بيئة وعلوم

البساطة
القيمة المفقودة لعصر التكنولوجيا

  • Labyrinth
  • 41a
  • APPLE JOBS
  • Germany - Technology - Soundless Computer

يوماً بعد يوم تزداد تكنولوجيا المعلومات تعقيداً، حتى أن انتفاع الكثيرين من مستخدميها لم يعد يتجاوز نسبة مئوية ضئيلة من الإمكانات التي توفرها.
المهندس أشرف إحسان فقيه يتناول مسألة التعقيدات التكنولوجية التي وصلت إلى مستوى أيقظ المبتكرين على وجوب التبسيط تسهيلاً للانتفاع حيث إن البساطة -الظاهرية على الأقل- صارت اليوم قيمة أساسية لا غنى عنها لضمان نجاح المنتج بغض النظر عن تعقيداته الضمنية.

متلازمة الصفر الومّاض أو (The Flashing-Zero Syndrome) ليس اسماً لخلل ميكانيكي مخيف ولا تشخيصاً لداء بشري عضال. إنه ببساطة مسمى أُطلق للتعبير عن حالة الرهاب التكنولوجي التي تزامنت مع انتشار السلع التقنية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

خلال تلك الفترة كانت الأجهزة الإلكترونية -كأجهزة تشغيل أشرطة الفيديو مثلاً- مزوَّدة بساعات رقمية مضبوطة أوتوماتيكياً على الوقت 00:00. وكان المطلوب من مشتري الجهاز أن يضبط بنفسه تلك الأرقام الومَّاضة كي يستفيد من قراءتها للوقت. الظاهرة تمثلت في أن الأغلبية لم تهتم لأمر ضبط تلك الأصفار التي استمرت تومض بلا توقف لأن المستخدم العادي.. ببساطة.. لم يعرف كيف يفعل ذلك!

هل تكره الكمبيوتر؟ أهلاً بك في النادي!
الآن وخلال العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، فإن الانتشار الطاغي لتكنولوجيا المعلوماتية لم يزد الحال إلا سوءاً. والتذمر من الصعوبة المتزايدة في التعامل مع الأدوات و الألعاب التقنية التي تفرض ذاتها على حياتنا ليس حكراً على رجل الشارع ولا المستخدم العادي. نكتة الزبون الذي اتصل بمركز الصيانة ليشكو من تعطل حامل القهوة في حاسوبه.. والذي لم يكن سوى محرك الأسطوانات المدمجة(!!) باتت تُعبّر بمصداقية متزايدة عن حال مجموعة متزايدة حتى من الفنيين والمهندسين المعتادين على التعقيد بحكم تخصصاتهم.

خذوا مثلاً جون مايدا الحاصل على درجة الماجيستير في علوم الحاسب الآلي، ثم الدكتوراة في تصميم واجهات الاستخدام الحاسوبية (Interfaces). مايدا هو كذلك مصمم رسوميات رقمية ذو صيت عالمي ويشغل حالياً منصباً في مختبر الوسائط التابع لمعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) العتيد. هذا الرجل ذو السيرة الذاتية المغرقة في الرقمية يعرّف بنفسه ببساطة بأنه عدو للحاسوب ! ومبرره في هذا التعبير الصادم هو أن لا شيء يلمسه يعمل.. فهو أيضاً يعاني الأمرين عند محاولته ربط الطابعة أو الكاميرا الرقمية بحاسوبه عبر وصلة USB عادية. هو أيضاً معقّد من رسائل التحذير الآلية التي تبرز له بغتة على الشاشة لتفسد يومه. وهو أيضاً يشكو من ضياع وقته وجهده في محاولة ترقيع الثقوب الموجودة في برامج مايكروسوفت ونظم تشغيلها التي تقبع داخل أكثر من 90 في المئة من الحواسيب الشخصية حول العالم. ويتساءل مايدا عن مبرر استمرار مثل هذه الشركات في الوجود إذا كان مطلوباً منه وهو المستخدم العادي أن يتحمل مسؤولية تنزيل برامج التحديث ومحاربة الفيروسات.. وتحمل تبعات انهيار نظام التشغيل في حال وقع خلل برمجي هنا أو هناك.

