بيئة وعلوم

بنوك البذور
حصون تحمي كنوز الحياة

  • The entrance of the Svalbard Global Seed Vault
  • Vavilov Plant Institute in St. Petersburg
  • Andes
  • Seed Bank
  • thanksgivingcorn-graphicsfairy009
  • Person Planting Seeds
  • Dish of White Rice

كان العام الماضي 2010 سنة دولية للتنوع البيولوجي حسبما أعلنت الأمم المتحدة التي دعت العالم إلى حماية تنوع الكائنات الحية على الأرض، الذي أصبح مهدداً بفعل مخاطر الانقراض التي تهدد بعض مكوناته.
وبعيداً عما حمله العام الماضي من دراسات ونتائج أبحاث وإنذارات حظيت في وقتها بالتغطية الإعلامية اللازمة، عماد حسن يأخذنا اليوم إلى زاوية شبه مجهولة من زوايا قضية التنوع البيولوجي «بنوك البذور»، حيث تودع أهم أرصدة الحياة، وتحفظ إلى وقت الحاجة.

يقول موقع السنة الدولية للتنوع البيولوجي مرحِّباً بزواره: «مرحباً بك في السنة الدولية للتنوع البيولوجي. أنت جزء لا يتجزأ من الطبيعة؛ إن مصيرك بيد الله، ويرتبط بشدة بالتنوع البيولوجي.. التنوع العظيم للحيوانات والنباتات الأخرى والأماكن التي تعيش فيها والبيئات التي تحيط بهم في شتى أرجاء العالم. إنك تعتمد على هذا التنوع للحياة لأنه يُمدُّك بالغذاء والدواء والأساسيات الأخرى التي، ببساطة، لا يمكنك العيش دونها. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا التنوع الغني يتعرض للفقدان بمعدل متسارع على نحو خطر بسبب أوجه النشاط البشرية. وهذا بدوره يؤدي إلى فقرنا جميعاً، ويُضعف قدرة الأنظمة الحية التي نعتمد عليها، على مقاومة التهديدات الخطرة…».

التنوع الحيوي أو البيولوجي
ومستوياته المختلفة
التنوع الحيوى مصطلح جمعي يُطلق على تنوع الحياة على الأرض والأنماط الطبيعية التي تُشَكِّلها. وهذا التنوع الذي نراه في يومنا هذا ما هو إلا ثمرة ملايين السنين من التطور، والذي تشكل نتيجة العوامل الطبيعية، والتأثير الحاصل بفعل البشر. إنه يُشكل شبكة من الحياة التي نمثل نحن جزءاً منها ونعتمد بصورة كاملة عليها. ويشمل التنوع الحيوي مجمل أنواع الكائنات الحية على الأرض. ويتم توصيف التنوع الحيوى عادة على ثلاثة مستويات تشمل الأنواع والجينات والنظم البيئية.

غالباً ما يُفهم مصطلح التنوع من منطلق التنوع الواسع للنباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة (الميكروبات). وحتى وقتنا هذا، تم التعرف على حوالي 1.75 مليون نوع، أغلبها من المخلوقات صغيرة الحجم مثل الحشرات. ويُقَدِّر العلماء أن هناك عملياً ما يقرب من 13 مليون نوع، في حين أن بعض التقديرات الأخرى تتراوح بين 3 و100 مليون.

ويتضمن التنوع البيولوجي أيضاً الاختلافات الجينية داخل كل نوع. فالكروموسومات، والجينات، والحمض النووي، وهي اللبنات الأساسية للحياة، تُحدد تفرُّد كل كائن حي على حدة.

ويبقى مظهر آخر من مظاهر التنوع البيولوجي، ألا وهو تنوع الأنظمة البيئية مثل تلك الموجودة في الصحارى والغابات والأراضي الرطبة والجبال والبحيرات والأنهار و المسطحات الزراعية. وفي كل نظام بيئي، تُكَوِّن المخلوقات الحية، بما فيها البشر، مجتمعاً يخصها، تتفاعل فيما بينها كما تتفاعل مع ما يحيط بها من الهواء والماء والتربة.

