حياتنا اليوم

بين الذكور والإناث

فجوة تعلمية من نوع آخر

gapيردِّد الكثير أفكاراً متناقلة وشائعة حول وجود اختلافات بين قدرات الذكور من جهة والإناث من جهة أخرى على دراسة بعض المواد العلمية، وحتى الإبداع في بعض مجالات الفنون. ولكن بموازاة هذا الاعتقاد الذي ما زال مثار جدل، ثمة ملاحظة من نوع مختلف تماماً، تؤكد الدراسات والإحصاءات الرصينة حقيقتها، وهي بداية ظهور شكل من التفوق الدراسي العام في صفوف الإناث على ما هو عليه حال الذكور.

طالما ظهرت دراسات أكدت أنّ هناك فجوة تعلمية بين الذكور والإناث في مجال علم الرياضيات، وأن هناك تفوقاً واضحاً لصالح الذكور. وأوّل ما تفجَّرت هذه المسألة وظهرت للعلن كان عند قيام فريق من الباحثين في قسم علم النفس في معهد جون هوبكينز الأمريكي بنشر تقرير يشير إلى أنّ سبب هذه الفجوة هو تفوق دماغي عند الذكور. وتسببت هذه المسألة بنقاشات حادة، خاصة في أوساط الحركات النسائية، إلى درجة أنه بعد ربع قرن من ظهور التقرير، اضطر رئيس جامعة هارفرد الأمريكية إلى الاستقالة بسسب آرائه حول هذه المسألة. وعلى الرغم من كل ذلك، استمر تدني مستوى تمثيل النساء في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. ولكن في خضم تلك النقاشات كان هناك أمر مهم تم إغفاله وهو: لماذا يتراجع تعلم الذكور في كل مجال آخر؟

فقد صدرت مؤخراً دراسة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تفيد بأنه على الرغم من استمرار الفجوة التعلمية في الرياضيات، هناك فجوة كبيرة بين تعلّم الفتيان والفتيات وإنما لصالح الإناث هذه المرة. فالذكور هم الأقل تعلّماً في دول المنظمة الغربية التي تشمل اليابان وكوريا وتركيا، وهناك ستة فتيان من أصل عشرة يقصِّرون ويفشلون في تلبية المعايير الأساسية في مواد الرياضيات والعلوم والقراءة. وهذا يشمل 15 في المائة من الفتيان الأمريكيين، مقابل 9 في المائة لدى الفتيات الأمريكيات. وأن الفتيات أكفأ من الصبيان في تعلّم القراءة التي تُعد بحسب دراسة المنظمة من أهم المهارات الضرورية للتعلم في المستقبل.

يقول جيسبيرت ستوت الذي يدرِّس علم النفس في جامعة غلاسكو ويبحث في التفاوت في التعليم على الصعيد العالمي، إن «هذه الأرقام تدلّ على أن الفتيات في العالم لا يحظين بفرص جيدة في التعليم، ولكن ليس في جميع بلدان العالم. لا يمكننا التعميم، إذ لكل بلد خصوصيته». ويضيف: أن «الذكور أقل قدرة على التعلّم من الإناث. ولكن ما يدهشني أنه لا جهود تُبذل، ولا رغبة، في حلّ المشكلات التي تواجه الذكور والمسؤولة عن حصول هذه الفجوة في التعليم».

المهارات هي المفتاح
42وجاء في دراسة المنظمة، أن 34 في المائة من الإناث اللواتي ترُاوح أعمارهن بين 25 و64 سنة، حصلن على شهادات جامعية، مقابل 30 في المائة عند الذكور. وهؤلاء، كما تشير الدراسة، محاصرون في حلقة مفرغة من ضعف الأداء والاندفاع والطموح والتسرّب المدرسي، الأمر الذي يؤدي إلى عدم تمتّعهم بمعايير تحقيق النجاح في سوق العمل الذي يتطلب مستويات عالية في المهارات. وهنا تكثر الأسئلة لدى خبراء الاقتصاد والتربية حول الأسباب، وما الذي يمكن فعله؟ ألا تحيلنا هذه الأرقام إلى توجه بعض الرجال إلى أعمال غير قانونية أو الوقوع في البطالة التي تكلّف المجتمعات بلايين الدولارات؟

قد يكون الجواب أن الحلّ يكمن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، من خلال رفع نوعية التعليم. ففي أحدث تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يقلل التقدم الاقتصادي والاجتماعي من عجز الذكور التعليمي، في حين أن التقرير لم يجزم بوجود علاقة منتظمة بين الفجوة بين الجنسين والوضع الاجتماعي والاقتصادي في الولايات المتحدة. فقد لاحظت الدراسة أن الأمريكيين الذكور من الأسر الفقيرة الذين يعانون من انفصال أهاليهم ويعيشون مع أمهاتهم، يعانون ضعفاً في التحصيل العلمي أكثر من الفتيات. والنتيجة أن التنمية وحدها لا تكفي لسدّ فجوة التعليم بين الجنسين.

