نشرت صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم الجمعة في السادس من رجب 1428هـ (21 يوليو 2007م)، تقريراً يتناول الألعاب الإلكترونية التي تعتمد تمثيل المعارك وغيرها من الألعاب المتسمة بالعنف، وأشارت الصحيفة إلى أن هناك حملة سعودية ضد ألعاب العنف الإلكترونية.
الدكتور عبدالله بن أحمد الفيفي، عضو مجلس الشورى وأستاذ النقد الحديث بجامعة الملك سعود، يعرض هنا وجهة نظره في هذه القضية.
يقدَّر سوق الألعاب الإلكترونية في السعوديّة بنحو 700 مليون ريال (186.6 مليون دولار) في السنة، كما جاء في التقرير الذي نشرته جريدة «الشرق الأوسط»، وبعضها يقود في الغالب إلى الميل إلى النوازع الانتحارية.
فلا غرابة إذن أن تنشأ تلك اللغة المسلكيّة الجانحة إلى العنف لدى ناشئتنا، مكتسبةً من خلال مشاهدتهم التلفازيّة، أو ألعابهم الإلكترونية، بما تشكّله في دواخلهم من عوالم أقوى من كل دروسنا ومناهجنا؟
فمَن المسؤول عن تربية بعض النزوع الإجرامي في أطفالنا؟
تربية الجريمة؟!.. نعم تربية الجريمة!
أعلم أن هذه الكلمة صاعقة، لكن من منا لاحظ ما يشاهده أطفاله في الأقنية الفضائية، أو عبر جهاز «الكمبيوتر»، أو ألعابهم في «البلاي ستيشن»، أو «الجايم بوي»، على سبيل المثال لا الحصر؟
وهلاّ سألنا -ونحن المجتمع المحافظ- كيف وصلت ألعابٌ إلى أيدي أطفالنا، لا تقتصر خطورتها على جانب لغوي أو ثقافي، بل تعلِّم العنف، والقتل، وسفك الدماء، وتلقِّن الإجرام؟
مَنْ الذي سمح بدخولها إلى أسواقنا؟ بل مَنْ الذي سمح بوجودها في المراكز العامة لألعاب الأطفال في بلادنا؟!
هذا على الرغم من أننا نعلم أنها محظورة في مجتمعات، درجنا على تصوير أنفسنا بأننا خير منها، ووصمها بعدم المحافظة أخلاقياً، قياساً إلينا، كالولايات المتحدة الأمريكية، مثلاً! ذلك لأن القِيَم والأخلاق تكاد أن تكون محصورة لدينا فيما يتعلَّق بالمرأة، والمظهر، وما عدا هذا فحدِّث ولا حرج، فليس ما يحرِّك فينا ساكناً في كثير من الأحيان، حتى نكتوي بعواقبه!
والسؤال تلو السؤال: أما زلنا في حاجة إلى أوامر عُليا بتشكيل لجنة من بعض الجهات الحكومية لدراسة سلبيات تلك الألعاب؟ وإلى متى تبحث مثل هذه الأمور عبر لجان؟ وإلامَ توصّلت اللجان، إن كانت قد فعلت؟ لماذا لا يقنّن دخول تلك الألعاب إلى البلاد؟
من يوعِّي من؟
نحن نعلم أن العولمة ووسائل الاتصال اليوم لم تعد تتيح المنع لكل ضار. وندرك كذلك أن مجتمعات أخرى تعاني كما نعاني أو أشد. ولكن تلك مسوِّغات منطقية لتهوين الأمر: احتجاجاً باتساع الخرق على الرَّاقع، أو بأن «كلنا في الهمّ عنف»! أضعف الإيمان أن تُسنّ القوانين لحظر بيع أو ترويج ما يضرّ بالإنسان، أمّا أن نحتج بما لا يدرك كلّه على أن يترك جلّه، فتراخٍ في القرار. إذ ليس من الجد في المعالجة أن يأتي في ذلك التقرير القول: «فيما أكّد المتخصّص السعودي أن بلاده وصلت إلى «مرحلة الخطر» من جرَّاء عواقب ألعاب العنف الإلكترونية على أطفالها، رأى بأن «الحلّ الوحيد!» يكمن في التوعية حول تلك الألعاب، وأن تضطلع معاهد البحث الأكاديمية بمهامها إزاء هذا الخطر»!
أيْ: أن يظل استيراد تلك الألعاب، وعرضها على الأطفال في الأسواق، وإغراؤهم بها في مراكز الألعاب العامة، ثم نوعِّي بخطورتها، وتضطلع المعاهد الأكاديمية ببحث مخاطرها!
ثم يُوعّى مَن؟ الأطفال السذّج الغارقون فيها، أم آباؤهم الغارقون في همّ الأطفال والسوق، إلى باقي همومهم الأخرى؟!