وفى الحقيقة، يُعد فقدان التنوع الحيوي للأنواع النباتية والحيوانية أحد المخاوف البيئية الرئيسة، لتعلقه بعدد كبير من السلع والخدمات. فقد كنا نطور على مدار آلاف السنين مجموعة كبيرة من النباتات والحيوانات الداجنة المهمة في التغذية. لكن هذا البيت المليء بالكنوز بدأ يتضاءل نظراً لأن الزراعة التجارية الحديثة تهتم بصورة متنامية بمجموعة قليلة نسبياً من المحاصيل. كما أن حوالي 30 في المئة من سلالات الأنواع الأساسية لحيوانات المزرعة تتعرض حالياً لخطر الانقراض المحدق بصورة كبيرة، طبقاً لما جاء فى موقع السنة الدولية للتنوع البيولوجى.

إن الزراعة تعتمد على عدد محدود من المحاصيل لاتتجاوز المائة والخمسين محصولاً التي تزرع على مساحات كبيرة على مستوى العالم. ولكن، كما هو معروف، فإن هذه المحاصيل تأتي في مجموعة واسعة من أشكال مختلفة من حيث ارتفاع النبات، ولون الأزهار، ونمط التفرع، وموسم الإثمار، وحجم البذور، والنكهة. وهناك أيضاً اختلافات في بعض الخصائص الأقل وضوحاً
مثل استجابتها للحرارة وللبرودة أو الجفاف، أو قدرتها على تحمل آفات وأمراض معينة، وهذا ما يطلق عليه «التنوع الوراثي».

ويعود التنوع في المحاصيل إلى ظروف النمو المختلفة. فالمحاصيل المزروعة في التربة الفقيرة عادة ما تكون أقصر من المحاصيل المزروعة فى التربة الخصبة.

ويمكن أن يعود التنوع أيضاً إلى الاختلافات الوراثية. فبعض المحاصيل قد تحمل الجينات التي تمنحها النضج المبكر أو مقاومة المرض. وهذه الصفات الموروثة تحظى باهتمام خاص حيث يتم نقلها من جيل إلى جيل، وبالتالي تحدد الخصائص الكلية للمحصول والمحتملة في المستقبل. فمن خلال الجمع بين جينات الصفات المختلفة، يتمكن المزارع من تطوير أصناف جديدة من المحاصيل لتلبية حاجات معينة. فالصنف الجديد، على سبيل المثال، قد يكون ذا إنتاج أعلى، وأكثر مقاومة للأمراض وله عمر أطول حين العرض للبيع من الأصناف التي تولد منها.

وبهذا، فإن تنوع المحاصيل هو الأصل، والقاعدة لكل أنواع الزراعات التي جربها الإنسان على هذه الأرض منذ بداية الزراعة. وعلى المزارعين والعلماء اليوم الاستمرار في الحفاظ على هذا المورد الذي لا يمكن الاستغناء عنه.

قمة الأرض ….الاتفاق التاريخي
بدأ الاهتمام الفعلي العالمي والالتفات إلى أهمية الحفاظ على التنوع البيولوجي وتوثيقه دولياً منذ أن انعقد في عام 1992م أكبر اجتماع دائم لقادة العالم في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية في «ريودي جانيرو» بالبرازيل. حيث تم التوقيع على مجموعة من الاتفاقات التاريخية في «قمة الأرض»، والتي تضمنَّت اتفاقيتين مُلزمتين: اتفاقية «تغير المناخ» المعروفة، واتفاقية «التنوع البيولوجي»، وهي أول اتفاقية عالمية معنية بالمحافظة على التنوع الحيوي والاستفادة الدائمة منه. وحظيت هذه الاتفاقية بموافقة عاجلة وسريعة الانتشار. حيث قامت أكثر من 150 حكومة بالتوقيع على وثيقة مؤتمر ريو، ومنذ ذلك الوقت صدقت على الاتفاقية أكثر من 187 دولة.

