عطفاً على موضوع الأمان الاجتماعي في المدن العربية الذي نشرته القافلة في العدد السابق، تعرض الكاتبة المصرية داليا يوسف وجهة نظر مغايرة، وإن كانت لا تصل إلى حد نقض ما نُشِر، فإنها تحذِّر من الإغراق في الاطمئنان إلى حال الأمان الاجتماعي، لأن ثمة ما يهدِّده فعلاً.
أفزعني صراخ سيدة جاء صوتها مستغيثاً في شارعنا المظلم ليلاً.. هرعت إلى الشرفة لأجدها تبكي وتشكو الرجل الذي خطف حقيبتها وهو على دراجة بخارية.. حتى الآن تبدو لقطة عادية ومتكررة ولكن اللافت أن شارعين يفصلاننا عن وزارة الداخلية المصرية على الأكثر!!
والحق أنني أثناء التحضير للكتابة عن مفهوم الأمن ومظاهره في بلد كمصر قفز إلى ذهني أنني أستطيع أن أعقد مقارنة بسيطة بين مشاهد لاحقتنا الشهور الماضية.
فقد كان وسط البلد مسرحاً لأحداث
التحرش الجماعي التي تعرضت لها مجموعة من الفتيات والسيدات المصريات، وكان المتحرشون عدد من المراهقين والشبَّان أمام إحدى دور السينما في أكتوبر 2006م. وسبق ذلك في مايو 2005م أحداث تحرش بالصحافيات المصريات أثناء إحدى تظاهرات القوى المعارضة في مصر. أما حي السيدة زينب المتاخم لنا فشهدت إحدى مناطقه العشواء (قلعة الكبش) حريقاً هائلاً في مارس 2007م دمَّر جانباً كبيراً من بيوت وعشش ساكنيه، ولا تزال المواجهة مستمرة بين أهالي هذه المنطقة والمحافظة المسؤولة عن إعادة تسكينهم ضمن مسعى شَابَهُ الكثير من الفوضى وشبهة التربح ولن أنسى وجوه أبناء هذه المنطقة الغاضبة اليائسة وقد صورتها عدسة الصحافية أمل فوزي في فِلم تسجيلي عنوانه ولاد الكبش .
ما زلنا نستطيع السير
رغم أن ما ذكرت قد يبعث على التشاؤم والحزن إلا أننا ما زلنا نستطيع السير في شوارع مصر آمنين.. ما زلنا نمارس نشاطنا ليلاً ونهاراً من دون تهديد ظاهر للعيان.. ولكن الثقوب التي تزداد اتساعاً يوماً بعد الآخر تستوجب القلق والحرص على الرصد والتحليل. والمشاهد التي ذكرتها تلخِّص ظواهر معقَّدة تضرب في عمق الشارع المصري وتهدِّد شعوره بالأمن.
فور الحديث عن مسألة الأمان ونسب الجريمة يتبادر إلى الذهن أنماط المعيشة في المجتمعات الغربية وغياب الشعور بالأمان إلى حد ما، مع تعقد أشكال الجريمة وعنفها الشديد هناك وبالتالي تظل نتيجة المقارنة في هذا الشأن لصالح مجتمعات مثل المجتمع المصري والعربي بصفة عامة. ولهذا الأمر أسبابه وملابساته التي يجدر التوقف عندها قليلاً، أولها أن الضامن الحقيقي الذي يحفظ توازن الفرد ويؤهله للحركة في محيط أوسع هو ما يعرف بالجماعات الاجتماعية وعلى رأسها الأسرة ويرافقها في ذلك معاهد التعليم ودور العبادة والأصدقاء والنوادي وجماعات النشاط والنقابات وغيرها، ويبدو بصورة لا تحتاج لكثير من الإثبات أن الفردانية في المجتمعات الغربية سادت على نحو تسبب في تفتيت أهم هذه الدوائر وهي الأسرة أو لنكن أدق عبر القول بأنه أضعف تأثيرها. ورغم أن أغلب أنظمة الدول الغربية يعتمد على إمداد مواطنيها بالخدمات (التعليم، الصحة، السكن…) والتي قد تصل أحياناً إلى حد الرفاهية إلا أن هشاشة البنى الاجتماعية في هذه المجتمعات سمحت بتنامي شكل من العنف والقسوة والتشوه النفسي قد تصادف ما يحوِّلها إلى أنماط من الجريمة المنظَّمة والمهدِّدة لأمن البشر. فإذا ما نظرنا إلى المجتمع المصري الآن فسنجد أن كثيراً من الجماعات التي كانت تضمن تنمية الفرد وإدماجه بصورة تؤهله للقيام بأدواره الاجتماعية المختلفة قد تآكلت ولا سيما ما يتعلق بالتعليم وجماعات النشاط السياسي والثقافي بل الأسرة الممتدة.
