ما بين تسارع وتيرة الاكتشافات العلمية والفكر الموجِّه لنمط الحياة الحديثة تبرز اليوم سلسلة من التحديات الأخلاقية أمام الطب. وإذا كان في الدين بأحكامه الشرعية والموروث الأخلاقي ما يساعد على مواجهة هذه التحديات في بعض المجتمعات، فإن الحال في بعض المجتمعات يصل بالقضية إلى مستوى الأزمة كما تبين الدكتورة فاتن مرسي في مقالتها التي كانت اختارت لها عنواناً آخر هو: “بدع طبية ضد الإنسانية”.
كانت الفضيحة الأخلاقية العلمية التي فجرتها طبيبة بريطانية من أصل آسيوي زلزالاً هزَّ المجتمع البريطاني في الصميم، فقد اكتشفت ريتا بول ذات الضمير الحي أن المريض المسن أرخص ثمناً من السرير الذي ينام عليه! ونسبت وسائل الإعلام البريطانية إلى هذه الطبيبة قولها إن هناك أطباء يحجبون العلاج عن كبار السن، بل يعجّلون أحياناً بإنهاء حياتهم لأن المستشفى في حاجة إلى الأسرة التي ينامون عليها!! وضربت ريتا بول أمثلة عديدة من واقع خبرتها الشخصية في عدد من المستشفيات التي عملت فيها، وقالت إنها فوجئت ذات يوم بأحد الأطباء يوقف العلاج الذي تتلقاه مريضة في الثمانين تعاني داء السكر. وعندما أبدت الطبيبة دهشتها ردَّ الطبيب بأن هذه المريضة سوف تموت في كل الأحوال. وذكرت الطبيبة مثالاً آخر عن مريض في أحد مستشفيات لندن، أعطاه الأطباء جرعة زائدة من عقار “الديامورفين” الذي يستخدم لعلاج القلب، لكنه يقلل معدل التنفس، وعندما أكدت لهم أن ذلك قد يقتل المريض أجابوها بأنه مسن وسوف يموت بطريقة أو بأخرى.!
وأضافت.. “عندما طالبني رئيسي بعد ذلك بحقن مريض آخر مسن بعقار “الديامورفين” تظاهرت بالاستجابة ثم حقنت المرتبة التي ينام عليها المريض المسن حتى لا يُكلِّف طبيباً آخر بحقنه إذا امتنعت”.
ومثال ثالث من مستشفى آخر.. تقول الطبيبة: “أسرعت يوماً إلى رئيسي أبلغه بأن مريضاً يموت من مرض في الكبد، فردّ بأن ذلك المريض يزيد عمره عن الستين!”. وفي حالة أخرى أوقف الأطباء عمل الأجهزة وأوقفوا الأمصال التي تمد عجوزاً في التاسعة والثمانين بأسباب الحياة، وبرر كبير الأطباء ذلك بأن المستشفى في حاجة إلى السرير. وتقول الطبيبة ريتا بول: إن المريض كان مدركاً وواعياً لكل ما يقال. ولقد توفي بعد فصل الأجهزة عنه.. أي أن مخه كان حياً ولم يمت بعد، حيث إن الطب الحديث يبرر حدوث الموت بموت جذع المخ.
موت المخ
يكاد موت المخ يكون لوحده المصدر الأكبر لهذه التحديات الأخلاقية، فموت المخ هو الحالة التي يكون فيها المريض في غيبوبة عميقة وغير قادر على التنفس التلقائي، ويحتاج إلى جهاز التنفس الصناعي كما يحتاج إلى العلاج الوريدي والغذاء من أنبوبة المعدة مع ضرورة توفر رعاية دقيقة له. ويرى فريق من العلماء أن مثل هذا المريض يعتبر ميتاً لأن حالته ستنتهي حتماً إلى الموت، وبالتالي يمكن استئصال أعضائه السليمة لنقلها لمن يحتاجها، أي إيقاف علاجه وفصله عن أجهزة التنفس وغيرها.