إذا كان اختصاصيون مثل مايدا يعانون مع تكنولوجيا اليوم.. فليس من قبيل المبالغة أن نعتبر أن البشرية تواجه بوادر كارثة تقنية. والواقع أن هذا التعبير بالذات يلقى قبولاً ليس من شريحة عريضة من الزبائن غير الراضين وحسب، وإنما بين الكثيرين من المسؤولين داخل الشركات التي تقود مسيرة الاستهلاك التقني مثل مايكروسوفت و صن و آي بي ام .

يصر مايدا ورفاقه على أن الأزمة في النهاية هي أزمة بساطة. وقد أطلقوا مبادرة اسمها (Simplicity) تهدف لتعزيز قيم التكنولوجيا الأكثر إنسانية . فالبشر في نهاية المطاف هم المعنيون بالمنتج التقني، وهم كائنات غير ميكانيكية ولا رقمية.. وربما كانت هذه هي الجزئية التي فاتت أولئك الذين أطلقوا الثورة التقنية.

التقنية مرادف التعقيد
لكن ما هي أسباب هذه النقمة التي تجتاح العالم حيال المظاهر التقنية. أليس المفترض بالتكنولوجيا أن تسهِّل حياتنا وتجعلها أكثر رفاهية؟ لماذا يتفق الخبراء والمستخدمون العاديون إذن على أن وسائل التقنية الحديثة من حواسيب وبرمجيات وهواتف جوالة وأطباق لاقطة ووصلات (بلوتوث).. لم تزد حياتهم إلا تعقيداً في نهاية الأمر؟!

الواقع أن القضية ليست حكراً على عصر الإنترنت. وهي ترجع بجذورها إلى ما قبل اختراع مسجل (الفيديو) بكثير أيضاً. القاعدة المُحزنة تنص على أن كل اختراع تقني متقدم جلب معه نوعاً من الصدمة، واستلزم من البشرية مرحلة انتقالية امتدت عبر جيل (نحو 30 سنة) قبل أن يتم تقبل هذا الاختراع واستيعاب استخداماته على نحو كامل.

الأمر كان كذلك بالنسبة للسيارة الأولى التي انطلقت في أوائل القرن العشرين. السائق الأول كان مطلوباً منه أن يكون ملماً بكامل ميكانيكا نقل الحركة وأن يقوم يدوياً بضبط السوائل ومستوى الضغط داخل الماكينة والصمامات عدة مرات خلال الرحلة الواحدة. ماكينة الخياطة الأولى كانت تباع مرفقة بدليل من 40 صفحة لضمان استخدام آمن وسليم لها. وقبل اختراع شبكات الربط الكهربائي في المدن فإن الشركات كانت تنشئ إدارات فنية خاصة وتنصّب عليها نواباً للرؤساء وظيفتهم الوحيدة هي التفرغ التام لهذا الاختراع ذي السر العويص المسؤول عن تزويد المنشأة بالتيار الكهربي.. الوضع كان كابوسياً داخل المنازل المتمتعة بنعمة المولدات بطبيعة الحال!

الذي حصل لاحقاً مع السيارة وماكينة الخياطة والمولد الكهربائي كان تطوراً هندسياً بديهياً. ففي النسخ المتعاقبة لكل هذه الابتكارات وسواها، تم إخفاء التفاصيل عن المستخدم. السيارة باتت أكثر (أوتوماتيكية) وباتت الخبرة الأساسية اللازمة لتسييرها مختصرة في إدارة المقود والضغط على الدواسات. شبكة الربط الكهربي نقلت كامل العبء إلى شركة الكهرباء واختصرت علاقتنا بالخدمة الكهربائية إلى أدنى مستوى ممكن: مجرد تثبيت القابس الكهربي إلى فتحة بالجدار.

هذا الاختزال لعملية التواصل بين الفرد البشري والآلة هو ما يطلق عليه المصممون اسم (واجهة المستخدم –User Interface). على سبيل المثال فواجهة المستخدم الرسومية Graphical User Interface سهّلت كثيراً استخدام نظام تشغيل الحاسب كما نشاهد في برمجيات آبل ومايكروسوفت، بينما كان المستخدم العادي قبلها مطالباً بالتعامل مع أحاجي لغات البرمجة وأوامر التشغيل. واجهات الاستخدام في نظم ربط الكهرباء والصرف الصحي في المدن سهّلت علينا استخدام مرافقها من دون أن نهتم بالتفاصيل أياً كانت.