الأسرة المصرية:
وحدها في المواجهة
تزامن تآكل أدوار هذه الجماعات وخسارة عافيتها الاجتماعية مع ميل الدولة إلى الانسحاب من دعم خدمات التعليم والصحة وغيرها ومحاولة الانتقال إلى نظام السوق المفتوحة وسياسة الخصخصة، حدث ذلك لتترك الأسرة الصغيرة (أو النواة) وحيدة في مواجهة ضغوط عدة، وتقوم بأغلب الواجبات دون تسهيل حقيقي لتمارس دورها. وهذا ما أدى إلى إفراز ظاهرة من أخطر ما يهدِّد الأمن الاجتماعي في مصر وهي أطفال الشوارع .. فالأسر التي ضاقت بها سبل الرزق رفعت الراية البيضاء وأعلنت تسليم أبنائها نهباً للشوارع.. وتتعقد ظاهرة أطفال الشوارع لتصبح عالماً موازياً له قوانينه ونظمه القاسية التي تجلَّت في قضية عصابة التوربيني حيث أخذ عدد من المراهقين والأطفال من أبناء الظاهرة في الاعتداء الجنسي وقتل مواطني عالمهم الموازي أي أطفال شوارع مثلهم. وتتحدث الدراسات عن ألوف من هؤلاء الأطفال، والمذهل أننا بصدد التعامل مع جيل ثان وثالث منهم عبر علاقات وزيجات فوضى فيما بينهم.
يرافق مظاهر الخلل الاجتماعي ونتيجته في أطفال الشوارع خلل عمراني مع وجود أحزمة عشواء تلتف حول المدن في مصر، ويرجع تاريخ معظم العشش السكنية القديمة إلى بداية الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وما زال عدد كبير منها يجاهد في البقاء بجوار الأبراج السكنية العصرية الضخمة، والمباني الإدارية الشاهقة.
عشوائية المكان والإنسان
ولا تقتصر المشكلة هنا على الشكل العمراني أو تأثر الأحياء المتاخمة للعشوائيات وإنما تتجاوز ذلك إلى أزمة مكتملة الملامح أصبحت أكبر بكثير من القدرات البشرية لدى أجهزة الأمن بسبب ضيق شوارعها وتلاصق مبانيها على نحو يحول دون دخول سيارات الشرطة والإطفاء والإسعاف. وكشفت دراسة لمركز بحوث الإسكان والبناء والتخطيط العمراني عن الإسكان الفوضوي أن %18 من الأسر المصرية تعيش في غرف مشتركة وأن معدل التكدس يبلغ 7 أفراد في غرفة واحدة في المناطق العشواء، فضلاً عن اشتراك عشرات الأسر في دورة مياه واحدة ويعني هذا غياب سياسة واضحة للإسكان. وتذكر الدكتورة ضحى عبدالغفار أستاذة الاجتماع بكلية البنات في جامعة عين شمس في دراسة لها أن مصر تضم 434 منطقة عشواء، وتختص القاهرة وحدها بـ 88 منطقة يسكنها نحو %50 من سكان القاهرة المراوح تعدادهم بين 17 و 19 مليون نسمة بحسب الإحصاءات الخاصة لعام 2004/2005م.
وفي الوقت نفسه فإن الرهان على قدرة المصريين على التكيف مع أوضاع المعيشة الصعبة لعبة خطرة إذ أوضحت الخبيرة في علم النفس، الدكتورة إيمان شريف، أن الإنسان المصري بطبيعته يتكيف مع أية ظروف يعيش فيها منذ القدم ولكن مع تطور الحياة والتقدم والمتغيرات الاجتماعية التي يمر بها المجتمع يحدث تغير في سلوك الأفراد. وأشارت إلى أن هناك من يتكيف مع وضعه القائم لأنه لا يجد بديلاً منه ولكن البعض الآخر يظهر تمرده على وضعه في سلوك خطر تجاه المجتمع. وأوضحت أن ذلك أدى إلى تحول هذه المناطق إلى وكر للعصابات الإجرامية ومراكز لتجارة المخدرات والسلاح.
الأمن إنساني أيضاً
يؤكد تقرير صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 1999م وعنوانه عولمة ذات وجه إنساني أن على الرغم مما تقدِّمه العولمة من فرص هائلة للتقدم البشري في كل المجالات نظراً لسرعة انتقال المعرفة وانتقال التكنولوجيا الحديثة وحرية انتقال السلع والخدمات، فإنها في المقابل تفرض مخاطر هائلة على الأمن البشري في القرن الحادي والعشرين، وهذه المخاطر ستصيب الأفراد في الدول الغنية والفقيرة على السواء. وقد صنَّف التقرير تحديات أساسية تهدِّد الأمن الإنساني في عصر العولمة من أهمها:
–
غياب الأمان الوظيفي وعدم استقرار الدخل: إذ دفعت سياسة المنافسة العالمية بالحكومات والموظفين إلى اتباع سياسات وظيفية أكثر مرونة تتسم بغياب أي عقود أو ضمانات وظيفية؛ ويترتب على هذا غياب الاستقرار الوظيفي.
–
غياب الأمان الثقافي: إذ تقوم العولمة على امتزاج الثقافات وانتقال الأفكار والمعرفة بطريقة غير متكافئة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، وفي أحيان كثيرة تفرض الأفكار والثقافات الوافدة تهديداً على القيم الثقافية المحلية.
فالعالم كله يعاني فيما يتعلق بمدى الشعور بالأمن ولكن في بعض المجتمعات خاصة الغربية المؤسسات والمسارات التي تذيب المشكلات، وتعمل نظم الشفافية والمراقبة والمحاسبة في محاصرة الجريمة والتهديد الأمني على قسوتها. أما في مجتمعاتنا فبدأنا في دفع ضريبة كوننا في مدن تتعولم ولكنها لا تجد سبيلاً لحل مشكلاتها.