تجدر الإشارة إلى أن الاتفاقية تحمل في طياتها ثلاثة أهداف رئيسة:
أولها المحافظة على التنوع البيولوجي. ثم الاستخدام أو الاستفادة المستدامة لمكونات التنوع البيولوجي. أما الهدف الثالث فهو المشاركة في المنافع التي تنشأ عن الانتفاع التجاري وأي انتفاع آخر للموارد الجينية بطريقة عادلة ومنصفة.

الاتفاقية شاملة في أهدافها، كما أنها تتعامل مع قضية حيوية للغاية في مستقبل البشرية، وذلك بكونها تقف صامدة كأحد المعالم الرئيسة في القانون الدولي. كما أنها تدرك -من الوهلة الأولى- أن المحافظة على التنوع البيولوجي هو «شأن مشترك للجنس البشري» وأنه جزء متكامل من عملية التنمية. هذا إضافة إلى أنها تغطي كل الأنظمة البيئية والأنواع والموارد الجينية. وتربط المجهودات التقليدية للمحافظة على التنوع البيولوجي بالهدف الاقتصادي لاستعمال الموارد البيولوجية بصورة مستدامة.

أربعة أنواع فقط
تلبي 60 في المئة من الحاجة
ازدادت الموارد الوراثية النباتية في العالم عما كان عليه الحال عندما لاحظ الإنسان البدائي الذي عاش من الصيد وجمع الثمار منذ نحوٍ من 12 ألف سنة، أن بإمكانه أن يحفظ البذور من فصل إلى آخر ليزرعها ثانية. فقد تعلَّم المزارعون كيف يحفظون بذور المحاصيل التي اعتبروا أنها أيسر تجهيزاً وحفظاً، أو تلك التي فهموا أنها الأرجح حظاً في البقاء عبر المواسم، أو تلك التي طاب لهم طعمها ببساطة. و نتيجة لذلك، يزيد عدد أنواع النباتات التي يزرعها الإنسان أو يجمعها غذاءً له، على السبعة آلاف نوع. وكثير من هذه الأنواع يحتفظ بأهميته في المجتمعات المحلية.

ويقدر أن 30 محصولاً غذائياً يوفِّر للإنسان اليوم 95 في المئة من حاجاته من الطاقة الغذائية، وأن أربعة منها فقط، هي الأرز والقمح والذرة والبطاطس، توفر أكثر من 60 في المئة من هذه الاحتياجات. ونظراً لأهمية هذا العدد الصغير نسبياً من المحاصيل للأمن الغذائي العالمي، أصبح صون التنوع ضمن كل من المحاصيل الرئيسة ذا أهمية محورية عملية. وبينما يُعد عدد أنواع النباتات التي توفر معظم الطاقة والبروتين في العالم صغيراً نسبياً، فإن التنوع ضمن كل من هذه الأنواع كثيراً ما يكون على درجة كبرى من الغزارة. من ذلك مثلاً أن عدد الأصناف المختلفة من نوع الأرز يزيد،على 100,000 صنف. وتزرع المجتمعات المحلية في جبال الأنديز أكثر من 175 صنفاً من أصناف البطاطس التي تحمل أسماءً محلية. وهذا التنوع ضمن كل نوع هو الذي يمكـّن من زراعة المحاصيل في مناطق العالم المختلفة، وفي ظروف متباينة من حيث نوعية التربة والظروف الجوية المحيطة.

كما يمكن للتنوع الوراثي النباتي أن يوفِّر سمات عالية القيمة لازمة لتحديات المستقبل، مثل تكيف المحاصيل لتتعايش مع الظروف المناخية المتغيرة أو لتحمل تفشي الأمراض. وهناك صنف من القمح التركي الذي جمع وحفظ مخزوناً عام 1948م وأهمل حتى الثمانينيات من القرن العشرين عندما اكتـُشف أنه يحمل جينات تقاوم كثيراً من الفطريات المسببة للأمراض. ويستخدم المزارعون اليوم هذه الجينات لتهجين أصناف من القمح تقاوم مجموعة من الأمراض. ويمكن للنباتات البرية القريبة من محاصيلنا الزراعية -والتي كثيراً ما توجد على هامش الأراضي الزراعية- أن تتضمن جينات تجعلها قادرة على البقاء تحت ظروف جوية متغيرة. ويمكن أن تضيف هذه الخصائص سمات مهمة لأقاربها المزروعة، من قبيل القدرة على التحمل أو مقاومة الصقيع.