المشكلة في هذا النمط الهندسي تتمثل في أن المزيد من تبسيط واجهات الاستخدام سيستدعي بالضرورة المزيد من التعقيد في المراحل الداخلية للتصميم. سياراتنا مثلاً أضحت اليوم عبارة عن حواسيب متنقلة على عجلات. فمكوناتها الداخلية تحتوي على العشرات من الرقائق الإلكترونية والمستشعرات (Sensors). والحال هو كذلك بالنسبة لبرمجيات الحاسوب والهواتف النقالة وسواها من مظاهر التقنية المحملة بالعديد من الأسرار والوظائف التي قد لا نحتاج إليها كلها، لكننا عالقون معها.

أين هم المهندسون كي نلومهم؟!
تشير استطلاعات شركة مايكروسوفت إلى أن مستخدمي برنامجها لمعالجة النصوص (Word) لا يستغلون أكثر من 10 في المئة من الإمكانات الحقيقية لهذا البرنامج. وهي نسبة مقاربة لما يستغله أحدنا فعلاً من كامل إمكانات عقله البشري!

إحدى مظاهر الإشكال الحقيقية في تطبيقات اليوم التكنولوجية هي في وجود حلقة كبيرة مفقودة بين المصممين والمستهلكين العاديين. لذا فالمنتجات التقنية من برامج وعتاد غالباً ما تكون متقدمة أكثر من اللازم ومتخمة بمزايا وإمكانات تفوق قدرات المستخدم البسيط على فهمها فضلاً عن التعامل معها.

في الشركات المعنية بالتقنية، غالباً ما يسود انطباع بأن المهندسين هم الأطفال المدللون لأن نجاحات الشركة مقترنة بنجاحهم هم في الابتكار. واقع السوق يقول غير ذلك. فالمسؤول الحقيقي عن نجاح أي منتج هو إدارة التسويق بالشركة -والعاملون بالتسويق للمفارقة يعانون الكثير من الضيم في شركات التقنية بالذات-. لكن حين يفشل منتج ما، فإن أول من تتدحرج رؤوسهم وقت الحساب هم المهندسون والمصممون.. وهذه قاعدة يعيها المديرون التنفيذيون في الشركات الكبرى جيداً!

للوهلة الأولى إذن يبدو الحل جاهزاً: الشروع في إعادة تأهيل المهندسين ليفكروا بأسلوب أبسط عند تصميم مبتكراتهم. لكن المشكلة الكبرى اللاحقة كما يقررها بعض مديري شركات التقنية الكبرى هي أن من يقوم بوضع تصاميم التقنيات المبتكرة ليسوا دوماً مهندسين ولا فنانين. هم في الواقع مهووسون وعباقرة تقنيون لكن انطوائيين وعلى درجة كبيرة من الفشل الاجتماعي. الثقافة الأمريكية أسبغت على هذه الشريحة ألقاباً على شاكلة Nerds و Geeks . والتاريخ حافل بأمثلتهم التي نجحت وتطورت لتشكِّل علامات فارقة في المسيرة التقنية من أمثال بيل غايتس وستيف جوبز وحتى توماس ألفا إديسون.

والمسألة ليست مجرد طرفة عابرة بل هي واقع مرير صعب التغيير. فالموائل التي يبدع منها هؤلاء سواء داخل الجامعات الشهيرة أو مواقع الإبداع العالمية كوادي السليكون في كاليفورنيا أو مختبرات CERN الأوروبية ليست سوى شرانق لهؤلاء المبدعين. إنهم لا يختلطون بسواهم ولا يتناقشون إلا مع بعضهم ليتبادلو نفس المستوى من الحوار والأفكار مما يجعلهم فعلاً كالمرتفعين عن باقي العالم الواقعي في برج عاجي. والابتكارات الناتجة عن عقليات كهذه لابد وأن تكون معزولة وبعيدة عن نمط الحياة اليومي لباقي البشر.

واحدة من الأزمات الحقيقية التي يعانيها المشتغلون بالهم التقني هي في كون معظمهم من الرجال. مما يعني انعزالهم بالكلية عن السيدات وطريقة تفكيرهن واستخدامهن للمنتج ما يعني تجاهلاً كاملاً -وإن كان غير متعمد- لنصف سوق المستهلكين في العالم! فللتقرب من نمط التفكير الأنثوي.. وللتحقق في الوقت نفسه من بساطة المنتج يلجأ بعض المصممين لما يسمى بـ اختبار الأم . يقول أحدهم اعرف أن لأي منتج تقني مستقبلاً.. إذا كانت والدتي ستستخدمه .

