يسرد عبدالله التعزي في رواية «حرية الأبواب المغلقة» هواجس رجل يدعى «عبد الأمين»، يقيم منعزلاً هو وأمه وزوجته في منزلهم بحي البغدادية الشرقية بمدينة جدة، بل إنه يحبس نفسه في حجرته ويظل يراقبهما من ثقب الباب. ومن خلال بوحه، يستكشف القارئ خفايا وجدانه الملتاع، و«كوابيسه»، بشأن حريته المسلوبة، التي نشأت أو انعدمت في ظل وجود الأم والزوجة، إذ إن وجودهما يشكِّل جحيمه وأزمته.
باستمتاعٍ يشفي على الفرح والسعادة يمكن للقارئ أن يدخل عالم رواية الكاتب عبدالله التعزي «حرية الأبواب المغلقة»، الصادرة عن دار أثر بالدمام – 2016م، تلك الرواية المشدودة والمتماسكة على مدى صفحاتها، بما يمنح القارئ شغف المتابعة ولذة الإحساس بالتلصّص من ثقب الباب، شأنه في ذلك شأن البطل «عبدالأمين»، وقد أضيئت الخلفية بنص غائب هو «الجحيم» لهنري باربوس، بإنسانها الذي يعاين العالم من ثقبٍ في غرفته بالفندق؛ حيث بهذه الإضاءة، نتعرّف على الجحيم الذي يعيش فيه بطل «حرية الأبواب المغلقة» وكيف يرصده مراقباً إياه.
عبدالله التعزي
ولد عام 1964م في مكة المكرمة، وحصل على بكالوريوس كلية الهندسة قسم الاتصالات والإلكترونيات بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة 1987م، وبكالوريوس آخر من نفس الجامعة من كلية الاقتصاد والإدارة قسم العلوم الإدارية 1994م.صدرت له رواية «الحفائر تتنفس» عن دار الساقي 2003م، وقبلها مجموعة قصص قصيرة بعنوان «سيد الطيور»، دار الجديد، لبنان 1998م.
تعاضد على إنجاح العمل أكثر من عامل أسهم في تركيز الرؤية وجعلها دانية. ومن ذلك مجانبة السرد المتتالي والمطوّل حتى الانتفاخ وحتى الكظّة، والاتجاه إلى أن تكون الرواية في فواصل قصيرة بعضها نصف صفحة تسمح بالقطع والانتقال ونقل الضوء إلى مساحاتٍ أخرى تتصل بالحفر في الذات باستجلاء أمراضها مربوطةً بأسبابها.
ضمير متكلم يسرد
ينثال صوت البطل «عبد الأمين»، الضمير المتكلّم، الذي يتوجّه حديثه نحو مخاطبٍ معلوم الهويّة والعمل والدور؛ المحرّض على البوح والإفشاء، وعلى نحوٍ أشبه بطقوس الاعتراف التي غايتها التخفّف من الذنب وتبييض الصفحة، أو حتى نشدان الخلاص وتصفية الحساب مع الماضي كما طالعناه، مثلاً في اعترافات جان جاك روسو المشهورة. غير أن ما يحدث هنا ليس ما غاب وانطوت صفحته وحسب، لكنه لا يزال ماثلاً يفعل فعله وما برح قائماً يسري تأثيره عبر اختيار العزلة ملاذاً والانحباس عن العالم في غرفة النوم ومشارفة ذلك العالم بوساطة الثقب، ومعه أيضاً إنشاء تفاعلٍ وهميٍّ، هو من باب الإفشاء والإعراب عن التفاعل ولو في عالمٍ افتراضي، لا يحلّ ولا يبدّد أزمة، إنما يعوّمها أكثر ويصيّرها أكثر إلحاحاً ومعاندة.