الاستنزاف الوراثي..
حلول الجديد محل القديم
ولكن التنوع الوراثي النباتي مهدد بما يسمى «الاستنزاف الوراثي»، وهو مصطلح وضعه العلماء للتعبير عن فقدان المورثات الفردية وكذلك مجموعات المورثات. ويكمن السبب الرئيس في الاستنزاف الوراثي، في الاستعاضة عن الأصناف القديمة في حقول المزارعين بأصناف جديدة، لأن المورثات الموجودة في الأصناف القديمة ليست موجودة جميعها في الأصناف الحديثة. إضافة لذلك، كثيراً ما تحدّ الأصناف التجارية عندما تدخل في النظم الزراعية التقليدية من العدد الكبير للأصناف التي كانت شائعة الاستخدام. ومن الأسباب الأخرى للاستنزاف الوراثي ظهور آفات أو أعشاب طفيلية أو أمراض جديدة، وتدهور البيئة، والتصحر، وإزالة الأشجار إما من خلال عمليات إزالة الغابات أو من جراء الحرائق.

وقد تركَّزت الطرق التقليدية لمكافحة الاستنزاف الوراثي على صون البذور في بنوك للمورثات تختص بالمحاصيل (خارج مواقعها الطبيعية). أما اليوم، فقد اتضح أن الاستراتيجية الأفضل تجمع بين الصون خارج المواقع الطبيعية والصون على الأرض (في المواقع الطبيعية) من خلال ما يقوم به المزارعون في إطار نظمهم البيئية الزراعية، أو في المناطق المحمية من خلال الأقارب البرية للمحاصيل، وذلك للأثر البيئي الإيجابي لهذه الطريقة.

وبينما تمثل هذه الطرق في حفظ التنوع الوراثي النباتي أهمية حيوية، فإن الاستخدام المستدام للموارد الوراثية النباتية له أهمية مماثلة. فالتنوع الوراثي النباتي يزيد من الخيارات المتاحة ويوفِّر التأمين ضد سوء الأحوال في المستقبل. لكن استغلال هذه الإمكانات يتطلب القدرة على تحسين الأصناف من خلال تهجين النبات، وكذلك إقامة شراكات وشبكات تشمل جميع أصحاب المصلحة، من المُزارع إلى الباحث إلى مدير بنك المورثات. ويجمع دول العالم اليوم جهد مشترك لهذه الغاية النبيلة بدأ منذ عام 1983م.

بنوك الجينات النباتية
في عام 1983م، أنشئت «هيئة الموارد الوراثية للأغذية والزراعة» كمنتدى يتناول تحديداً المسائل المتعلقة بالموارد الوراثية النباتية. وساعدت هذه الهيئة على تنسيق سلسلة من المبادرات الدولية الشديدة الأهمية، نبهت المجتمع الدولي إلى تسارع الاستنزاف الوراثي، كما قادت جهود الصون المنسقة على مستوى السياسات. وقد وضعت الهيئة في وقت مبكر مواصفات بنك الجينات ومدوَّنة السلوك الدولية بشأن جمع المادة الوراثية النباتية ونقلها.

ومن اللافت للنظر أن مستوى الاستجابة والقبول والتفاعل في ازدياد. فقد زاد إجمالي عدد المدخلات في المجموعات المخزونة في البنوك الوراثية حول العالم بنسبة 20 في المئة تقريباً منذ 1996م، ووصل إلى 7.4 مليون مدخل. ويقدر أن حوالي 25 – 30 في المئة فقط من هذه المدخلات هي مدخلات فريدة، أما الباقي فهي مدخلات مضاعفة. ومنذ عام 1996م، جُمعت 240,000 مادة نباتية جديدة على الأقل، وأضيفت إلى البنوك الوراثية خارج الموطن الطبيعي. ازداد عدد البنوك الوراثية وحجمها على حد سواء. واليوم ثمة قرابة 1750 بنكاً وراثياً منتشراً حول العالم، منها حوالي 130 بنكاً يحتفظ كل منها بأكثر من 10,000 مدخل. وازداد عدد الحدائق النباتية من قرابة 1500 حديقة إلى ما يربو على 2500، حيث تُعد هذه الحدائق مستودعات مهمة للأنواع البرية قريبة النسب للمحاصيل.

