حين يراجع أحدنا نفسه ويبحث في جدوله اليومي عن أعمال تطوّعية فلا يجد شيئاً؛ فإن ذلك يشير إلى وجود خلل ما في علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بمجتمعه.. الدكتور علي العبدالقادر يراجع معنا مفهوم العمل التطوعي وانعكاسه على الذات وعلى البيئة، مروراً بالقيم الدينية والإنسانية التي يتعامل البشر من خلالها..
أتذكر من أيام التدريس الجامعي موقفاً جديراً بالتأمل؛ فذات يوم شكا إليّ أحد طلابي معاناته من التوتر والقلق اللذين راحا يتزايدان بسبب شكواه من مرض باطني. أخبرني الطالب أن الوصفات الطبية لم تُجدِ معه نفعاً، وأن قلقه قد وصل إلى مستوى لا يُحتمل..!
رحت أحاوره في شكاواه، وأسأله عن بعض الأمور، وتوصلت معه إلى فكرة، هي أن يتشاغل عن قلقه بمساعدة زملائه في دراستهم، وأن يسهم في فعاليات صندوق الطلبة، وأن يشارك في النشاطات الثقافية والرياضية التي تنفذها الجامعة. أتذكره كان قلقاً شاحباً، مرتبكاً غير قادر على التركيز جرّاء ذلك القلق الذي أفسد عليه كثيراً من متع الحياة والتحصيل. وبعد أن اتفقنا على الفكرة، غادر مكتبي.
بعد شهر، أو أكثر قليلاً، زارني الشاب نفسه. ويا سبحان الله.. كأنه حين زارني الزيارة الثانية لم يكن ذلك الشاب القلق المتوتر الذي فقد الثقة حتى بوصفات الأطباء قبل شهر من الزمان فقط.
دخل عليّ المكتب بروح عالية، بشوشة، نشطة، وحين ناقشته في أوضاعه سرد عليّ قائمة طويلة بما أنجزه منذ غادر مكتبي.
نظم برنامجاً لتدريب زملائه على الحاسب الآلي والبحث العلمي دون مقابل. واقتطع من وقته جزءاً للرياضة، والأنشطة الثقافية، ووضع تنظيماً دقيقاً لواجباته الدراسية وأعماله التطوعية. فكانت النتيجة أن قلقه وتوتره أخذ في التلاشي يوماً بعد يوم، حتى أن شكواه المرضية لم يعد لها وجود تقريباً.
للعلاج وللرضا عن النفس
قصة أخرى أتذكرها أيضاً. فقد شكا لي أحدهم ارتفاع ضغط الدم الذي لم يكن يشكو منه قبل تقاعده. فقام بعلاج نفسه من خلال سلوك يومي يمارسه هو زيارة المرضى في المستشفيات ومحاولة إدخال السرور عليهم والدعاء لهم. وبعد مرور فترة من الزمن، لاحظ زوال ما يشكو منه، لأنه بعد زيارتهم كان يشعر بسرور وسعادة، ويمارس نشاطاً اجتماعياً خيرياً، يبعده عن التوتر وضيق الخاطر والخمول في المنزل.
وحين كنت طالباً في الولايات المتحدة الأمريكية، عرفت قصة لسيدة تعدت السبعين من العمر واقفة على رصيف شارع، تحمل في يدها أداة فسفورية خضراء اللون، توقف بها السيارات حين يتوجه التلاميذ إلى المدرسة وحين يخرجون منها، وترافقهم لتعبر بهم الشارع من الرصيف إلى الرصيف، لمدة ساعة صباحاً وساعة مساءً. وكانت تحرص على الحضور قبل وصولهم وقبل خروجهم، وهي مبتسمة في هدوء وسعادة برؤية التلاميذ ورعايتها لهم. وعرفت أنها تمارس هذا السلوك لأكثر من عشر سنوات، كانت مكتفية بالرضا ونبل الهدف..!
والحقيقة هي أنني لا أريد أن أضع العمل التطوعي والعصا السحرية في موقع واحدٍ، ولكنني حين أتأمل هذه القصص وكثيراً من القصص المماثلة فإنني أصل إلى نتيجة يقرها العلم، هي أن خدمة الناس والسعي إلى نفعهم والتعايش معهم وتفهم احتياجاتهم ومحاولة تلبيتها.. كل ذلك من شأنه أن يترك آثاراً إيجابية كثيرة في النفس البشرية، فتنعكس هذه الآثار في شكل راحة بال وهدوء ضمير واستقرار نفسي وشعور طيب لما يعود على الآخرين من الأعمال.
وتتميز الأعمال التطوعية الخيرية بالمردود الإيجابي العظيم على الذات وعلى المجتمع على حد سواء، إنها أعمال تنبثق من نفس مشبعة بالخير والحب والجمال، ويحركها ضمير حي مفعم بالقيم والمثل الدينية والإنسانية، وتصدر عن قلب متوهج بالإيمان، متجرد من الأنانية والشح.
