الرحلة معاً

في مديح

«على خُطى العرب»

لندن هي إحدى العواصم الثقافية العريقة في العالم، الشواهد على ذلك لا تُحصى، لكنّ سكان هذه المدينة وزائريها اعتادوا مشاهدة مجموعة من اللوحات الزرقاء المثبّتة بأناقة على واجهات بعض الشقق أو المباني داخل الأحياء البريطانية العتيقة. ليست تلك اللوحات الصغيرة سوى تذكارات صغيرة لطيفٍ واسعٍ من الأسماء الأدبية العالمية اللامعة، وأحياناً لأسماء بارزة في حقول الاقتصاد أو الهندسة أو المال أو السياسة أو العمارة، والتذكار يحمل اسم المؤلف أو المبدع وتاريخ سكناه ذلك المبنى وهويته الإبداعية… وجدتُ في هذا التقليد النادر احتفالاً صامتاً بقيمة الكاتب، وقيمة المدينة، ومنصّة بصرية لتعريف السكان والعابرين بتلك الكوكبة الرفيعة من الأدباء والمبتكرين الذين احتضنتهم المدينة يوماً ما.
تذكرت هذا وأنا أنتزع نفسي من البرامج والمسلسلات الرمضانية والإعلانات التجارية المحتشدة بالغث والسمين، لأتابع حلقات «على خطى العرب» التي أعادت بثها قناة العربية، والبرنامج في خلاصته عبارة عن سلسلة من الزيارات الحية لمجموعة كبيرة من المواقع التي شهدت حياة وموت شعراء العربية الذين عاشوا في العصر الجاهلي وصولاً إلى عصر صدر الإسلام وما بعده، وهذه الرحلات تعرض مضمّخة بالقصائد وسِيَر الشعراء ومفردات الطبيعة التي احتضنت حياتهم وخيالاتهم وأفراحهم ومآسيهم أيضاً..
المكان بكل صوره وتجلياته وتنوّعه وملامحه المندثرة هو البطل الحقيقي في هذا العمل الثقافي المهم الذي أخرج نخبة من أدبائنا من الكتب والأرفف المهملة إلى الفضاء الحر، ولعل قدرة معدّ البرنامج د. عيد اليحيى، ومخرجه قتيبة الجنابي قد تجلَّت في إحياء الأمكنة الدارسة من جبال وصحاري وأودية وآبار وتلال وشعاب وشواطئ كمجالات طبيعة وبصرية عاش في كنفها أولئك الشعراء العظام وتقديم ملامحها بأكبر قدر من العفوية المغلَّفة بالذكاء، وهكذا أصبح يسيراً علينا أن نشاهد جبال «الدخول» و«حومل» و«توضح» و«المقراه» التي خلَّدتها قصيدة امرؤ القيس الشهيرة، وأن نرى المكان الذي قُتل فيه ابن السموأل أمام أبيه وفاءً لصديقه… الذي استأمنه على دروع محاربين، وأن نقترب من الميدان الذي كان مسرحاً لحرب داحس والغبراء الشهيرة، وأن نرى الغار الجبلي الذي قضى فيه تأبط شراً جلّ سنوات حياته، وأن نرى جبل «عَلَمْ» الذي رثت قربه الخنساء أخاها صخراً، وأن نطلّ على المكان الأخير الذي شهد آخر لحظة من حياة الشنفرى وليلى الأخيلية…
كلهم إذن عاشوا في تلك الجغرافيا الطبيعة الأخّاذة حيناً والقاسية أحياناً، وعلى تلك الأرض الشاسعة التي تصول فيها الريح، ولدت المعلقات والقصائد، وخَبُر الشعراء آلام الحُب ولوعات الفراق، وعقوبات القبيلة والأهل التي بلغت نفيهم ليقضوا شطراً من حياتهم في أتون الصحراء يصادقون الهوام ويلتحفون السماء.. دون أن يدروا أنهم يصنعون بذلك هوية مكتملة الأركان للشعرية العربية التي خلَّدت اللغة العربية ونشرتها شرقاً وغرباً.
إن ما كتبه النقَّاد والباحثون عبر قرون عن هؤلاء الشعراء هو ضخم وتصعب الإحاطة به، وأغلبه بقي أسير الذاكرة أو رفوف المكتبات، فيما تكمن فضيلة هذا البرنامج في تجديد ذلك التراث النقدي الصامت، وتسخير الوسائل الإعلامية الجديدة لنشره وإحيائه في أوساط جيل يتبرّم بماضيه وتراثه ولغته أحياناً.
إن عملاً كبيراً كهذا لن ينجو من بعض الملاحظات التي تنصبّ على دقة النصوص الشعرية أو قراءة معدّ البرنامج لها، أو صحة الأحداث، وأماكن وقوعها، أو إبراز جوانب من حياة شاعر وإغفال بعضها، لكننا في الحقيقة لا ننتظر بحثاً أكاديمياً محكّماً بل برنامجاً ثقافياً يخضع لشروط العمل التلفزيوني وإيقاعه ويتوجه إلى شرائح متنوعة من القرَّاء والمشاهدين، لكننا في كل الأحوال كسِبنا موقعاً مهماً في خارطة البرامج التلفزيونية التي تحفل بكل الأطايب ما عدا الوجبات الثقافية الخفيفة أو حتى الثقيلة.

أضف تعليق

التعليقات