية, رغم أن المترجم منها إلى العربية لا يزال حتى الآن فقيراً، مقارنة بالموقع الإنجليزي. ولكن تحسن محتوى «ويكيبيديا» العربية (وهي محكومة بالتحسن), سيجعلها بوابتنا الرئيسة إلى معارفنا.. وماذا يمكننا أن نقول عندها..؟؟

أضف تعليق

التعليقات