ستيف بالمر رئيس شركة مايكروسوفت نفّذ اختبار الأم مثلاً مع والدته قبل إطلاق نظام التشغيل Windows 95 . بعد أن قامت بالتنقل بين وظائف البرنامج تساءلت السيدة بالمر: كيف تقوم بإقفاله؟ فأشار لها ابنها لزر (ابدأ – Start) العتيد، لتتساءل الأم: تضغط على ابدأ كي تنتهي؟! .. وهي الملاحظة التي لم تستجب لها (مايكروسوفت) حتى الآن مع الأسف!

التقنية وإعادة اختراع العجلة
المتفائلون في قطاع التطوير التقني يتداولون طرفة مفادها أن أكبر نجاحات تقنية في عالم اليوم أبطالها عجلة، وصفحة بيضاء. العجلة هي عجلة التحكم في جهاز iPod الأسطوري من شركة آبل. والصفحة البيضاء هي صفحة البداية لموقع محرك البحث غوغل. ووجه النجاح في المنتَجَين يعبّر عنه المقدار الكبير من البساطة الذي يغلف واجهتهما مقابل مستوى التعقيد العالي المخبأ خلفهما والذي لم يتم توريط المستخدم في أي من جزئياته. وبطبيعة الحال فإن نجاح المنتَجَين يرجعان كذلك إلى توقد عقول مؤسسي الشركتين الذين نتناول سيرهم في الصفحات التالية.

يمتاز موقع غوغل من جهته بخوارزم نظام بحث هو الأفضل بين جميع منافسيه. لكن ما يراه ملايين المستخدمين حول العالم ليس المائة ألف جهاز خادم (Server) التي يعتمد عليها هذا المحرك ولا التصميم المعقد لشبكته. كل التعامل يتم عبر صفحة بيضاء مزوَّدة بشعار الشركة ومربع بحث أنيق مع مجموعة محدودة من الكلمات هنا وهناك. لا إعلانات ولا زحام صور ورسومات مشتتة للانتباه. هذا في رأي الكثيرين يمثل مبرر قوة وشعبية غوغل الأساس.

يقال إنه في أيام غوغل الأولى كان فريق تطوير الموقع يتلقى رسائل إلكترونية من مرسل مجهول. كل محتوى الرسالة لم يكن سوى الرقم 53. هذه الرسائل كانت تنقطع لفترات قبل أن تتوالى من دون معرفة معناها والسر خلف الرقم 53. اتضح بعد ذلك أن المرسل المجهول كان مقتنعاً بأن عدد الكلمات في صفحة غوغل البيضاء يجب ألا يزيد على 53 كلمة وحسب. وكان يرسل بالرسائل التذكيرية كلما تم تجاوز هذا الرقم. على كل فعدد الكلمات في صفحة غوغل الرئيسة اليوم لا يتجاوز حتى الأربعين.

من ناحيتها، فإن آبل والتي تمثِّل عملاقاً آخر في فن التصميم، ضمنت لنفسها مكانة تاريخية في عالم التسويق عبر جهاز iPod لتشغيل ملفات الموسيقى والفيديو وتخزين البيانات الرقمية. يثبت واقع السوق وجود مئات الأجهزة التي تقوم بالوظيفة ذاتها. إن ما يميز iPod في النهاية هو المقدار الكبير من البساطة الذي يتسم به تصميم الجهاز وطريقة تشغيله. كل شيء من اختيار الملف المراد تشغيله إلى التحكم في درجة الصوت وسرعة التشغيل وضبط الإعدادات يتم عبر عجلة صغيرة تتوسط الجهاز. وعمل العجلة مرهون بسرعة ومستوى حساسية إبهام المشغل. هذا الربط المباشر بين الوظيفة الجسدية والفاعلية التقنية هو سر نجاح آبل ليس مع iPod فقط ولكن عبر تاريخها كله. لنتذكر أن هذه الشركة هي التي قدمت الحاسوب الشخصي وواجهة الاستخدام الرسومية ومبدأ التعامل مع محتويات الحاسوب كملفات ومجلدات Files and Folders والتخلص منها في سلة مهملات افتراضية. آبل هي التي جاءت أصلاً بفكرة النوافذ Windows التي تعتاش شركات أخرى اليوم على أمجادها.