شخصيّة «عبدالأمين» تتلقّى فقط الأوامر والكلمات بلا مبادرة ولا رد. ولهذا لم يكن غريباً ذهاب نصف سمعه منذ صغره كإشارة مبكّرة لما هو مقبل من حياةٍ ليست حياة؛ فقط عدّاد زمني يخلو من برهاتٍ حيّة ولو مختلسة بضربةٍ طائشة وإن تكن متهوّرة. ففي الأقل فيها تنبيه إن الحياة هنا وهي تمر، ومن العبث أن تُترك…
بوح لمريض نفسي
إلى ذلك، من عناصر نجاح هذه الرواية تجهيزُ الشخصيّة لتكون مناسبة للمجال المناسب للبوح. شخصيّة مقموعة ليس لها من الأمر شيء تسيّرها الأم كيف تريد وفيها من القسوة ومن نضوب الحب؛ ما يؤدي بابنها إلى تربية شعورٍ بالذنب دائم، وكأنه على جُرُفٍ يوشك أن يودي به أو تتخطّفه المخالب المشرعة جرّاء التربية الخاطئة.
هذه السِّمات تجلّلها هيئة خارجية تنطق عن الزراية بالجسد البالغ في سمنته بلحية متروكة دون تشذيب، ومع النقص الجسدي يجيء العقم كضربة قاصمة تقضي بالنهاية وعدم الاستمرارية، وكلّها عناصر مهددة للوجود ككيانٍ له معنى وله امتداد ويرغب في الحضور.
وبهذه الشاكلة، لا غرابة في نشوء المرض النفسي المتوّج بالانسحاب من العالم وعيشه وفق ميكانيكيّة تخلو من نداء الحياة، وتعرٍّ من المشاعر بالانغماس في حالةٍ من الحياد لا تحمل حبّاً ولا كرهاً بما يذكّر بشخصيّة «ميرسو» في رواية «الغريب» لألبير كامو. وهذا التذكير يجعلنا نتفهّم أكثر حالة اللامبالاة تلك نحو العالم وكأنه غير موجود إلا افتراضيّاً، ولا يستحق الاندغام في نسيجه، فيُكتفى منه بالأدنى وفق إحداثيات قليلة وبسيطة لا تتعدّى المنزل والعمل وبينهما المسجد والسوق. ويجري التعامل مع هذه الإحداثيات بانفصالٍ تام؛ لا اشتباك إنساني ولا ضفاف مشتركة.
جحيم مستمر
شخصيّة «عبدالأمين» تتلقّى فقط الأوامر والكلمات بلا مبادرة ولا رد. ولهذا لم يكن غريباً ذهاب نصف سمعه منذ صغره كإشارة مبكّرة لما هو مقبل من حياةٍ ليست حياة؛ فقط عدّاد زمني يخلو من برهاتٍ حيّة ولو مختلسة بضربةٍ طائشة وإن تكن متهوّرة. ففي الأقل فيها تنبيه إن الحياة هنا وهي تمر، ومن العبث أن تُترك.
وإن حياةً قُدّر لها أن تنشأ في كنف التذنيب والاستسلام للمكتوب كمصيرٍ مبرم، لهي خليقةٌ أن تكون جحيماً مستمراً يتفشّى فيما عينُ العالم غافية خالية وفي إعراضٍ متبادَل بصيغةٍ أقرب إلى الإكراه: «رعبٌ هذا الصمت. إنه دائماً يسبقُ العذاب».
مقاطع من الرواية
«لقد ارتحت كثيراً بعد الكتابة وأصبحت أكثر هدوءاً وأكثر قرباً مني»…«أنا في حياتي كلها لم أعرف سوى والدتي وزوجتي. لا أستطيع وصف شكل أي واحدة منهما الآن. لقد تراكمت الأيام عليهما وكثرت الخطوات فيما بيننا إلى درجة لم أعد أتبين تفاصيلهما بالتحديد».«كان انهماري بلا حدود متسلحاً بأحد الأسماء المستعارة الكثيرة التي أستخدمها. فقد حلمت البارحة بأحداث كثيرة ونساء أكثر، ولكني صحوت مفجوعاً بعد أن تأملت كل النساء في المملكة، واكتشفت أنهما اثنتان فقط. الأولى والدتي المتسلطة والثانية زوجتي النكدية».«كل شيء يجب أن يكون مثل الناس، دون أن تحدد أو تذكر لي من هم هؤلاء الناس. حتى أصبح الحلم ممتلئاً بالخوف من الناس. وظللت أترقب وصولهم في أي لحظة. وفي أوقات أشعر بأنهم يراقبونني بأعينهم الواسعة مسلِّطين عليَّ نظراتهم المرعبة».