تبرز الدراسة معاناة الفتيات عموماً من عدم ثقة بالنفس بقدراتهن الرياضية والعلمية، بينما يتمتع الذكور بثقة إضافية ومتهوّرة، ويثيرون كثيراً من النزاعات في المدرسة، ويحبون ألعاب الفيديو، ولا يحبون القيام بواجباتهم المنزلية، ولا يحبون قراءة القصص والكتب حتى ولو كانت للمتعة فقط.

وتقترح الدراسة، أن يزيد الآباء والأمهات من تشجيع الفتيات على دخول المجالات العلمية والتكنولوجية، وعلى تشجيع الصبيان على القيام بواجباتهم المنزلية، وأن يحثّ المدرسون الفتيات على دراسة الرياضيات، وأن يولوا اهتماماً خاصاً لتعليم الصبيان الفقراء! واقترحت دراسة المنظمة على المدرِّسين الكفّ عن اتهام الصبيان بأنهم مثيرون للمشكلات وكثيرو الحركة في المدرسة، والتوقف عن إعطائهم تقديرات وعلامات أقل من الفتيات!!! وكلها اقتراحات، تثير الضحك صراحة، إذ إن هذا الكلام ليس جديداً ولا مبتكراً لحل المشكلة.

ولكن الدراسة أشارت إلى أنه من غير الواضح كيف يمكن معاقبة الصبية الذين يحصلون على علامات منخفضة في المدرسة، وكيف يمكن إرغامهم على إعادة صفوفهم بناءً على سلوكهم السيئ. فهذه الأمور قد تجعلهم يهربون من المدرسة ويتسربون منها.

43ويتساءل الخبراء في هذه الدول عن تأثير هذه الأرقام على الازدهار الاقتصادي ومستقبل هذه الفجوة؟ وهل يمكن لهؤلاء الرجال المتسربين أن يمارسوا نشاطات تودي بحياتهم وحياة الآخرين؟ أو هل تزيد من نسبة العاطلين من العمل والمتشردين الذين تدفع الدول الغربية أرقاماً هائلة من اقتصادها لتغطي مسكنهم ومشربهم ومأكلهم وتأميناتهم الصحية وشيخوختهم؟ الأسئلة كثيرة. وعلى الأرجح أن تسرب الصبيان وعدم تمتعهم بمعايير تعليمية ومهارات عالية الجودة، يجعل سوق العمل يعاني خللاً في الجودة وفقدان وظائف كثيرة. فالإناث لا يمكنهن أن يردمن الفجوة في سوق العمل وحدهن في بلدان تحترم حقوقهن.

وعلى كل حال، ليست الجينات وحدها المسؤولة عن التعليم والفجوة بين الجنسين. هذا الاعتقاد صار بائداً، ولا يحل المشكلة بل يزيد من التمييز بين الجنسين. فالدول الغربية لم تضع استراتيجيات حقيقية لسدّ الفجوة العلمية والتعليمية عامة بين الجنسين، لأن الأمر معقَّد جداً ومرتبط بثقافة عامة وترسبات اجتماعية قديمة وسلوكيات عائلية وظروف تعليمية، كانت كلها تشجع الصبيان على خوض غمار التعليم وتُعد أن على النساء التوجّه نحو المجالات السهلة كي يتفرّغن لأطفالهن وأزواجهن. وهذا التوجه لا يزال سائداً في الدول الغربية والمتقدمة، وليس كما يعتقد البعض أنه محصور في الدول النامية.

ويتعلّق الأمر أيضاً بنوعية التعليم التي تُعطى للجنسين، وطريقة التعليم هذه التي تميّز بين ما يدرس الصبيان وما يلعبون وما يمارسون من رياضة… وكلها أمور متشابكة تحتاج إلى جهود عالمية وتضافر الجهود التربوية والاقتصادية، كما تضافرت الجهود ليكون التعليم للجميع.

50 في المائة من الإناث العرب يدخلن الجامعات
هذا فيما يتعلّق بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لكن ماذا عن دولنا العربية التي تّتهم أنها تهمّش المرأة وتمنعها من التعلم؟ وهل حقاً نجحت نضالات النساء وجمعياتهن وحكوماتنا في تأمين التعليم للجميع؟

إن نظرة عامة على ما يدور في هذا الشأن، تعطينا جرعة تفاؤل بأن تقدماً ملحوظاً يبرز في العالم العربي. ففي إحدى جلسات المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد مؤخراً في عمّان، ذُكر أن حوالي 50 في المائة من النساء العربيات يدخلن الثانويات والجامعات، مع أنهن لا يمثّلن أكثر من 20 في المائة في سوق العمل. وأن هناك نساء كثيرات يحملن شهادات عليا عاطلات من العمل.