ويرى فريق آخر أن مثل هذا المريض يعتبر حياً لأن معظم أعضائه ما زالت حية وتعمل بانتظام ويجب الاستمرار في علاجه ورعايته حتى وإن كانت حالته ميؤوساً منها. من هنا يصبح من حق أي عالم أو طبيب أو مواطن أن يتساءل إذا كان موت المخ يعتبر بالفعل موتاً؟ ولماذا اعتبره البعض كذلك؟
للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نتذكر أن مسألة الموت ليست طبية بحتة، بل إنها ليست مسألة طبية في المقام الأول، لأنها ببساطة مسألة عقدية فكرية لها تطبيقات طبية وقانونية وانعكاسات اجتماعية كثيرة. فليس من المستغرب، بل من المتوقع، أن يتبع المجتمع في هذه المسائل توجهه الفكري. ويظهر سؤال آخر هو: هل تتبع الاتجاهات العلمية توجهات المجتمع الفكرية؟ فالملاحظ أن العلم مستقل ما دام في نطاقه العلمي البحت، لكن حين يلتقي العلم بالفكر في المسائل المشتركة فإن التوجهات الفكرية تؤثر في الاتجاهات العلمية وتقودها من حيث لا تشعر، ولا عجب في أن العلماء أنفسهم قد شاركوا في صياغة فكر المجتمع وارتضاه معظمهم وأصبحوا مهيئين، بل وراغبين في خدمة هذا الفكر عن وعي أو عن تلقائية.
الفكر يقود أخلاقيات الطب
لذا علينا أن ندرس الفكر السائد في بعض المجتمعات فيما يختص بموضوع الموت لنفهم لماذا أفرزت هذه المجتمعات مفهوم موت المخ ولنستعرض معاً أبرز معالم هذا الفكر:
1 –
إنه فكر مادي، لا بد أنه تأثر بالأديان في الماضي، لكنه أخذ منها ما أخذ وترك ما ترك وحوّر وطوّر كما شاء ولم يعد ملتزماً بالمقاييس الدينية.. ويجب أن نذكر هنا أن رجال الدين في تلك الدول قد اعترضوا قائلين: إن فقدان وظائف المخ بلا عودة لا يعتبر دليلاً قاطعاً على وفاة المخ وصاحبه، كما أبدوا تشككهم في صدقية معايير تحديد موت المخ وأيضاً تشككهم في أن المخ يمثل كل جوانب الشخصية. وعلىالرغم من هذه الاعتراضات فقد تم قبول مفهوم موت المخ. ويقول أحد الباحثين في كتاب وضعه ايرل ووكر عن موت المخ: “ظل هؤلاء المشككون يقاومون مفهوم موت المخ، لكنها مقاومة دون جدوى فهذه مجتمعات غير ملتزمة بفروض الدين”.
2 –
وهو فكر يقدس العقل ويربط حياة الشخص بسلامة عقله، حتى أن بعض المشتغلين بهذا الفكر ينادي بأن يكون تعريف الموت هو موت العقل وليس موت المخ. يقول جوزيف فلتشر في كتاب “الجوانب الأخلاقية لقتل الشفقة” ما نصه: “ليس فقدان وظائف المخ بشكل عام، لكن فقدان وظيفة العقل بالذات هي التي تدل على أن الموت قد حدث”.
3 –
وهو فكر يبيح ما يسميه “القتل الرحيم”، ويشجع عليه. يقول جوزيف فلتشر: “من السخف أن نوافق على إنهاء الحياة تحت البشرية للجنين في الرحم كما نفعل في الإجهاض لأسباب الشفقة، ونرفض أن ننهي الحياة تحت البشرية للمسن. فإذا كنّا ملزمين أخلاقياً أن نجهض الحامل متى عرفنا أن الجنين مشوّه فإننا بالمثل ملزمون بأن ننهي حياة المريض بلا أمل”.
4 –
وهو فكر ينادي بقتل كبار السن عند الحاجة.. ويتساءل تقرير الجمعية البريطانية عن “القتل الرحيم”: “لماذا نترك كبار السن يتحللون ويتعفنون في المصحّات والمستشفيات التي عليها أن تقدم أحسن وأحدث رعاية في حين أن ما يريده هذا المريض هو نهاية قصيرة غير مؤلمة؟”. لقد أصدرت السلطة التشريعية في كاليفورنيا قانوناً “يعطي من هو في حالة مرضية متقدمة الحق في ميتة مشرفة”. ويقصد بذلك أن يكون من واجب الطبيب أن يقتله بناء على طلبه. ويبرر ذلك بأنه “لما كانت الحياة ستؤول في النهاية إلى الموت فلا بد أن نستخدم العلم الحديث لتكون النهاية محترمة”..!!