ذاك كمن يرى اشتعال النار في بيته، فيقول: لا تطفئوا النيران، ولكن وعّوا أهل البيت بمخاطر النار وعواقب اللعب بها، ذلك هو الحلّ الوحيد!
إن الطفل الذي يعتاد تلك الألعاب، يتربى على العنف، فيصبح الأمر لديه عادياً هيناً، مشاهدة وممارسة، ولاسيما أن صور تلك الألعاب تكاد تُوهِم المشاهدَ بأنها حقيقية.
لمصلحة مَن يغض الطرف عن هذا كله؟ وهل التربية موكلة إلى الأبوين، أو إلى المدارس، أم ان التربية الاجتماعية والوطنية -بمعناهما الشامل- هي المكملة لدور الأسرة والمدرسة؟ بل ان البيت والمدرسة لا يمكنهما القيام بدورهما في بحر اجتماعي متلاطم، يُخرِّب عقول الأطفال ونفوسهم.
لا غرو إذن أن نسمع اليوم عن جرائم تشيب لها الولدان، يوم أن كان الولدان ولدانًا! ولا أن تتفشَّى ظواهر إجرامية من بعض اليافعين، تتجه إلى القتل والاعتداء على أقرانهم، أو حتى على معلِّميهم، فيما بات يُعرف بعُنف الشوارع، أو عُنف المدارس، ذلك أن مخيّلاتهم الغضّة قد مُلئت بتلك المواد المحرّضة على الفتك عند الخلاف! بل لا عجب بعد ذلك كلّه أن نسمع عن جرائم ضد الأبوين، من خريجي مدرسة «البلاي ستيشن» وخريجاتها، وغيرها من الألعاب والتقنيات!
كذلك لا غرابة بعد ذلك كله أن تُخرّج تلك المدرسة، وتدرّب نظرياً ونفسياً، من الإرهابيين فِرَقاً شتَّى، لا يُستهان بها، وإن ظللنا -كعادتنا من التسطُّح والعَوَر- ندس رؤوسنا في سبب واحد يتيم، يعزو الإرهاب إلى غلوٍّ ديني في ضلال فكري.
جيل مزدوج العنف
نعم، هناك بلا شك جذور عنف آتية من «طفولتنا الثقافية» الموروثة: دينيةً -لا تسلم منها حتى أساليب الأدعية على المخالفين، رغم مقتضيات الرحمة والرأفة والتذلّل والروحانية- وقَبَليةً، بجهلنا دوماً فوق جهل الجاهلين، ولا فخر! هذا إلى جذور ثقافية؛ فثقافتنا كغيرها، فيها العنصرية، وفيها تناقض القِيَم بين الظاهر الملائكي ووحل البواطن. إلا أننا، عبر الاستيراد غير الرشيد، من ذلك النوع المشار إليه، نربِّي جيلاً مزدوج العنف؛ إذ نوقظ الغافي فيه، ونُراكِم الآتي إليه فوق الكامن العتيق.
إن التربية النظرية يتبعها التمثُّل والتطبيق. على أن تلك الألعاب لا تقتصر خطورتها على التصور النظري، بل هي تأخذ الطفل والحَدَث إلى معايشة حيَّة للحدث، وكأنهما قد مرَّا فعلاً بالتجربة، وذلك في سن لا يكاد يُفرِّق الناشئ فيه بين واقع وخيال.
هذا ونحن لم نلامس إلا أشد مظاهر تلك الألعاب مباشرة وتقزيزاً وخطورة، ناهيك بجوانبها الفكرية والنفسية الأخرى، مما لا أول له ولا آخر.
لذلك أجدني -وغيري من الآباء والأمهات، وغير الآباء والأمهات- نناشد كل من يهمه شأن الطفل وثقافته، وشأن المجتمع وأمنه، أن يفتِّشوا عن ذلك المسؤول عن وجود تلك المنتجات في أسواقنا وفي مراكز ألعابنا -وقد تكون محظورة حتى في بلدان إنتاجها- لعلهم يجدون لديه من المسوغات التربوية المعقولة والمقبولة ما جهلناه وأحاط به خُبراً، وغاب عن المجتمعات المتحضّرة، واكتشفه بثاقب بصيرته ووعيه! لعله يُفتينا، فما نطمع -يعلم الله- إلى أكثر من فهم ما يجري؟ وإلى إدراك: أين نحن متجهون ندفع أطفالنا أمامنا؟
ومن ثم، لعلّنا بدورنا نُفتي غيرنا من أُمم الأرض المساكين، الذين حظروا تلك المنتجات على شعوبهم، كيلا يحرموا أطفالهم من «فرفشة» بريئة، وغير مضرة، وإن توجَّسوا منها خيفة، ربما لضعف قلوبهم المعروف -قياساً إلى جسارة العرب- مع دلالهم المفرط لأطفالهم؟!
حقاً، إن الطفل العربي لغريب الوجه واليد واللسان، إن نجا من أمراضه الموروثة (الأصيلة، لم ينج من أمراض نستوردها له من الخارج.