44وهنا يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت الدكتور جاد شعبان، في حديث لـ «القافلة»، إن نسب الالتحاق بالجامعات والمدارس في العالم العربي ترتفع عند الجنسين. ويشير إلى أن نسبة التحاق الإناث ذات الفئة العمرية بين 18 و25 سنة بالجامعات في لبنان، تبلغ 20 في المائة فقط. ويرفض شعبان التمييز بين الجنسين على أساس الجينات لتفسير ميل الذكور إلى المواد العلمية والمجالات العلمية. ويعطي مثلاً دراسة أجريت في لبنان في العام 1995م تفيد بأن معدل علامات الذكور في الرياضيات كان 464 من 500، بينما كان معدل علامات الإناث 451. وفي العلوم، وصل معدل علامات الذكور إلى 417 من 500 بينما كان معدل علامات الإناث 413. أما في تونس، فعند الذكور 426، وعند الإناث 413 في الرياضيات. وفي العلوم، 417 للذكور و428 للإناث، ما يشير هنا إلى تفوق الإناث على الذكور في تونس من ناحية العلوم. وأعطى شعبان هذه الأرقام، ليؤكد لنا أنه حيثما تختلف تربية الأهل بين البنت والصبي، وتختلف توجيهاتهم وتوجيهات المدارس بين الجنسين، وحيثما تختلف نوعية التعليم أحياناً بين الجنسين، لم يكن الفارق كبيراً. وهو ما يؤكد أنه لا علاقة للجينات بالفوارق العلمية والتعليمية، بل «الموضوع يتعلق بالتراكمات الثقافية والتربوية».

وبالنسبة لدراسة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وغيرها من الدراسات التي تتناول هذه الفجوة بين الجنسين، لا يؤمن شعبان بأنها تعطي فكرة واضحة ودقيقة عن الفروقات، خصوصاً أنها جمعت في وقت زمني قصير. «يجب أن تكون المدة الزمنية للدراسة 10 سنوات وما فوق، لتكون دقيقة في الأرقام. ومع ذلك، فمن الصعب تحديد هذه المسائل المتراكمة والمعقدة في 20 بلداً، حيث لكل بلد خصوصية»، يقول شعبان. ويضيف: «هناك عوامل علينا الالتفات إليها في مجال التعليم والفجوة التعلمية، أولها الفقر، ونوعية التعليم، إذ إن هناك عدداً كبيراً من حاملي الشهادات الجامعية من ذكور وإناث لا يتمتعون بمهارات جيدة لدخول سوق العمل، وبالتالي يدخلون في خانة البطالة المقنعة».

إن نوعية التعليم في العالم العربي ومراقبته وتحديثه ووضع استراتيجيات تؤثر على الاقتصاد بشكل غير مباشر، مسائل ضرورية، لأنها تؤثر على سوق العمل. ولا شك أن المشكلة الاقتصادية في العالم العربي لا تتعلق بفجوة علمية بين الجنسين، بقدر ما تتعلق بالخلل الذي يسود سوق العمل. «النساء يتأخرن عن الالتحاق بسوق العمل، وعدد كبير منهن يتسجلن في الجامعات ولا يداومن ويتأخرن لنيل شهاداتهن لأسباب كثيرة منها الانشغال بالأمومة والزواج، أو يتسجلن كنوع من طلب المكانة الاجتماعية. لذا نرى أن نسبة البطالة المقنعة عند النساء في العالم العربي كبيرة. أما الرجال فيذهبون في غالبيتهم إلى العمل مبكراً بعد الثانوية مباشرة، وأحياناً لا يكملون الثانوية العامة، على اعتبار أنهم مسؤولون عن عائلاتهم، وهذا من عوامل الثقافة الذكورية».

فسوق العمل والتعليم ونوعيته، قضايا مرتبطة بعضها ببعض وتؤثر على الإنتاجية بشكل أو بآخر، وتتفاوت بين بلد وآخر. ولكن الاختصاصيين يعدّون أن الجامعات بحد ذاتها ووحدها ليست بالضرورة استثماراً جيداً ومهماً اقتصادياً، خصوصاً «عندما يكون هناك عدم توازن بين الاختصاصات الجامعية والتدريب المهني وسوق العمل، وعندما تكون نوعية التعليم تعاني خللاً، فالإنتاجية مرتبطة بسوق العمل أكثر من الجامعة

أضف تعليق

التعليقات