5 –
وهو فكر يربط الحياة بقيمة شخصية بحتة ويرى أنه “من واجب الأطباء النزول عند رغبة المريض الذي لا يرغب بالحياة، ولا يعالج إلا هؤلاء الذين يعتقدون أن لحياتهم قيمة يرضون عنها” كما ورد في التقرير السابق نفسه.
6 –
وهو فكر يعتقد أن كل شخص يملك جسده ومن حقه أن يفعل به ما يشاء، بدءاً من الزعم بأن الإجهاض من حق المرأة لأن الجنين جزء من جسدها وهي حرة فيه، ومروراً بحق الشخص في أن يحوّل نفسه من ذكر إلى أنثى أو العكس، وانتهاء بحقه في أن يدمر جسده بالانتحار أو يطلب من آخرين أن يقتلوه ويتوقع منهم المساعدة..!!
إن هذه القوانين تعكس الفكر السائد في هذه المجتمعات فتجعل من كل ما سبق شيئاً مباحاً، بل في بعض الأحيان واجباً.. وفي ظل هذا الفكر يكون التعامل المنطقي مع مريض الغيبوبة الميؤوس من شفائه هو إنهاء حياته من باب القتل الرحيم. وإذا تقرر إنهاء حياة مثل هذا الشخص فما المانع من الاستفادة من أعضائه للزرع أو من جسده للبحث ما دام قد وافق هو أو ذووه على ذلك؟
من هنا نجد أن مفهوم موت المخ والتعريف الجديد للموت ليس إلا تطوراً طبيعياً وامتداداً للفكر السائد.
الأخلاقيات في الاختبارات
حتى سنوات قليلة مضت، كانت الإجابة عن التساؤلات الأخلاقية سهلة وواضحة. وفي مجال الطب كانت كل الأخلاقيات تقتصر على قَسَم “أبوقراط” الذي كان الأطباء يؤدونه عند تخرجهم في الجامعات حتى السنوات الأخيرة. ولكن تطور العلوم الطبية وأساليب العلاج ووسائل البحث العلمي جرّد كل هذه الأخلاقيات من قيمتها وأدخلَنا في رمال متحركة من السهل الغوص فيها. فنحن الآن بين طرفين متناقضين: الطرف الأول هو البحث العلمي الذي أدى إلى اختفاء العديد من الأمراض وساعد، بإذن الله، في إطالة متوسط عمر الإنسان إلى 80 سنة. والطرف الآخر هو ما تثيره بعض هذه الأبحاث من تساؤلات حول مطابقتها للأخلاقيات الواجبة (Deontological Ethics) التي وضعت قبل معرفة هذه الأساليب.
ومن الخطوات الأساسية التي لا بد أن تمر منها أغلب الأبحاث، إجراء تجارب على البشر. وكانت هذه التجارب – وما زالت عندنا – متروكة لتقدير الباحث. وأدى هذا إلى كوارث أخلاقية، كانت أضخمها ما ارتكبه الأطباء الألمان في عهد النازية. وهو ما كشفت عنه محاكمات نورمبرج وكان منها أيضاً ما لا نعلمه مما تم أغلب الظن أيام حكم ستالين في روسيا.
ولكن الكوارث والتعديات الأخلاقية كانت وما زالت في كل مكان. ولعل أوضحها ما حدث في الولايات المتحدة فيما يطلق عليه اسم “تجربة تاسكيجي” Tuskegee. فلقد رغبت إدارة الخدمات الطبية U.S. Public Health Service بدراسة تطور مرض الزهري في حال منع العلاج بهدف اكتشاف ما إذا كانت مضاعفات المرض في الجهاز العصبي أكثر أو أقل منها في الشرايين. وقامت الإدارة بتكليف معهد تاسكيجني في ألاباما للقيام بهذه المهمة. فقام المعهد بجمع 412 مريضاً أسود من فقراء المزارعين من عام 1932م إلى 1972م – أي على مدى 40 عاماً – وقام بإجراء الدراسات عليهم. لم يخبر المعهد المرضى بمرضهم، ولم يشرح لهم إمكانية انتقاله بالعلاقات الجنسية، ومنع عنهم أي علاج (حتى بعد اكتشاف كفاءة البنسلين في عام 1940م). ومات عدد كبير من المجموعات بمضاعفات الزهري واستمرت التجربة حتى عام 1972م عندما كشفتها مجلة Washington Star. ولعل هذا المثل يوضح لنا الفشل الأساسي لنظرية الأخلاقيات النافعة Teleological Ethics.
