أقول، وحسابي عند الله وليس عند بعض الناشرين العرب، إن نفسكم القصير وجشعكم وغيابكم عن أحكام وشروط سوق الكتاب الحديث هي التي أخرت القارئ العربي وجعلته في آخر الصف إذا ما قورن بالأوروبيين والامريكان والأسبان والأتراك، بل والإغريق اليونانيين الذين عفا الزمن على حضورهم وحضارتهم. هناك، وليكن في ذلك ما فيه من القسوة، تراجع مزمن للناشر العربي الذي لا يزال يعامل المؤلف العربي وكأنه صبي خباز في القرن الثامن عشر، لا يناله من عجنه وخبزه والنار التي تلفحه سوى حافة رغيف الخبز، أما الرغيف ذاته مغمسا بالزبده والعسل فهو في بطن الناشر الذي لايشبع من الانتفاخ والتعسف.
كانت الروائية السورية هيفاء بيطار، كما روت لزاهي وهبي، تحمل الكتب في مراهقتها في صناديق إلى المصيف، لتقضي سحابة الصيف الطويل وهي تتطلع في سماوات الكتب مستمتعة ومتفحصة ومستزيدة من خير جليس في الصيف والشتاء وكل الفصول. ولم تكن تفعل ذلك لوحدها، بل يفعله كل المراهقين الذين يتربون في أحضان المكتبات المنزلية. وكنا أنا وزملائي في المرحلتين الثانوية والجامعية نغزو دور الكتب المصرية كل صيف ومنتهى متعتنا أن نرى صبيان العم مدبولي يتسابقون لمراكمة الكتب التي نشتريها ونحملها على ظهورنا مطاردين سيارات الأجرة في شوارع القاهرة، وكأننا نحمل كنوزا ذهبية أين منها كنوز شهرزاد المزعومة في ألف ليلة وليلة.
كان مثار فخرنا في سنيننا المبكرة، كما هو مثار فخر مجايلينا العرب الشباب من المحيط إلى الخليج، أن نستعرض منجزاتنا في القراءة وأن ندخل في مناقشات ومنافاحات ثقافية نستشهد فيها بقول هذا الكاتب أو ذاك. وكان سر الأسرار في رقي شعورنا الذاتي والاجتماعي والوطني أن نتوسد كتابا مرموقا بعد أن نمضي معه الهزيع الأخير من الليل. أما المجلات الثقافية والسياسية التي كانت تصدر في السبعينيات ومطالع الثمانينيات والتي كنا نتخاطفها في مواعيد صدورها فكانت رغم ثقلها واحترافيتها نصوصا عابرة في حياتنا إذا ما قورنت بأصحاب الفخامة والجلالة والسمو الكتب.
وما دمنا واقعين غصبا تحت مظلة (كان) فلنقرأ ما أورده الدكتور جابر عصفور في ندوة مجلة العربي الأخيرة عن دور المجلات الثقافية في وقت عربي سابق: “ لقد كانت المجلات الثقافية آلة هدم العالم القديم والتمهيد لبناء عالم جديد، يخلو من كل سلبيات الماضي المتخلف وعوامل جموده. ولذلك خاضت المجلات الثقافية معركة النهضة ـ في سياق الصحافة بوجه خاص والثورة الفكرية الثقافية بوجه عام ـ التي اعتمدت على جهود صنَّاع النهضة الذين جعلوا من مجلاتهم الثقافية وصحفهم، سلاحهم في معارك الحريات السياسية والاعتقادية، وترسيخ حضور الدولة المدنية وتأكيد حتميتها في مسار التقدم، وأشاعوا مبدأ التسامح في الفكر والاعتقاد، وحاربوا الطائفية والنزعات العرقية، فضلا عن أشكال التمييز الراسخة ضد المرأة، ودافعوا عن حق المرأة في التعليم والمشاركة الاجتماعية، وانفتحوا على العالم بكل تياراته، واستبدلوا العلم بالخرافة (…..) ولم ينسوا الوقوف في صف أنواع الإبداع الأدبي والفني الجديدة، فآزروها بما أكد حضورها وجعلها جزءا لا يتجزأ من بناء ثقافة النهضة التي ورثناها عنهم، ونحاول استرجاعها والانطلاق منها إلى ما بعدها، خصوصا في هذه الأعوام التي تتنكر لأعظم ما أنجزته النهضة من منجزات ثقافية. إن عصر النهضة شهد وفرة دالة في إصدارالصحف والمجلات، وذلك على نحو لم يعد له نظير في زمننا الحالي”.