نحن والحاسوب وأرضية تفاهم مشتركة!
ما يقوم به المصممون في كل من غوغل و آبل وغيرها من الشركات المنتجة للتطبيقات الشعبية الناجحة ليس سوى تطبيقاً لأصول علم بالغ الأهمية ربما يحمل مفتاح الخروج من الأزمة التقنية التي نعيشها مع الآلة. ذلك هو علم التفاعل ما بين الإنسان والحاسوب (Human-Computer Interaction). هذا العلم هو نتاج تزاوج بين علوم الحاسب الآلي ومجموعة أخرى متنوعة من المعارف تشمل الفلسفة وأسس التصميم والتفاعل البيئي وعلوم النفس والاجتماع والذكاء الاصطناعي وسواها. والغرض الأساسي من تخصص كهذا هو صنع منتجات متلائمة مع الطبيعة البشرية ومؤدية للغرض البشري.

لكن المسألة ليست بهذه البساطة كما يؤكد الخبراء وكما يثبت الواقع. فما نريده من التكنولوجيا قد لا يكون واضحاً دوماً. في أحيانٍ كثيرة فإننا نفكر بـالحاسوب كمخلوق خرافي يفترض به أن يقرأ أفكارنا وينفِّذها! ومرد جزء كبير في سوء التفاهم بيننا وبين الآلة هو الشق البشري في الأزمة. والحقيقة أن الانهمار المتتابع للتطبيقات التقنية المتطورة منذ ابتكار الدارة المتكاملة Integrated Cercuit قبل نحو ثلاثة عقود وحتى سيادة الإنترنت قبل سنوات عشر قد أدى إلى ظهور أجيال تقنية متفاوتة الانتماء، متعايشة مع بعضها البعض من دون تواصل حقيقي. هناك جيل مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين يكرهون التقنية الحديثة بالسليقة. هناك الجيل الذي لا يزال يعيش على تراث الحاسبات المركزية Main Frames ويناضل ليدخل في أجواء الجوالات والرسائل القصيرة وما في حكمها. وهناك جيل التكنولوجيا الصرف الذي لا يعجبه شيء مما يوجد في الأسواق ويسعى دوماً نحو المزيد من التقنية المتقدمة. إن وجود هذه التشكيلة من المستهلكين في الأسواق الغربية يسبب إرباكاً متزايداً لمطوري التقنيات وبالذات لأولئك المهتمين بتطبيق قواعد التصميم التفاعلي منهم.

بطبيعة الحال فالوضع مختلف تماماً في العالم الثالث الذي يضم البلدان العربية. هنا أمية القراءة والكتابة تشكَّل معضلة أولى. وهي تنعكس بدورها على المحتوى العربي على الإنترنت الذي لا يشكِّل أكثر من 1 في المئة من الحجم العالمي. التخلف التقني العربي مرده كذلك ضعف البنى التحتية والثقافة المعلوماتية العربية وتفشي نظم الرقابة. والكلام عن الرهاب التقني أو الخوف من الآلة الوارد أعلاه يتضاعف ويزيد مرارة بالنسبة للحالة العربية التي تحكم تعاملها مع المظهر التقني استحقاقات حضارية ونفسية كثيرة. لكن وبغض النظر عن موقعنا من الخارطة يظل السؤال هو ذاته: ماذا نريد من التقنية؟ لأن الإجابة عن سؤال كهذا قد ترسم لنا وجه المرحلة القادمة من الزمن التقني، وقد تشرح لجيوش المصممين والمهندسين والتنفيذيين في قطاعات شركات التكنولوجيا كيف يقدمون خدمة أفضل لزبائن يجهل الكثير منهم أبسط معالم التقنية.

هل نعرف بالضبط ماذا نريد من التقنية؟ وهل تشكِّل الآليات التقنية مسلمات حقيقية في حياتنا اليوم؟ أسئلة حقيقية تعود بنا إلى المربع الأول لكنها ليست وليدة الفراغ. فالاستفسار الأول الذي يطرحه موظفو خدمات العملاء في شركات الإنترنت الأمريكية على الزبائن المتذمرين من مستوى خدمة الإنترنت هو: هل تملك حاسوباً؟ والجواب المفاجيء الذي أحياناً كثيرة ما يأتي.. يكون بالنفي!

