حياتنا اليوم

التعليم الذي يتحدَّى التطور التكنولوجي

shutterstock_119131771ينهي معظم الأشخاص تعليمهم الأساسي في أوائل العشرينيات من عمرهم، ويتوقعون أن يعتمدوا على تحصيلهم العلمي هذا في عملهم المستقبلي طيلة فترة حياتهم. ولكن أجهزة الكمبيوتر والروبوتات الحديثة بدأت تأخذ مكان عديد من الوظائف لتترك عدداً كبيراً من الأشخاص دون أي مدخول وخارج سوق العمل. فما هو مآل هذا المسار مستقبلاً؟.

صدر تقرير مؤخراً في بريطانيا يقول إنّ التطوّر في علم الحوسبة والروبوتات قد يلغي ما يعادل ثلث الوظائف في العشرين سنة المقبلة، أي إن هناك حوالي 10 ملايين وظيفة سيتم استبدالها بالنظم الآلية المتطورة. وقد بدأت هذه التأثيرات بالفعل، إذ أشار التقرير نفسه إلى إنّه في لندن وحدها خسر أكثر من %65 من القيِّمين على المكتبات وظائفهم منذ 2001م، بالإضافة إلى نصف وظائف السكرتارية. وهذه مسألة في غاية الأهمية، إذ ستتجاوز تداعياتها الجانب الاقتصادي ليكون لها تأثيرات اجتماعية وسياسية في غاية السلبية.

أسرع من الطلاب..؟
مما لا شك فيه أن أجهزة الكمبيوتر والروبوتات تطورت إلى درجة كبيرة، بحيث أصبحت قادرة على أن تتعلم في ثوانٍ معظم الحقائق والمعلومات التي يكتسبها الطلاب في الجامعات والمدارس طيلة فترات دراستهم. ومما لا شك فيه أيضاً، أن التطور التكنولوجي يسير على طريق ابتكار أجهزة تكنولوجية ذكية بسرعة كبيرة قبل أن ينتهي معدّل الحياة البشرية الواحدة. فقد ازدادت القدرة على تخزين المعلومات في أجهزة الكمبيوتر بين عامي 1960 و2003م بمعدّل %60 سنوياً. وفي الوقت نفسه، تطورت تكنولوجيا أشباه الموصلات بمعدّل %40 في فترة خمسين سنة . وهذه المعدّلات هي في صلب تطور الآلات الذكية من الروبوتات إلى السيارات إلى الطائرات دون طيار، التي ستسيطر على الاقتصاد العالمي وتؤدي إلى خفض قيمة العمل الإنساني بسرعة فائقة.

تقسيم عمل جديد؟
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو نوع التعليم القادر على تحدِّي النظم الآلية الذكية ويكون غير قابل للاستبدال بأي جهاز متطور ويضمن للمتخرجين فرص العمل الجيدة في السنوات العشرين أو الثلاثين أو الخمسين اللاحقة؟ هناك نقاشات عميقة بدأت تظهر في عدد من الجامعات المهمة للإجابة عن هذا السؤال.

يحاول بعض الأكاديميين استكشاف أنواع التخصصات التي تحدَّت الاستبدال من قبل التطور التكنولوجي أكثر من غيرها. فقد قام ريتشارد د. موراين وفرانك ليفي مؤلِّفا كتاب «التقسيم الجديد للعمل» بدراسة المهن التي انتشرت خلال ثورة المعلومات في الماضي القريب، وحيث أسهمت الآلات الذكية في تعزيز وظائف أخرى مثل مدير الخدمات في وكالة بيع السيارات والمستشار المالي وغيرها، بالإضافة إلى الوظائف التي بقيت آمنة رغم التغيير كالوظائف التي تتطلب المهارات الشخصية كتلك التي في القطاع الصحي، وتلك التي تتطلب القدرات الإبداعية والعلوم والخبرات الهندسية ومقارنتها بالوظائف التي تراجعت مثل الوظائف الإدارية والمكتبية ووظائف قطاع الخدمات والبيع والنقل والإنتاج. وقد وجد الباحثان موراين وليفي عوامل مشتركة بين الوظائف الناجحة لكونها تتطلب مهارات تواصل مركبة وخبرات متخصصة شاملة وعميقة في الوقت نفسه، ومعالجة معيَّنة للمعلومات.