عقب محاكمات نورمبرج، عُقد مؤتمر في هلسنكي حدد شروط إجراء التجارب على البشر في اتفاقية تقول بوجوب ما يأتي:
أولاً:
لا بد من الحصول من الشخص الذي ستجري عليه التجربة على موافقة واعية بالتجربة ومداها وأخطارها الممكنة.. الخ. وطبعاً لا بد من أن يكون الشخص عاقلاً بالغاً، حر الإرادة، وألا يكون من مرضى الطبيب الذي سيجري التجربة.
ثانياً:
في الأحوال الخطرة يمنع استبدال دواء معروف المفعول بآخر غير معروف المفعول، إلا بموافقة لجنة عليا تقدر أهمية الدراسة وتوقف التجربة بمجرد الحصول على نتائج.
ثالثاً:
تنشأ في كل مؤسسة طبية لجنة أخلاقية تقدر أهمية الأبحاث وإمكانية الضرر.
هذه هي الخطوط العريضة للاتفاقية. وبالطبع فإن هناك أمثلة واضحة لإمكانية تعطيلها للبحث العلمي. ولكن – بشكل عام – فإن تأثيرها إيجابي، إذ تساعد على توجيه البحوث في الاتجاه العلمي السليم. كما أضيف أن هناك بروتوكولات أخلاقية في أغلب البلدان المتحضرة تنظم إجراء التجارب حتى على الحيوانات.
الأخلاقيات ونقل الأعضاء
يمتد تاريخ نقل الأعضاء إلى الفراعنة والرومان الذين استعملوا نقل الدم في العلاج. ولكن القفزة الضخمة في انتشار نقل الدم حدثت بعد اكتشاف كارل لاندشتاينر عام 1900م لفصائل الدم المختلفة. وقد نتج عن هذا الاكتشاف انتشار نقل الدم انتشاراً واسعاً وأصبحت هذه العملية تتم عشرات المرات كل يوم في كل مستشفى عام، وأصبحت بعض مكوناته تستعمل بعد فصلها في علاج العديد من الأمراض.
ثم جاء التقدم السريع في علم تصنيف الأنسجة (HLA Typing) وفي صناعة الكيماويات المضادة للمناعة (Immunosuppressive) التي توقف رفض الأنسجة المنقولة، وفي تقدم الأساليب الجراحية. وأدى كل هذا إلى زيادة ضخمة في عمليات نقل الأعضاء. وأصبح من الممكن نقل أعضاء عديدة من السليم إلى المريض أو من جثة إلى مريض وأُنقذ بذلك مئات الألوف من الناس الذين يعيشون اليوم بكلى وأكباد وقلوب ونخاع ورئات وبنكرياس منقولة من أشخاص آخرين.
وتنقل الأعضاء من ثلاثة مصادر: إما من متبرع، أو من جثة ميت أو من حيوان. وبالطبع فإن الحصول على عضو من متبرع محصور في أعضاء معينة مثل الكلى، إذ يمكن للمتبرع أن يعيش بكلية واحدة، أو مثل الدم والنخاع. أما القلب والبنكرياس وغيرهما فلا يمكن لشخص حي أن يتبرع بهما. أما استعمال الحيوانات كمصدر للأنسجة المنقولة فله عيوبه الكثيرة ولا يزال محدوداً جداً. وهكذا فإن المصدر الأساس لأغلب الأعضاء هو جثث الموتى. وهنا يأتي الخلاف في الرأي، ولا بد من إيضاح سبب الخلاف.