غوغل و آبل أبطال البساطة الناجحة
حكاية غوغل أولاً
يعود أصل كلمة غوغل (Google) إلى المصطلح الرياضي Googol الذي ظهر للتعريف بالرقم الهائل الذي يعبر عنه الواحد متبوعاً بمائة صفر، في إشارة إلى الروح التي تُسيّر فريق تطوير محرك البحث الأشهر، والساعية إلى الغوص في أعماق بيانات الإنترنت والتنقيب خلالها مهما كان عدد صفحاتها.

بدأت فكرة غوغل في ذهنيّ طالبي دراسات عليا بجامعة ستانفورد، هما سيرغي برين ولورنس بايج، اللذان كانا في منتصف عقديهما الثاني وقتها، وتزامنت مع ذروة حمى شركات الإنترنت التي اجتاحت العالم تسعينيات القرن الماضي.

كانت بعض أهم الموضوعات البحثية الرائجة آنذاك -ولم تزل- متعلقة بالبحث عن المعلومات المترابطة المبعثرة ضمن قواعد البيانات الهائلة كالشبكة النسيجية. فركَّز الشابان جهودهما عام 1996م على تطوير خوارزم (خطوات حل) مبتكر لبرنامج للبحث عبر الروابط على الانترنت سمياه Back Rub . وسرعان ما حقق مشروعهما البحثي الوليد نتائج مبهرة أكسبته صيتاً ودفعت بالشابين إلى إنفاق جُلّ أموالهما بدايات عام 1998م لشراء وسائط تخزين بسعة ألف ميغا بايت، قاما بربطها مع ما تسنّى لهما استعارته من حواسيب في غرفة بايج بسكن الطلاب، لتكون النواة الأولى للمرحلة التالية من مشروع غوغل الوليد.

وبالرغم من الحماسة لتقنية المعلوماتية التي اجتاحت أسواق العالم في ذلك الوقت، فإن محاولات الشابين للحصول على تمويل الشركات لمشروعهما الطلابي لم تلق تجاوباً كبيراً حتى من صديقهما دافيد فيلو الذي أسس صرح دوت-كوم آخر هو ياهو (Yahoo)، والذي وعدهما بإعادة النظر في فكرة مشاركتهما إذا ما وقف المشروع على قدميه! ومع اقتناع برين وبايج بثورية فكرتهما وبأنها ستتفوق على جميع التقنيات الموجودة، فقد قاما بإيقاف برامج دراستهما للدكتوراة وقررا التفرغ كلياً للتسويق تجارياً لفكرة محرك البحث.

كان أول الفرج عبر أحد أساتذتهما الذي قدمهما لأحد مؤسسي شركة صن (Sun) العملاقة، والذي اطلّع على مخططاتهما ثم وقّع لهما على عجالة شيكاً بمبلغ مائة ألف دولار باسم شركة غوغل المحدودة. ولما لم تكن ثمة شركة قد خرجت لحيز الوجود بعد، فقد تأجل صرف الشيك لحين اقترض الاثنان المزيد من الأموال التي أتاحت لهما قانونياً تأسيس شركة بذاك بالاسم في السابع من سبتمبر عام 1998م ومقرها مرآب سيارات أحد الأصدقاء.

الباقي في قصة النجاح تلك تكفلت به برامج وعتاد منظومة غوغل التي حققت نجاحاً استثنائياً نما عن عبقرية مصمميها في الحصول على نتائج البحث وتسجيل المواقع على الإنترنت والروابط بينها بسرعة وكفاءة لم يسبق لهما مثيل. وقد صنع غوغل لنفسه سمعة باهرة خلال زمن فياسي مع تلقيه لأكثر من ألف طلب بحث خلال الفترة الأولى من تدشين نسخته التجريبية بيتا . ولم يكد العام ينتهي حتى كانت وسائل الإعلام تتحدث عنه، وتم تصنيفه كأحد أفضل مائة محرك بحث على الإنترنت.

