رأي ثقافي

حكاية الطرب الحديث

80في حكاية الطرب الحديث في بلادنا خمس محطات فارقة لا يمكن أن تخطئها عين المؤرخ الناقد. وبعد الجيل التأسيسي والإحيائي من أمثال محمد علي السندي وطارق عبدالحكيم وحسن جاوه والشريف هاشم العبدلي.. برز جيل تالٍ جدَّد الأغنية المحلية الحديثة، وطبعها بطابع حديث مبتكر شكّل ذائقة أجيال عريضة وهوية شعب.

أولى تلك العلامات كان مثلث: فوزي محسون وصالح جلال وثريا قابل.. وثانيها: تحالف الثنائي عبدالله محمد وطلال مداح – بتداخل من لطفي زيني شعراً وإنتاجاً وتوزيعاً وتعهداً. ثم تحالف الموسيقار عمر كدرس ومحمد عبده.. وهي المحطة نفسها التي أفسحت المجال لمحطة الثلاثي سراج عمر ومحمد عبده وإبراهيم خفاجي.. وأخيراً محطة سراج عمر مع طلال مداح.. يتداخل معهما شعراً: بدر بن عبدالمحسن تارة ومحمد عبدالله الفيصل تارة أخرى، وسامي إحسان لحناً. وكان نصيب المكتبة الغنائية السعودية مئات الأدوار الغنائية من تلك الحركة الحديثة التي امتدت من مطلع الستينيات حتى منتصف الثمانينيات الميلادية.. وكانت تتعاون وتتداخل بقدر ما تتنافس وتتسابق. وكان السباق حينها محموماً نحو القمة وانتزاع صولجان الطرب.

كان طارق عبدالحكيم هو نجم الساحة الأوحد قبل الستينيات. ومع عام 1961م ومن بعد أغنية «وردك يا زارع الورد» سيغدو طلال مداح منافساً شرساً لأستاذه عبدالحكيم، في أول تنافس فني عرفته البلاد. وكانت الستينيات هي العقد الذهبي للأغنية السعودية، حيث برز إلى جانب طلال مداح، كل من فوزي محسون، وعمر كدرس، وعبدالله محمد، ثم لحقهم محمد عبده وعبادي الجوهر.

وتوزعت الشلل الفنية وانقسمت. وكان انتقال ملحن بارز بين المعسكرين حدثاً فنياً بارزاً وعاملاً مرجحاً لاتجاه بوصلة التأثير والاهتمام. وأسس لطفي زيني «رياض فون» للأسطوانات في شارع قابل، التي كانت إلى جانب «توزيعات الشرق» تُنتج أعمال طلال مداح وفوزي محسون وعبدالله محمد وعبادي، فيما احتكرت أسطوانات «توزيعات رجاء فون» أعمال محمد عبده. وكانت الحفلات الفنية والشعبية التي تُقام في بيت وجهاء حارة النزلة بجدة، آل عبدربه، مسرحاً للتنافس بين المعسكرين والفنانين. وهي المنافسة التي ترتحل في الصيف مع ارتحال الناس إلى مصايفهم في بساتين الطائف، بل، وإلى خشبة مسرح كازينو بيروت. ولم تكن هناك أزمة نصوص أو ألحان. وبقدر غزارة الأعمال، كانت الجودة والقيمة الفنية عالية.

كان صالح جلال يكتب مع توأمه الفني ثريا قابل، وأحياناً يعدِّل عليهما فوزي محسون الذي كان يملك موهبة أدبية فوق موهبته الموسيقية. وكان إبراهيم خفاجي يكتب شعراً غنائياً حديثاً. ولطفي زيني وأحمد صادق يكتبان حصراً لطلال مداح. وقبلهم جميعاً عبدالله الفيصل ومحمد الفهد العيسى. وكان هناك اللبناني – ابن إذاعة جدة – سعيد الهندي. ثم جاء محمد عبدالله الفيصل وبدر بن عبدالمحسن بعنفوان كبير. بل إن الحركة استعانت في وهجها بقصائد رموز الأدب السعودي الحديث: أحمد قنديل، وطاهر زمخشري، وحمزة شحاتة.

كان محمد عبده، يمشي ترافقه شنطة للنصوص يفتحها للملحنين الذين يتحلقون من حوله؛ عمر كدرس، وعبدالله المرشدي، وسراج عمر، وسامي إحسان، ومحمد شفيق. ومن «شنطة النصوص» تلك أخرج سراج عمر نص «يا حبيبي آنستنا» الذي كتبه إبراهيم خفاجي لمحمد عبده، واختار سراج تلحينه ليكون فاتحة تعاون موسيقي امتد لعقود.

ولقافلة الزيت حضورها
ومن قصص الأدوار الغنائية. ما فعله عبدالله محمد، حينما تلقف نصاً شعرياً فصيحاً، وقعت عيناه عليه منشوراً في مجلة «قافلة الزيت» لشاعرة عراقية رمزت لنفسها باسم «أمل».. كان يتحدث عن العشق والسحَر وبساتين النخيل.. أي ذات الصور التي استحوذت على وجدان العربي من قديم الزمن. تلقفه عبدالله محمد وصاغ له لحناً شرقياً وقدَّمه لطلال مداح ليشدو به بصوته العذب على خشبات مسارح الشعب وفي عزّ فصول التنافس الفني المحموم.. فكانت أغنية «سويعات الأصيل».

أضف تعليق

التعليقات