وسواء أكانت الأعمال التطوعية مادية أو معنوية، قولاً أو فعلاً أو فكراً أو علماً، فهي سلوك بشري تحتاجه المجتمعات في مختلف الثقافات، لتنمية برامجها وخدماتها الاجتماعية أو التعليمية أو الصحية. ذلك أن التبرع بتقديم الخدمة أو المال أو بذل الجهد يصل إلى درجة الإحسان التي تفوق درجة الإتقان.
ومن شأن هذه الأعمال التطوعية أن تعود على المجتمع بتحقيق مبادئ سامية من أهمها التكافل الاجتماعي الذي نادى به الدين الإسلامي واعتبرها هدفاً استراتيجياً، وإطاراً كبيراً للأعمال الخيرية، التي تحقق الرخاء لأفراد المجتمع، وتوثق العلاقات الطيبة بينهم، وتحد من الطبقية وسلبياتها، وتقلل من تأثير حالات الفقر والعوز في المجتمع، وتطفئ مشاعر الحسد والغيرة والحقد بين الناس.
العمل التطوعي.. دينياً
وإذا كانت الزكاة واجبة في التشريع الإسلامي؛ فإن هذا الدين العظيم قد حثّ وشجع مبادرات البذل التطوعية أيضاً، ووضع أولويات العطاء الملائمة للطبيعة البشرية، قال تعالى: }يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ|. (البقرة: 215).
هذه الآية الكريمة توضح أن الأعمال التطوعية الهادفة لخير المجتمع هي صدقة، وهي باب واسع مفتوح أمام الجميع من أفراد المجتمع أغنياءً وفقراءً رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً لتقديمها للصالح العام.
وتأتي الآية الكريمة : }إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ| (الحديد:18)، لتؤكد أن كل أفراد المجتمع المسلم يمكنهم تقديم هذه الأعمال، واكتساب رضا الله وثوابه.
وفي هذا المعنى يوضح الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بعض أعمال الخير غير المالية التي تعتبر صدقة في قوله: (كل سلامى من الناس عليها صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذي عن الطريق صدقة) متفق عليه.
(سلامى: إحدى مفاصل إصبع اليد الثلاث، فلكل منها صدقة).
هذه الأعمال التطوعية وغيرها صدقة لها عند الله منزلة كبيرة يجزي بها، صغرت هذه الأعمال أم عظمت. وجاء في الحديث أيضاً: (تبسمك في وجه اخيك صدقة).. أنه ابتسامة.. عمل بسيط، لكنه يشرح الصدر ويوثق المودة بين الناس. فكيف إذا كان العمل التطوعي عظيماً في ذاته وأهدافه؟ ولم يقترن بالمن والأذى، كما في قوله تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ|. (البقرة:264).
في ندوة القافلة
جالت مثل هذه الأفكار في خاطري وأنا أصغي إلى محاضرة الدكتور عبدالله بن حسين القاضي (العمل التطوعي.. مفهومه وممارسته) التي نظمتها «القافلة» قبل أسابيع. فقد استعرض الدكتور القاضي مشروعات تطوعية تنفذها مؤسسات خيرية في هذا الوطن ويسهم فيها متطوعون من أبنائه، ومنها على سبيل المثال: مشروع الاسكان الخيري، ومشروع تيسير الزواج، ومراكز الأحياء، ومركز التطوع بمدينة الجبيل، فضلا عن برامجها الإيوائية والإغاثية والتربوية المستمرة، ناهيك عن الدعم الشهري للأسر المحتاجة بمحافظات المنطقة الشرقية، وجائزة الأمير محمد بن فهد لأعمال البر التي حققت أهدافاً نبيلة في تشجيع القادرين على الإسهام في الأعمال الخيرية. وكل ذلك يؤكد المردود الإيجابي الكبير لهذه الأعمال على المجتمع.
أما المردود الإيجابي على الذات فإنه متعدد الجوانب، وقد بحثت في هذا الشأن الإنساني، فوجدت أن العمل الخيري يعين المرء على التخلص من متاعبه النفسية والعصبية والجسدية، ويشبع الحاجات الأساسية للإنسان، كحب الله وحب الناس له، وكتحقيق الذات، وتقدير الآخرين وثنائهم عليه. وهذه الأمور تحقق رضا الإنسان عن نفسه وتمنحه شعوراً بالسعادة التي تغمره بفيض من رضا الله سبحانه وثوابه، فضلاً عن تنمية طاقات الشخص وصقل مواهبه وقدراته العقلية الكامنة التي ربما ليس لها مجال للتفتح والانطلاق والإبداع سوى هذه الأعمال الجليلة حينما يقوم بها في مؤسسته أو يسهم بها في مشروعات البر وبرامجه العديدة في المجتمع، فتنقله من التقوقع على الذات إلى المجتمع الإنساني الرحب، وتعمق فيه المشاعر النبيلة، وتقتحم ظلمات النفس فتنيرها، وتزيل عنها غشاوة الأنانية ، وتزرع فيها قيم الحب والبر والجمال التي تشعره بإنسانيته وكرامته، وتذكره بأفضال الله عليه ، فيرافقه شعور فياض بالسعادة والغبطة طيلة حياته، ويتخلص من القلق والتوتر والاكتئاب ، فيحمد الله على نعمه التي لاتحصى.