الآن أنظروا، مع الدكتور عصفور، إلى سوق المجلات على أرفف البيع. ليس هناك سوى النطيحة والمتردية وما عضه “البزنس” عضا بينا حتى لم يعد يحمل سوى رسائل الغزائز وموبقات الفيديو كليب وتفاهات الحياة الشخصية للفنانين والفنانات وأهل كرة القدم، الذين تحولوا من أدوات للتسلية إلى قدوات يعتد بتقليدهم والسير على خطى ملابسهم وقصات رؤوسهم وتعاطف أنوفهم مع الجماهير والمريدين. وإذا أردتم مثالا من المملكة يمكن أن يقاس عليه عربيا، فإن لدينا مائة وعشرين صفحة رياضية يومية، فيما لا تكاد الصفحات الثقافية تبلغ خمس عشرة صفحة، في مجملها إخبارية لا تتمتع بالعمق المشروط للطرح الثقافي. وقد أدلى رئيس تحرير صحيفة مرموقة ذات يوم بأنه يعتبر الصفحة الثقافية مضيعة للوقت والمساحة. ولذلك كان يتنازل بضمير مرتاح عن نصف الصفحة الثقافية اليومية لحساب الإعلان التجاري، في الوقت الذي يصيبه كثير من التردد إذا حل إعلان في الملاحق الفنية والرياضية.
وإذا كان ذلك حدث للمجلات، بالمقارنة ما بين وقت عربي وآخر، فإن ما حدث للكتاب أشد وأنكى، فالناشر الشاطر (المتكسب) أصبح أقدر على تمييز السلع القابلة للبيع والجماهيرية، فصارت كتب الطبخ والنفخ والشواء وما لف لفها هي الواجهة في أرفف البيع، حيث لم يعد من الناشرين، إلا من رحم الله، معنيا بالكتاب المتمتع بالقيمة الفكرية والثقافية المُعمّقة والمؤثرة. وتمادى هذا الناشر الرخيص في بياناته الصحافية فأعلن في كل محفل أن القارئ العربي متأخر إذا ما قورن بغيره. وهو قارئ لا يحتمل الأفكار والمطولات، بل يطلب ما طاب سلقه وخف هضمه. وبينما هو سادر في غيه وبياناته لم يقل لنا من المتسبب في هذا التأخر؟ وهل يتحمل هو كناشر جزءا من المسؤولية أم أنه يتنصل من هذه المسؤولية تحت طائلة اتهام جمهور القراء بالبحث عن العادي والتافه من المؤلفات؟!. ثم أليس هناك طفيليون كثر دخلوا على خط هذه المهنة العظيمة فأساءوا إليها بالادعاءات وأنواع النشر المتردي؟
أحسب أن قراءة إبني وابنك الصغيرين لما يتجاوز سبعمائة صفحة من هاري بوتر، ومراهقات هيفاء بيطار وصويحباتها مع صناديق الكتب، وقراءة السعوديين للروايات الجديدة الأخيرة. أحسب أن كل هذا وغيره يُكذب إدعاءات الناشرين عن تأخر القارئ العربي. وما يفترض أن نعترف به، أو نناقشه على الأقل، هو أن صناعة الكتاب العربي متخلفة بسبب بعض صناعها من الطفيليين والجشعين، الذين يزرون القارئ وزرهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.