قول آخر

بين الكناية والتهكم مثلاً

يقول الثعالبي إن من أهداف الكناية الإيجاز، وأرى أن الكناية في الموروث الشعبي أكثر شيوعاً مما هي في الفصيح، بسبب ميل العاميّة إلى السرعة تماشياً مع متطلبات الحياة وانعكاساً لسرعة إيقاعها، خلافاً لاشتراطات الفصحى التي تتطلب التأني -النسبي- في اختيار اللفظ والدقة في مراعاة الضوابط اللغوية وتفادي الوقوع في اللحن.

كل هذا يجعل من شيوع الكناية العاميّة أمراً سائغاً ومقبولاً. وتختلف الكنايات العامية باختلاف اللهجات، ومن نماذجها في بلاد الشام: 1 – وجهه مثل الليمونة (خائف)، 2 – إذني طنت (أحد ما خاض بسيرته)، 3 – عيني ترفّ (توقع خبر سيء)، 4 – عيونه زاجّات (غضب)، 5 – عظامي تصلّ (التعِب)، 6 – إلبس الباب (أخرج)، 7 – عينه فضية (الكريم).

أما التهكمات الشعبية والتي تدخل هي الأخرى فيما يسمَّى التراث اللامادي، فهي عبارات أو مفردات ساخرة يراد بها غير معناها المباشر، والتهكم في اللغة: الاستهزاء، وهي تتماهى مع النكتة. لكنها تختلف عنها وظيفياً. فالتهكمة غالباً ما تكون كالنكتة مثيرة للضحك، والتهكمة كناية ساخرة، ومن نماذجها: 1 – بايع ومخلّص (مستهتر)، 2 – مأجّر (مجنون)، 3 – بيه خويطات (عقله ضعيف)، 4 – طالعة عينه (وقح)، 5 – قرط رأسه (الموت).

وقد تكون التهكمة مفردة واحدة مثل: يجرخ، يجلد، يصلح، يسرد أي (يكذب)، وقد تكون بواسطة الإشارات الحركية، مثل: قلب الشفة، رفع الحاجبين، الغمز واللغمز،… وسواها.

ومن التهكمات عبارات: النهي، والتأنيب، والشماتة، مثل قول عبارات: (تستاهل – خليك) لمن يؤذي نفسه، ومنها استعمال عبارات زجر حيوانات مثل: الزرد للحمار، العيمة للغنم، الفشة للماعز، الدود للكلاب، وسواها.

وهناك من يخلط بين جملة هذه المفاهيم ولا يفرِّق بين النكات والتهكمات، وربما طال هذا الخلط الأمثال أيضاً. فهناك من يعدّ التهكمات والكنايات من الأمثال، وهذا خطأ واضح يرتكبه بعض الكتَّاب فضلاً عن العامة. ونرى أن أسباب كل هذا الخلط تعود إلى غياب الدراسات الجادّة التي تتناول التراث اللامادي الذي هو ثقافة الشعب ومعارفه المتداولة شفهياً، وترفُّع النقاد عن تناول الأدب الشعبي بجوانبه المختلفة والنظر إليه على أنه ثقافة مبتذلة وهامشية، وبالتالي ترك هذا التراث عرضة لموجات الاختراق الثقافي لمنظومات الثقافة الوطنية. وهذا حدا بمنظمة (اليونسكو) إلى إقرار الاتفاقية الدولية لصون التراث اللامادي عام 2003م ومطالبة الدول الأعضاء في الاتفاقية بجمع وتوثيق ودراسة التراث الشعبي بجانبيه المادي واللامادي.

ويرى كثيرون أن معظم الجهود العربية في صون التراث تتخبط بين سوء الفهم، وتخلّف الأسلوب، وبين هذا وذاك، أسلوب بعض المهرجانات الاحتفالية التي ينتهي مفعولها بانتهاء فعالياتها، فضلاً عن الندوات الخطابية الهشة التي غالباً ما تقتصر على التوصيف والوعظ.

ومع ذلك، فلا يجب أن نجحف الاتجاهات الجادّة التي عمدت إلى التأسيس لمناهج عمل ومشاريع وخطط مستدامة لتوثيق وصون التراث اللامادي المهدَّد بالانقراض. ومنها جهود بعض البلدان في لحظ المفاهيم التراثية في المقررات الجامعية والمناهج التربوية وإصدار المجلات المتخصصة، وتشكيل اللجان الوطنية والفرق المدرَّبة لجمع هذا المخزون المهم من ثقافة الشعب.

أضف تعليق

التعليقات