وفي أوائل العام 1999م انتقلت غوغل إلى مقر جديد في مبنى مستأجر، وبدأ مؤسسوها في تعيين موظفين جدد في الصرح الوليد الذي بات موقعه يستقبل نصف مليون طلب بحث يومياً. ولم يكد العام ينتصف حتى حصلت غوغل على ثقة بعض كبريات شركات المعلوماتية، وتم دعمها بمبالغ وصلت إلى خمسة وعشرين مليون دولار. ومع اعتماد عملاق الإعلام الأمريكي (AOL) على غوغل كمحرك بحثها الرئيس، قفز عدد طلبات البحث اليومية إلى ثلاثة ملايين. مع نهاية 1999م صُنفت غوغل من قبل مجلة PC Magazine كواحدة من أهم 10 شركات تقنية الإنترنت في البلاد، وما عادت نسخة البرنامج تجريبية، وانتقلت الشركة إلى مبنى جديد خاص بها، كل ذلك خلال عام واحد من تأسيسها.

ينظر إلى غوغل اليوم كأفضل محركات البحث وأعظمها شعبية على الإطلاق بفضل هيكلية نظامه المبتكرة. وهو يقدم خدماته بعدد من اللغات من ضمنها العربية، على نحو مجاني ضمن بحر من صفحات الإنترنت وصل حتى لحظة كتابة هذه السطور إلى أكثر من ثمانية مليارات ولا يزال في ازدياد. وتوسع نشاط غوغل عبر السنين ليغطي ما هو أكثر من البحث عن النصوص، وليشمل مداه الصور مطلقاً ثورة البحث وفق نوع الملف التي تبنته محركات بحث أقدم منه باتت تعتمد تقنياته الآن مثل ياهو على سبيل المثال. كما قدمت شركة غوغل عبر موقعها الخدمات الإخبارية والبحث ضمن المنتجات التجارية تحت الاسم (Froogle) عام 2002م. واقتحمت مجال النشر عبر الإنترنت والتسويق عبر شراكتها مع (Blogger) عام 2003م، بالإضافة إلى توفيرها خدمة البحث في البحوث العلمية على الإنترنت عبر Google Scholar . في ربيع العام الماضي أعلنت الشركة عن خدمة بريد إلكتروني ثورية (Gmail)، ذات سعات تخزين غير مسبوقة، ومبنية على تقديم خدمات البحث عبر محتوى البريد الإلكتروني. مما أثار لغطاً حول مدى التزام هذه الخدمة بخصوصية مستخدمي البريد، لكنه عزز من مكانة غوغل كشركة رائدة في تقديم الخدمات المبتكرة عبر الإنترنت.

وتتمثل صيحات غوغل الأحدث في خدمة البحث عن مواقع المحال التجارية والخدمات ضمن نطاق جغراقي معين، الترجمة الفورية وتوافر الخرائط كل ذلك عبر موقعها ذي الواجهة المحببة بالغة البساطة. ولأن الشركة بدأت كحلم طموح فإنها اليوم تسعى عبر مختبراتها لتبني الأفكار الجذَّابة في مجال الإنترنت، وهي تقدم جائزة مقدارها 10 آلاف دولار لأفضل مشروع في هذا الصدد. ولا يبدو أن شيئاً يحد من طموح المهندسين الشابين اللذين أصبحا مالكين لشركة تتداول أسهمها اليوم في سوق المال العالمية، وتخطط لافتتاح مقر لها على سطح القمر بحلول العام 2007م كما أعلنت في موقعها في إبريل الماضي!

وحكاية آبل
أما ستيف بول جوبز، فقد وُلد لأستاذ علوم سياسية سوري اسمه عبد الفتاح جندلي وأم أمريكية هي جوان سيمبسون، ليتبنّاه الزوجان بول وكلارا جوبز مباشرة بعد ولادته. قبل تخرجه من المدرسة الثانوية عام 1972م، قضى جوبز عدة أشهر صيف متدرباً لدى شركة هيولت-باكرد حيث التقى صديقه ستيفن ووزنياك الذي سيكون له معه شأن. ثم ترك التعليم الجامعي بعد فصل دراسي يتيم.

عُين جوبز في التاسعة عشرة كتقني بشركة أتاري الصاعدة حينها حيث عمل مع رفيقه ووزنياك على تطوير مهارتهما في تصميم اللوحات الإلكترونية. وفي عام 1976م قررا ركوب الموجة وإنشاء شركتهما الخاصة التي سمياها التفاحة (Apple) تيمناً بالتفاحة التي سقطت على رأس (إسحاق نيوتن).. ولم يجدا لها مقراً سوى مرآب السيارات بمنزل عائلة جوبز.