حصون تحمي تنوع الحياة
يُعد «نيوكلاي فافلوف» العالِم الروسى الشهير، الرجل الذي كان وراء تأسيس أول بنك للبذور كحافظ لتنوع المحاصيل، وبهدف تهجين النباتات، وذلك فى عام 1926م في «سانت بطرسبرغ» في روسيا، في المعهد الذي يسمى الآن باسمه. وقد كان لفافلوف دور كبير فى إثراء ووضع الأسس لحفظ الأصول الوراثية النباتية فى رحلاته العديدة إلى مختلف بقاع العالم وكتابه «مراكز النشوء للنباتات المزروعة»، يحمل الكثير من رؤاه وأفكاره. إذ قام بأربع وستين رحلة، جمع فيها ما يقارب ستين ألف عينة نباتية، وجمع فريقه العامل معه فى المعهد ما يقارب مائتين وخمسين ألف عينة نباتية، وهو بحق، ضمن آخرين، ممن أسسوا لعلم الانتخاب للأصناف أو التهجين، وبنوا على المعارف المتوافرة فى ذلك الحين والتي أسسها عالم الوراثة «مانديل».

وكما ذكرنا سابقاً فإن عدد البنوك الوراثية المنتشرة حول العالم يبلغ ما يقارب 1750 بنكاً، وبالرغم من أن الاسم الشائع هو بنوك البذور لأن تخزين البذور هي الطريقة المفضلة لحفظ الأصول الوراثية لحوالي 90 في المئة من ستة ملايين صنف نباتي «خارج مواقعها الطبيعية»، إلا أنه يتم استخدام مصطلح «بنوك الموارد الوراثية» و«بنوك الجينات» إذا ماتم استخدام أي جزء نباتي آخر للحفظ.

ونظراً للتطورات الجديدة، بعد سريان اتفاقية التنوع البيولوجي في عام 1992م، والمعاهدة الدولية بشأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة في عام 2004م، وما أحدثته من تغيير في مفهوم ملكية الأصول الوراثية وتقاسم المنافع في العالم، فإن البنوك الوراثية أصبحت مهمة وطنية لمعظم البلدان، وحقاً سيادياً. حيث تنص هذه الاتفاقات على مبادئ توجيهية جديدة لاقتناء التنوع البيولوجي وحفظه واستخدامه، وأصبح جمع المادة الوراثية أمراً يجب أن يكون مصحوباً بالموافقة العلمية، واكتساب المادة الوراثية خاضعاً للشروط المتفق عليها تبادلياً، والمتعددة الأطراف أو اتفاقات النقل الثنائية.

لا شك في أن هذه التطورات استدعت إعادة النظر في إجراءات بنوك الجينات، وأثرت في طريقة القيام بعملها الذي عادة ما يكون القصد الرئيس من إنشائه هو حفظ الموارد الوراثية بهدف حفظ السلالات الزراعية التي يتهددها الضياع، وحفظ الأصول الوراثية للأنواع البرية من خلال المورثات النباتية في البذور، وحبوب اللقاح، والأنسجة الحية كالبراعم النامية القمية والطرفية. وتكون الأهداف الرئيسة للبنك هي: جمع الأصول الوراثية للأنواع البرية والسلالات الاقتصادية، مع الاهتمام بالأقارب البرية لنباتات المحاصيل والأعلاف.وحفظ بعض الأصول الوراثية في المدى الزمني القريب سواء فى المعمل أو في حقول البنك أو في بيئاتها الطبيعية. وكذلك حفظ الأصول الوراثية على المدى الزمني البعيد (تخزين)، مثل الحفظ في بنك البذور، أو مزارع الأنسجة، أو تخزين الأجنة والجاميطات (التخزين بالتبريد أو في الغازات الخاملة الخاصة).