يقول التعريف العلمي للوفاة بأنها وفاة “جذع المخ” وهو العضو الذي لا يمكن إعادة الحياة إليه، وهو العضو المسؤول عن كل وظائف الجسم. وتوقف القلب عن العمل ليس دليلاً على الوفاة: فعمليات القلب المفتوح تتطلب توقف القلب عن العمل لفترات طويلة، وكذلك الأمر مع التنفس. وهو أيضاً العضو الذي لا يمكن إطلاقاً عودة الحياة إليه بعد موته. فبعد الوفاة تتحلل باقي أنسجة الجسم تدريجياً فإذا انتزع العضو بعد الوفاة وقبل التحلل، يصبح من الممكن استعماله لإنقاذ حياة مريض.
وهنا نواجه مشكلة هي تعريف الوفاة وهي قضية تبدو ضخمة عندنا، لكنها محلولة علمياً في جميع أنحاء العالم تقريباً. وقد سبق أن أوضحنا أن الوفاة هي وفاة جذع المخ ولكن لبعض الناس آراء أخرى. ومنهم من يطالب بوفاة كل خلية في الجسد قبل الاعتراف بالوفاة، وهو أمر لو صحّ لاتهمنا بأننا ندفن موتانا قبل وفاتهم.
الأخلاقيات والتلقيح الصناعي
كانت الأمور بسيطة في ما مضى: يتزوج الرجل والمرأة، فتحمل المرأة، وكانت الأخلاقيات واضحة. أما الآن فقد تعقدت الأمور وتشابكت. أصبح من الممكن تنظيم النسل، بل لقد أصبحت هذه حاجة اجتماعية، لكن ما زال بعض الناس يصرّون على أن أي تحكم بالنسل بأي صورة هو جريمة أخلاقية. ثم بدأت عمليات التلقيح الصناعي في حالات العقم: تلقيح صناعي من الزوج – تلقيح صناعي من متبرع – تلقيح صناعي في طبق – تلقيح صناعي بالمجهر – تلقيح صناعي مع استئجار رحم، إضافة إلى الاستنساخ.. وكل هذه العمليات أو بعضها يقابل بالرفض من هيئة أو من أخرى. فمن المسائل الجانبية المهمة التي نتجت عن هذه العمليات أن يقوم بعض الأزواج مثلاً بتخزين البويضات الملقحة التي بدأت تنمو في درجة حرارة منخفضة جداً، حيث يمكن بقاؤها حية إلى سنين طويلة جداً. ماذا نصنع بهذا “الجنين المستقبلي” إذا حدث شيء كوفاة الأب والأم مثلاً، أو لو امتنع الأبوان عن دفع رسوم الحفظ المكلفة؟ هل نوقف التبريد؟ ألا يعد هذا قتلاً لجنين؟ هل يمكن بيع الجنين لأسرة أخرى؟
آداب المهنة نظرياً.. وتطبيقياً
إصدار القوانين من جانب الحكومات لضبط عمليات زرع الأعضاء لا يمكنه أن يكون كافياً لتلافي الآثار الجانبية والممارسات غير الأخلاقية. فعلى سبيل المثال إن اللجوء إلى نقل الكلى من شخص حي لعلاج مصاب بفشل “لإنقاذ حياته” كما يقال، يبقى أمراً قابلاً للشك على مستوى نيَّاته الحسنة. فعملية زراعة الكلى لا تنقذ المريض، لأنه يعالج بالفعل بالغسيل الكلوي. كما أن نسبة المضاعفات الناجمة عن زراعة الكلى ربما تفوق ما ينتج عن الغسل، فضلاً عن أن الضوابط والمحاذير التي وضعت للحيلولة دون اللجوء إلى أساليب ملتوية للوصول إلى هدف إجراء العملية، يشوبها الكثير من القصور.
يمكن حالياً لأي مريض بالفشل الكلوي أن يحصل على متبرع ليس له أية صلة قرابة به، وذلك من خلال شهادة من الطبيب المعالج تفيد بأنه مريض بمرض وراثي ولا يصلح له متبرع من العائلة، وعلى المتبرع الذي حصل عليه بالمال أن يكتب إقراراً بأنه متبرع بكليته لفلان دون مقابل.
وفي أحيان كثيرة يُساء اختيار المتبرع عن قصد أو عن غير قصد لسرعة الحصول على العضو. وهذا ينتج عنه فشل العملية للمتلقي حالياً أو مستقبلاً، كأن يحدث فشل كلوي بعد فترة للمتبرع الذي كان يجهل حقيقة ما به قبل التبرع. وهذه سقطة أخلاقية أخرى.
