تختلف العلاقة مع الطبيعة وعالم الحيوان من إنسان إلى آخر. وديوان الشعر العربي حافل بالأمثلة والصور التي تعبِّر عن هذا التلون الكبير.
صلاح عبدالستار الشهاوي يحدثنا هنا عن ثلاثة شعراء حفظوا لنا في شعرهم حكايات لقاء كل واحدٍ منهم بذئب، وكان لكل واحد منهم موقف مختلف عن الآخر.
الفرزدق يُطعم الذئب
كانت نشأة الفرزدق، المتوفى عام 114هـ، بين البصرة والبادية المجاورة لها. ويروى أنه لقي ذئباً جائعاً ذات ليلة في صحراء الكوفة، فعطف عليه وقاسمه زاده. وفي هذه الحادثة يقول الشاعر:
وأطْلَسَ عسالٍ، وما كان صاحباً
دَعَوْتُ بِناري موهناً فَأَتاني
(أطلس: أغبر، عسل في سيره: اضطرب)
فلما دنا قلت «أُدنُ، دونَكَ، إنني
وإياك في زادي لمُشْتركانِ
فَبِتُّ أُسَوِّي الزادَ بيني وبينه
على ضوء نارٍ، مرةً، ودخانِ
وقلت له لما تكشَّر ضاحكاً
وقائِمُ سيفي في يدي بمكانِ
(أي أن الشاعر بقي على حذره من الذئب، وظل ممسكاً بسيفه تحسباً)
تعشَّى فَإن عاهَدْتني لا تَخُونُني
نكنْ مثلَ من -يا ذئبُ- يصطحبان
وأنت امرؤٌ -ياذئبُ- والغدرُ كنتما
أُخَيَّيْن، كانا أُرْضِعا بِلِبانِ
(الغدر من طبيعة الذئاب، وهما كالأخوين اللذين رضعا من صدر واحد)
ولو غَيْرَنا نَبَّهتَ تلتمِسُ القِرَى
رَمَاكَ بِسَهْمٍ أو شَباةِ سِنانِ
(القرى الطعام؛ شباة: طرف)
وكلُّ رفيقَيْ كلِّ رَحْلٍ وإنْ هُما
تَعَاطى القَنا قَوْماهما، أَخَوانِ
(والمعنى أن كل رفيقين في طريق يتآخيان، ولو كان بينهما قتال).
والبحتري يقتله
أما الصورة الثانية لعلاقة الشاعر بالذئب، فتختلف تماماً. يغيب عنها العطف لتحل محلها غريزة البقاء، ونجدها عند البحتري. فهذا الشاعر الذي ولد في منبج ببلاد الشام عام 206هـ وتنقل بين عشائر قبيلته طي، وتتلمذ في الشعر على يد شاعر طائي آخر هو أبو تمام، فقد كان رقيق الأسلوب وبديع الخيال.
لقي ذئب أصابه الجوع بالهزال والتقوّس، وكان شاعرنا نفسه جائعاً أيضاً، فلم يجد بداً من قتله خوفاً على نفسه، ثم شواه، وأكل منه ما يسد جوعه. وفي ذلك يقول:
له ذَنَبٌ مثلُ الرِّشاءِ يجرُّهُ
وَمَتْنٌ كَمَتْنِ القوسِ أَعوجُ مُنْأَدُ
(الرشاء: الحبل، المتن: الظهر، منأد: معوج)
طَوَاه الطَّوى حتى استمرَّ مريرُهُ
فَمَا فيه إلاَّ العظْمُ والروحُ والجِلْدُ
يقضقضُ عُصْلاً في أسرَّتها الردى
كَقَضْقضة المقرورِ أرعَدَهُ البردُ
(يقضقض عصلاً: يصوت بأنياب معوجة، أسرتها: أوساطها، المقرور: البارد)
سُمال وبي من شدة الجوع ما به
ببيداء لم تُعرَف بها عيشةُ رَغْدُ
كلانا بها ذئب يُحدِّثُ نفسَه
بِصَاحبِهِ، والجَدّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ
(أي كلانا يطمع في قتل الآخر)
عَوَى ثمَّ أَقْعى فارتَجَزْتُ فَهِجْتُهُ
فَأَقبَلَ مِثْلُ البرقِ يتبعُهُ الرَّعْدُ
فأوجرتُهُ خَرْقاء تحسَبُ ريشَها
على كوكبٍ يَنْقضُّ والليلُ مُسْوَدُّ
(أوجرتُهُ خَرْقاء: طعنته بسنان)
.. فخرَّ وقد أوردتُهُ مَنْهَلَ الرَّدى
على ظَمَأ، لو أَنّه عَذُبُ الوِرْدُ
وَقُمتُ فجمّعْتُ الحصى فاشتَوَيتُهُ
عليه، وللرَّمضاء من تَحْتِه وَقْدُ
وَنِلْتُ خسيساً منه ثمّ تركْتُهُ
وَأَقْلعتُ عنهُ وهْو مُنْعفِرٌ فَرْدُ
النجاشي وصورة المجتمع
أما قيس بن عمرو بن مالك الملقّب بالنجاشي، والذي عاش فترة من حياته في الجاهلية، وأخرى في الإسلام، فيذكر في شعره أنه رأى حوض ماء في الخلوات وذئباً يعوي حوله من شدة العطش. فيصفه بأنه شبيه الإنسان الذي خلعه قومه وطردوه من عالمهم، ويحكي كيف أنه دخل في حوار مع الذئب، وعرض عليه صداقته، ولكن الذئب يرفض هذه الصداقة لأنها مخالفة للطبيعة، ولكنه يرجوه أن يمكّنه من الماء. فيتأثر الشاعر ويستجيب للذئب، ويفسح له المجال ليشرب. ومن ثم ينادي الذئب بقية الذئاب، فتحضر لتشرب بدورها فيما ينصرف الشاعر إلى حال سبيله متغنياً بما رأى. فالماء هنا هو الحية، والذئاب هي المجتمع. وفي هذا يقول:
وماءٍ كلون الغِسل قد عاد آجِناً
قليل به الأصوات في بلدٍ مَحْلِ
وجدت عليه الذئب يعوي كأنه
خليع خلا من كل مالٍ ومن أهل
فقلت له: يا ذئب هل لك في فتى
يواسي بلا من عليك ولا بخل؟
فقال: هداك الله للرشد إنما
دعوت كما لم يأته سَبْع قبلي
فلست بآتيه ولا أستطيعه
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
فقلت: عليك الحَوضُ.. إني تركته
وفي صفوه فضل القلوص من السَّجْل
فطرَّب يستدعي ذئاباً كثيرة
وعدَّيت كُلُّ من هواه على شغلِ
حوريـــــة
الضباب
شعر: احمد عبدالله التيهاني
أتيتِ لأنسى جميع النساءْ
وأعرف أنكِ أنتِ النساء
أتيتِ تقولين: أهوى الضباب..
تمنيتُ أني شتاء الضبابْ
وأني برودة ليـــل (النماصْ)
وأني الزهور على (الزيزفونْ)
وأني أحيط بسر المساء
وأن بعينيَّ منكِ ضيــــــاءْ!
أتيتِ وكيفَ ؟ ..
ألا تذكرين؟
أتيتِ بشهوة بنتِ الحروف
تذيبين ذاتك في الأسئلهْ
تذوبين في لحظةٍ من خيـــــالْ
وتمضين
… تمضين صوب الجَمالْ
برغم مساءاتكِ المثقلهْ
بأمسِ انكسارات بوح البناتْ
ووأدِ الحيـــــاةِ بوادي الحيــــــاةْ