ومن أهداف البنك أيضاً: وضع الخطط البحثية الخاصة بحفظ الأصول الوراثية باستخدام الطرق العلمية لحفظ هذه الأصول وتوفير المواد الوراثية والمعلومات اللازمة لبرامج التربية المختلفة، وتبادل المعلومات الخاصة بالمصادر الوراثية مع بنوك الجينات المحلية والأجنبية والمنظمات ذوات العلاقة الخاصة بالأصول الوراثية.

وتعمل هذه البنوك ضمن معايير دولية معدَّة من قبل هيئة الموارد الوراثية للأغذية والزراعة في منظمة الأغذية والزراعة.

بنوك الأصول الوراثية العالمية
ويوجد أغلبها في مراكز البحوث الزراعية العالمية (IARCS)، التي يختص نشاطها في جمع الأصول الوراثية النباتية للمحاصيل الزراعية من كافة أنحاء العالم، وذلك بالتعاون مع مراكز بنوك الأصول الوراثية النباتية الأخرى في العالم. وقد وضعت أهم بنوك الجينات في العالم بالنسبة لمحاصيل الحبوب والأعلاف فى عام 2006م، تحت إشراف المعاهدة الدولية للموارد الوراثية النباتية في مجالات الأغذية والزراعة، على نحوٍ يضمن للمُزارعين والباحثين في كل مكان الوصول إلى هذه الموارد الوراثية النباتية وفق الشروط القياسية المطبَّقة للاستخدام، والمشارَكة سواسيةً في الفوائد المنبثقة عن استخدامها. وذلك ضمن اتفاقات مع مراكز البحوث الزراعية الدولية تنص على حفظ نحو 600,000 عينة من أهم الموارد الوراثية النباتية لمحاصيل العالم الغذائية والزراعية. ففي المكسيك مثلاً، يحتفظ المركز الدولي لتحسين الذرة والقمح (CIMMYT) بنحو 22000 مدخلة ذرة مخزنةً على حرارة تبلغ – 3 درجات مئوية داخل سراديب صممت خصيصاً لتكفل صلاحية البذور مدة 25 إلى 40 سنة. بالإضافة إلى مراكز متخصصة في كل من الفلبين وسوريا وبيرو.

«قبو يوم القيامة»!
في شهر نيسان-أبريل 2007م كشفت الحكومة النرويجيّة عن التصميم النهائي لما سمته «قبو يوم القيامة» الذي يحوي عيّنات من البذور المجموعة من كلّ أصقاع العالم. ويقع بناء هذا القبو في جزيرة نائية بالقطب الشمالي، تحسباً لكارثة طبيعية أو وباء أو حرب نووية تأتي على المحاصيل الزراعيّة وعلى البذور.

وقد صمم القبو ليكون قادراً على تحمل كوارث كونية مثل حرب نووية أو كارثة طبيعية. وبدأ بناء مشروع «قبو بذور سفالبارد الدولي» في مارس 2007م، وتم افتتاحه في العام 2008م. وهو يتسع لتخزين ثلاثة ملايين عينة من البذور المختلفة. وفي الوقت الذي ستتحمل الحكومة النرويجية فيه تكاليف المشروع، البالغة خمسة ملايين دولار، فإن جمع العينات وصيانتها ستكون مسؤولية «الصندوق العالمي لتنوع المحاصيل»، وهو صندوق عالمي هدفه ضمان «الحفاظ على تنوع المحاصيل إلى الأبد» ويقول «جيوف هوتين» المسؤول عنه: «ما سيدخل إلى القبو هو عينة من الأنواع المحفوظة حالياً في مجموعات في مختلف أنحاء العالم».

ولأن العديد من بنوك البذور هذه موجود في بلدان إما غير مستقرة سياسياً أو تواجه تهديدات بسبب البيئة الطبيعية، يضيف هوتين: «ما نحاول القيام به هو بناء دعم لهذه البنوك. وبالتالي، فإن عينة من كل مادة جينية في هذه البنوك ستوضع في بنك البذور في سفالبارد».