كانت باكورة إنشاء الشركة الوليدة هي اللوحة الرئيسة (Mother Board) للجهاز آبل – 1 ثم أتبع عام 1977م بـ آبل – 2 والذي حقق نجاحاً تجارياً مدوياً وضع آبل كلاعب أساس في سوق الحواسيب الشخصية الواعدة حينها. ومع النمو المضطرد للشركة بدأ مؤسساها البحث عام 1983م عمّن يديرها كما يجدر بالشركات الكبرى. فكان رئيس شركة بيبسي-كولا جون سكُلي الذي ترفّع بدءاً عن المنصب قبل أن يرضخ لتحدي جوبز بسؤاله الشهير: أتريد أن تقضي بقية حياتك في بيع المياه المحلاة؟ أم تريد الفرصة لتغيير التاريخ؟ .

أطلقت الشركة بإدارتها الجديدة جهاز ماكنتوش (Macintosh) عام 1984م كأول حاسوب شخصي يستخدم واجهة المستخدم الرسومية عوضاً عن نمط أسطر الأوامر النصية. وهو الأسلوب الذي اتبعته برامج التشغيل الأكثر شعبية بعد ذلك بما فيها ويندوز و يونيكس . لكن أيام جوبز الذهبية مع آبل انقطعت حين تم تجريده من سلطاته عام 1985م إثر خلافات في إدارة الشركة ومشكلات شخصية سببها اعتناقه للديانة البوذية. ليؤسس شركته التالية تحت مسمى (NeXT) والتي وإن لم تحظ بسمعة تجارية عريضة، إلا أنها قدمت للوسطين البحثي والأكاديمي أجهزة ذات تقنية بالغة التقدم عدها الكثيرون سابقة لزمانها. ويشير أنصار الشركة إلى أن البريطاني، تم برنارز-لي، قد كتب أول تطبيقات الشبكة النسيجية العالمية WWW لمختبرات CERN على واحدة من أجهزتهم.

اضطر جوبز للتحالف مع غريمته Sun عام 1993م لمواجهة ضغوطات السوق. إلا أن طوق النجاة ظهر بشكل مفاجئ حين تلقت نيكست عرض شراء من آبل عام 1996م ليجد جوبز نفسه في بيته القديم، ورئيساً مؤقتاً للشركة التي كانت تعاني من أزمة إدارية خانقة. على الفور بدأ جوبز بإجراء سلسلة من التغييرات المؤلمة التي شملت إلغاء عدد من المشروعات غير المثمرة وتسريح عدد من الموظفين. ثم قام بتبني التقنيات التي طورها في نيكست ليقدم للسوق عاماً بعد عام عدداً من المنتجات ذات الشعبية الساحقة التي أعادت الوهج لـ آبل كشركة ناجحة وعرّفت المستهلك بقيم معلوماتية جديدة كميزة تتفرد بها آبل .

شملت لائحة المنتجات التي صعدت بالشركة إلى القمة تحت قيادة جوبز الحاسوب iMac الحاسم في نشر ثقافة الإنترنت، وجهاز التخزين الرقمي iPod وتقنية iTunes للبرمجيات الموسيقية مع إعادة بث الحياة في نظام التشغيل العتيد (Mac OS X).

دخل جوبز كتب التاريخ حين أصر على إدارة شركته براتب سنوي مقداره دولار واحد ليثبت جديته في العودة بها إلى قوائم الربحية. وبالرغم من أنه قد ثبت في العام 2001م كرئيس فعلي للشركة، إلا أن راتبه الطريف لم يزل كما هو.. وإن كان هذا لا ينفي كون ستيف جوبز واحداً من مليارديرات مجتمع المعلوماتية باستثماراته الطليعة التي كان أشهرها شراء شركة الرسوميات Pixar من كاتب ومخرج الخيال العلمي الأشهر جورج لوكاس. وقد أعادت هذه الشركة تعريف فن الرسم الحاسوبي والفن السينمائي كذلك حين فاز فيلمها حكاية لعبة المنتج بالاشتراك مع استوديوهات ديزني بجائزة الأوسكار عام 1995م. ولا تزال هذه الشركة تحدِّد مسيرة التقنية في هذا الصدد بفضل النظرة المميزة لصاحبها جوبز الذي يعد بلا شك واحداً من أهم أعلام هذه الحقبة من عصر المعلوماتية.

أضف تعليق

التعليقات