الرحلة معا

الحراج الفضائي للألقاب

ليس موضوعنا هنا مونديال كأس العالم، لكنَّ هذه الحمى الكروية الدولية تدخل في سياقه بحكم الضرورة وبحكم قربنا من الحدث.

الذين تابعوا الفضائيات العربية، من الماء إلى الماء، تابعوا استوديوهات التحليل التي فتحت أمام جحافل خبراء الكرة العرب. وهذا لا غبار عليه، بل الغبار، والطين أيضاً، هو كيف قدَّم المذيعون خبراءهم من جهابذة الملاعب العربية. كان كل مذيع يبزُّ زميله بقدرته على خلع ألقاب جديدة وكبيرة على ضيوفه. فالذي معه في الأستوديو هو خبير كرة القدم الشهير و الخبير الأشهر في محبوبة الملايين و العلاَّمة الرياضي فلان و صاحب الصولات والجولات في ملاعب كرة القدم و البطل المعروف ، إلى آخره من ألقاب مجانية تصدم الأذن الواعية لحال الكرة العربية التي تتكوم مغانمها في بطولات حواري محلية، وتعود من المسابقات الدولية بخفي حنين ومعهما دستة من الأهداف التي ولجت مرماها.

يحدث هذا على مسمع ومرأى (خبرائنا) الذين يضعون خطط لعب لفرنسا وإنجلترا والبرتغال وقد يفتح أحدهم فمه واسعاً ليدل رونالدو أو زيدان على طريقة أفضل للتخلص من رقابة الخصم. وليس مستبعداً أن يقبل أحدهم بمقعد مدرِّب ألمانيا بشرط أن يسمع اللاعبون كلامه ويطبِّقوا خططه الجهنمية للفوز في المباراة.!!

أما من أين أتوا بهذه الجرأة البالغة في النقد والتحليل، فأظنهم وقعوا في فخ المذيعين الذين فقدوا سمة التواضع في خلع الألقاب والأوصاف على ضيوفهم، ربما ظناً منهم أنهم يحسنون صنعاً، بينما هم في الحقيقة يسيئون إلى أنفسهم وإلى ضيوفهم وإلى الناس المتفرجين، المخدوعين بما تسبغه هذه الألقاب على الجالسين أمامهم.

وإذا كان سلاطين أستوديوهات الكرة يخلعون الألقاب على ضيوفهم على هواهم، فإن سلاطين أستوديوهات وبرامج الحوارات السياسية والاقتصادية لا يقلِّون عنهم في حمل كل ضيف على محمل لقب فخم يخلب الألباب ويجذب الأنظار. هناك تجد تسطيراً مختلفاً للأوصاف المجانية فأنت تتفرج على مفكر كبير و علاَّمة جهبذ و الفيلسوف فلان و فريد عصره الكاتب فلان و المحلل الاقتصادي الكبير و خبير الأسهم المعروف و خبير التنمية فلان و المثقَّف المرموق وما إلى ذلك من الألقاب التي لو صحت لأصبحت الأمة العربية، بقيادة هؤلاء الجهابذة، في مقدمة الأمم في وقتها الراهن.

والمشكلة في مسألة توزيع هذه الألقاب كيفما اتفق، أنك لو دقَّقت في استمرائها من قبل الحراج العربي الفضائي لوجدت من يقول إنها مجرد كلام أو مجرد أوصاف لا تضر ولا تنفع فلماذا تعطيها كل هذا الاهتمام وتبتئس منها بهذه الطريقة. والحقيقة هي أنها، بما تمثله من مسلك إعلامي، شديدة الضرر على حياتنا التي تحتاج إلى مزيد من التواضع والواقعية التي تتماشى مع ما نحن عليه من أحوال متخلِّفة على كل الصعد.

حين تكون أمتنا تعاني إلى الآن من أمية مبدئية في فك الحرف، وحين يكون خطابنا السياسي مرتبكاً إلى هذه الدرجة، وحين يكون الوضع الاقتصادي العربي مديوناً بنصف ناتجه الإجمالي العام، أي بحوالي 250 مليار دولار، وحين يكون الكتاب العربي أفقر الكتب حول العالم تأليفاً وتوزيعاً وقراءة، فإن أولى العتبات إلى عقلها الإعلامي هو التواضع الذي يفتح أمامها الطريق الصحيحة للتعامل مع الحقائق كما هي، لتصل إلى الناس من دون أغلفة زاهية تخدع عين أو أذن المتلقي وتبني لديه مع الزمن قوالب ذهنية تتناقض مع واقعه وحال من يتحدث إليه، الذي ربما تختفي ضحالته خلف اللقب الذي تبرع به المذيع، أو ربما اكتفى من غنيمة الحضور الإعلامي باللقب الكبير وبإثارة العواطف إلى الحد الأقصى، بينما تبقى مكتسبات العقل والمنطق لدى المتلقي عند حدها الأدنى.

إن أولى الحقائق التي تتطلَّب مزيداً من التواضع هي أن ظهورنا الإعلامي يجب أن يهدأ على مستوى الألقاب ويصف الناس بوظائفهم الحقيقية: أستاذ في جامعة كذا ومؤلف كتاب كذا وعضو جمعية كذا ورئيس لجنة كذا ومحاضر هنا أو هناك. وبهذه الصورة من التواضع نخرج من حراج الألقاب الفخمة البرَّاقة ونكون أصدق مع أنفسنا وواقعنا ومع الناس.

أما الحقائق الأخرى فحكايتي وحكايتكم معها تطول.

أضف تعليق

التعليقات