أما السقوط إلى القاع فقد حدث منذ فترة قصيرة في إحدى ورش العمل، حيث ناقشت زراعة الكلى في مرضى الكبد المصابين بفيروس “سي”. وقد وجدتُ إصراراً عجيباً من الأطباء على القيام بزراعة الكلى في هؤلاء المرضى رغم الأضرار التي يمكن أن تصيبهم من جرّاء هذا العمل استناداً إلى بعض الأبحاث. بل وصل التمادي إلى أقصاه عندما أصرّ الأطباء على أخذ الكلية من متبرع مصاب بفيروس الكبد “سي” لمريض بالفشل الكلوي خال من الفيروسات، وهذا يعني حتمية نقل العدوى للمريض..!؟
سيطرة رجال الأعمال على الطب
إن الحصول على ترخيص يبيح الحصول على أعضاء المرضى الميؤوس من شفائهم والذي يطلق عليهم مرضى موت جذع المخ عملاً بقانون البقاء للأصلح ينقلنا آلاف السنين إلى الوراء، عندما كانت شريعة الغاب هي السائدة. فلماذا الإصرار على العودة إلى الوراء وتطبيق قانون الغاب في التعامل مع الإنسان؟
لقد أوصى الملتقى الأول لممارسات أخلاقيات مهنة الطب في الألف الثالث، الذي عقد بكلية طب قصر العيني بالقاهرة، بضرورة الالتزام بمراجعة أخلاقيات مهنة الطب، ومحاولة الحد من طغيان المادة وسيطرتها على الحياة، وسيطرة رجال الأعمال على مهنة الطب، وتجاوزات الأطباء وتدني مستوى الشباب الخريجين من الأطباء.
وإذا علمنا أن 90% من الإنفاق على الصحة في العالم يستفيد منه 10% فقط، و 90% من السكان لا يجدون ما ينفقونه على الصحة، وأيضاً 20% يستهلكون 80% من المصادر الطبيعية، وأهمها الغذاء، فإن هذا يدلنا على أن المستفيد الأول من الإنفاق على الصحة في العالم هم رجال الأعمال في المجال الطبي. وهناك بحوث كثيرة ناقشت قضية نقل الأعضاء وحقوق المتلقي والمتبرع وحق الحي والميت وهناك فتاوى شرعية أجازت استقطاع جزء من المتوفى لتحقيق أغراض علاجية لإنسان حي، حين تكون هناك ضرورة طبية وخطورة على حياة الشخص المتلقي أو نفع كبير. وقد أُجريت الآلاف من العمليات في نقل القرنية من موتى إلى أحياء وكذلك نقل الجلد والعظام كما كان في السنوات الماضية بعد أن أصبح من السهل إنشاء بنوك للعيون وللعظام وللجلد لأن هذه الأنسجة يمكن أن تعيش لفترة خارج الجسم ويمكن استئصالها بعد ساعات من الوفاة. لكن يبقى حق المتوفى في عدم استئصال هذه الأجزاء إلا بموافقة مسبقة منه أو من وليه، وهنا ينشأ تساؤل حول إمكانية استئصال أجزاء من الجسم بعد الوفاة، فنحن في حاجة إلى التعامل مع هذه المسائل في شكل يحافظ على حقوق المريض المتلقي والمتبرع الحي وجسد الميت وممارسة الطبيب ومسؤولية المستشفيات وكافة الحقوق الإنسانية والشرعية.
ختاماً نشير إلى أننا لم نكن في هذه المقالة بصدد نقد فكر آخر وقيمه الأخلاقية، بل كان هدفنا لفت النظر إلى مسائل بالغة الأهمية بدأت تفرض ذاتها بإلحاح على المجتمعات الغربية. كما أننا نشير استطراداً إلى أن المسألة الأخلاقية في الطب تأخذ عندنا اتجاهاً مختلفاً. فالدين يفرض علينا حماية من لا عقل له، ويحرّم الانتحار، وفي اعتقادنا إننا مسؤولون عن أجسامنا وحمايتها، لكننا لا نملكها.. وإن يئسنا من العلاج فلا نيأس من الشفاء.