اتجاهان
من هذا المنطلق ظهرت وجهتا نظر أساسيتان في الأوساط الأكاديمية من أجل إحداث التغيير المطلوب في التعليم ليبقى صامداً أمام التغييرات التكنولوجية المتسارعة.

تؤكد وجهة النظر الأولى أنّ على الجسم التعليمي توفير نوع من التعليم العام والمرن يقدِّم رؤية إنسانية شاملة عل أمل ألا يكون قابلاً للاستبدال من قبل أجهزة الكمبيوتر. أما وجهة النظر الأخرى فتقول إن التعليم الجامعي يجب أن يكون موجّهاً أكثر نحو سوق العمل من خلال ربطه باستمرار بالعالم الحقيقي الواقعي، بحيث يمكّن الطلاب من اكتساب المهارات الكافية في الريادة والإبداع. وتجدر الإشارة هنا إلى أن وجهتي النظر هاتين ليستا بالضرورة في تضارب ما بينهما.

وقد حصل إجماع على أن من أهم المعوقات أمام تحقيق هذه الأهداف، ارتكاز التعليم الجامعي على بنية تقليدية من الكليات المنفصلة التي يشغلها أساتذة مهتمون بالدرجة الأولى، أن يكونوا الأوائل في اختصاصاتهم الضيِّقة المحددة فحسب. ولا شك في أن هذه البنية المعتمدة على الكليات المنفصلة هي الأساس في الجامعات حول العالم ومن الصعب جداً تغييرها. إلا أن الوضع لم يكن دائماً كذلك، حيث إن برامج التعليم العام في عديد من الجامعات المهمة وُضعت في الأساس لتزويد الطلاب بمعرفة واسعة شاملة تؤهلهم للتعامل مع مختلف القضايا والمسائل الحياتية. ففي جامعة هارفرد الأمريكية، مثلاً، دار جدل مؤخراً حول ما إذا كان برنامج التعليم العام في الجامعة، الذي وضع في 1946م لا يزال ناجعاً، لأن عديداً من الأساتذة أخذوا يركِّزون على المواد العلمية الضيِّقة دون الانتباه إلى الأهداف التعليمية الأوسع.

«مهارة عيش الحياة»
وفي تصريح حديث أعطاه البروفيسور شين د. كيللي، رئيس لجنة مراجعة برامج التعليم العام في جامعة هارفرد، أشار إلى أنّ كل شهادة جامعية من هارفرد يجب أن تزوِّد الطلاب بما سماه بـ «مهارة عيش الحياة». ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ من المهم تحضير الطلاب للفرص الريادية في مجالات العمل التي يمكن اقتراحها من خلال الاختصاصات الجامعية نفسها. حتى إن الكليات البعيدة تماماً عن عالم الأعمال يمكنها أن تقوم بذلك باقتراح مشاريع ونشاطات يمكن أن يشارك بها الطلاب، ويستخدموا المهارات المكتسبة منها لاحقاً في أي وظيفة أو مهنة يختارونها. وتجدر الإشارة هنا إلى كتاب بعنوان «تحديد الإطار الأكاديمي» يقترح فيه مؤلفه جون بيري ميل، استراتيجيات عديدة لربط التخصصات الجامعية المختلفة في عالم الأعمال. والفكرة الأساسية هنا هي أن تصبح المقررات أكثر دينامية وواقعية مثل ربط النظريات الحسابية في علم الرياضيات بتطبيقات عملية في عالم المال، وإيجاد الحس لدى الطلاب في تخصصات إدارة الأعمال والتمويل بأن التمويل، مثلاً، يجب أن يكون مرتبطاً بفن تمويل النشاطات الإنسانية، وجعل الأشخاص (والروبوتات يوماً من الأيام) يعملون معاً لإنجاز ما يجب إنجازه.

وإلى جانب تحسين وتطوير المقررات لتلائم العالم الرقمي الذي نعيش فيه، يجب القيام بعملية إعادة تقييم مستمرة لتحديد الاختلاف بين التعليم البشري وقدرات تعلم الأجهزة الذكية، لعلنا نستطيع أن نحافظ على «مهارة العيش في هذا العالم»، مهارة تمكننا دوماً من التأقلم مع التطورات التكنولوجية التي تبدو، حتى الآن، كقطار يتقدَّم بسرعة فائقة دون التوقف أو الالتفات إلى الوراء.

أضف تعليق

التعليقات