ويبلغ عمق القبو 120 متراً، داخل جبل في جزيرة «سبتسبورجن» التي تشكل إحدى الجزر الأربع المكونة لأرخبيل سفالبارد. ويقول «د. كاري فاولر»، المدير التنفيذي للصندوق العالمي لتنوع المحاصيل، إن الاختيار وقع على منطقة سفالبارد، التي تبعد عن اليابسة ألف كيلومتر شمال النرويج، لأنها نائية ومعزولة جداً وأيضاً لكونها منطقة مستقرة تصلح لمشروع طويل الأمد من هذا النوع. ويضيف فاولر: «لقد دققنا إلى أبعد الحدود في المستقبل. دققنا في مستويات الإشعاع داخل الجبل، ودققنا في البنية الجيولوجية للمنطقة. كما وضعنا نماذج للتغيرات المناخية الحادة المرتقبة خلال المائتي سنة المقبلة، بما في ذلك ذوبان الصفائح الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي، وجرينلاند، حتى نضمن أن هذه المنطقة ستبقى فوق سطح الماء الناتج عن ذلك الذوبان».

عند إيداع البذور في القبو، سيتم تخزين العيِّنات في درجات حرارة دون الـ 18 درجة مئوية تحت الصفر. أما المدة التي تحتفظ بها البذور المجمدة بقدرتها على النمو فيعتمد على نوعها. فبعض المحاصيل مثل البازلاء لا يصمد سوى 20-30 عاماً. وبعضها الآخر، مثل دوار الشمس ومحاصيل الحبوب يمكنه البقاء لعقود، وربما لقرون عديدة. لكن، في نهاية المطاف، ستفقد كل البذور قدرتها على النمو، وتموت. لكن قبل حدوث هذا، سيتم أخذ بضع بذور من العينة المخزنة لتزرع في بيئة مناسبة لتؤخذ بذورها ويعاد تخزينها في القبو. وهكذا يمكن لمجموعات البذور هذه أن تتجدد باستمرار. وهو هدف المشروع. وعندما يبدأ بنك البذور في العمل في سفالبارد، فإن المنشأة سيتم تشغيلها بأدنى تدخل بشري ممكن.

ويقول د. فاولر: «سيذهب أحد الأشخاص إلى الداخل مرة سنوياً ليتأكد من أن كل شيء على ما يرام، لكن لن يكون هناك موظفون دائمون». ويضيف: «إذا صممت منشأة لتستخدم في أسوأ السيناريوهات، فإنه لا يسعك أن تعتمد حينئذ على تدخل بشري مكثف».

النرويجيون ليسوا وحدهم الواعون ذلك. فالأخبار تتوالى كل يوم حول مشاريع ضخمة في هذا المجال في الصين والبرازيل وماليزيا وتركيا للحفاظ على الموارد الوراثية النباتيه الوطنية.

بنك الألفية: مليار بذرة
وفي بريطانيا توصل القائمون على «البنك الغذائي»، وهي مبادرة من الحدائق النباتية الملكية فى كيو، إلى الحصول على البذرة رقم مليون. وقد جمّعت في هذا البنك مختلف أنواع البذور والنباتات والأصول من كلّ أصقاع العالم.

وحقق البنك هدفه الأول في عام 2009م، وذلك بخزن 10 في المئة من السلالات النباتيّة في العالم. أو ما يقارب الثلاثين ألف نوع. ويسعى إلى تخزين 25 في المئة إذا ما توافرت له الموارد المالية الكافية.

وتأتي كل هذه الجهود العالمية المختلفه لحماية التنوع الوراثي الذي يمثل البيت المليء بالكنوز، الذي يواجه تهديداً بالزوال. وهو ما يستدعي الحاجة إلى بذل جهود خاصة لصونه من الداخل والخارج، والحفاظ على استدامته واستمراريته لمصلحة الجميع.

أضف تعليق

التعليقات

رنيم الحربي

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته مشكور اخوي وما قصرت الله يديك العافيه على الموضوع الاكثر من رائع