طاقة واقتصاد

«الومضة»
هل اللاوعي أدق من حسابات الوعي؟

النقاد الذين قرأوا هذا الكتاب، توقَّعوا أن مصدراً لتعبيرين جديدين سيدخلان على لغة علم النفس وأيضاً علم الدماغ، خاصة وأن مؤلفه «مالكوم غلادويل» هو نفسه مؤلف كتاب «نقطة الانحراف» الذي صدر عام 2000م، وتحوَّل لاحقاً عنوان كتابه ذاك إلى تعبير متداول على المستوى العام للإشارة إلى اللحظة التي تلتقط فيها عامة الناس فكرة أو مفهوماً أو منتجاً وتتبناه ويروَّج في صفوفها.
كتاب غلادويل الجديد هو بعنوان «الومضة»، وهو حول الخاطرة الفورية. ويتضمن تحليلاً عميقاً للآليات التي تقود الإنسان إلى اتخاذ قرار فوري. ويمكن القول إنه كتاب علمي مبسط للعامة حول دور اللاوعي في اتخاذ القرارات الفورية.

وما قد يفاجئ القارئ، هو أن المؤلف يذهب عكس المفهوم التقليدي والموروث الذي يدعو إلى التأني في اتخاذ القرارات، كما تعبِّر عن ذلك أمثال وحِكم شعبية في كل ثقافات العالم.

أمثلة من كل صوب
يدور هذا الكتاب حول جانب من علم النفس، لم يكتب فيه الكثير بلغة تفهمها عامة الناس. ولهذا، وجدنا المؤلف، وخاصة في الفصول الأربعة الأولى يناقش أمثلة مستمدة من كافة الأزمنة، وأيضاً، من كافة جوانب الحياة، فنجد ضمن هذه الأمثلة: الزواج، وفن النحت اليوناني القديم، وفك الشيفرة خلال الحرب العالمية الثانية، وأفضل باعة السيارات في إحدى الولايات الأمريكية، والممثل توم هانكس، والأخطاء الطبية، وكيفية الحكم على شخص ما من خلال نظرة إلى غرفة نومه.

ومن أكثر الأمثلة المعبِّرة عن موضوع الكتاب، قصة يوردها المؤلف في الصفحات الأولى، وتدور حول بحث أجري حول إحدى المنحوتات الفنية لمعرفة ما إذا كانت أصلية أم مزوَّرة. فثمة مجموعة من الخبراء أعطيت الوقت الكافي لفحص هذه المنحوتة والتمعن فيها ملياً، خلصت إلى أن هذه المنحوتة أصلية. ولكن مجموعة ثانية من الخبراء أصرت على أنها مزيفة بعد إلقاء نظرة خاطفة عليها، وتوصلت إلى قرارها هذا «بومضة عين». والمدهش هو أن المجموعة الثانية كانت على صواب.

ومن هنا تطرح الأسئلة التي يسعى هذا الكتاب إلى الإجابة عنها: كيف عرفت المجموعة الثانية الحقيقة فوراً؟ ولماذا أخطأت المجموعة الأولى؟ هل هناك مخاطر في الإسهاب في التحليل؟ هل يلعب وميض العين (أو ما يسميه البعض طرفة عين أو رمش العين) دوراً في التوصل إلى الحقائق واتخاذ القرار الصائب بشأنها؟

أمام مخاطر لا تمهل
للإجابة عن هذه الأسئلة، لا يكتفي المؤلف بالإشارة إلى الكم الضخم من القرارات التي نتخذها في حياتنا كل يوم، والتي تشكل حتى في الصغيرة منها، فرقاً بين الحياة والموت، وبين الحرية والسجن، وصولاً إلى الفرق بين الحرب والسلام في القرارات الكبرى التي يتخذها الكبار. بل يسهب في تحليل قصص محددة جرت على أرض الواقع، ولعب فيها التفكير الفوري دوراً بالغ الأهمية.

ومن هذه القصص، واحدة تدور حول إطفائي في ولاية كليفلاند الأمريكية استجاب لنداء إغاثة روتينية بسبب حريق اندلع في منزل من طابقين في حي سكني، وكانت النيران قد اشتعلت في المطبخ. اتجه الإطفائي والفريق العامل معه إلى المكان، وكسر الباب وبدأ برش المياه من الخراطيم على النار التي كانت من المفترض أن تنطفئ. ولكن النار لم تخمد.

و«برمشة عين» أمر الإطفائي رجاله بإخلاء المكان فوراً. وبعد لحظات من خروجهم من المنزل، انهارت الأرضية التي كانوا يقفون عليها. فقد كان مصدر النيران الطابق السفلي تحت المطبخ وليس المطبخ نفسه كما بدا أولاً. وعندما سئل الإطفائي كيف عرف بوجوب إخلاء المكان بهذه السرعة، لم يستطع إعطاء تفسير لذلك. ولكنه لاحقاً، احتاج إلى ساعتين ليشرح أسباب قراره، ومنها على سبيل المثال أن النار لم تتجاوب مع ما كان يفعله فريق الإطفائيين، كما أنها كانت حامية إلى درجة غير اعتيادية في حرائق مشابهة، وأيضاً كان هناك هدوء ملحوظ، بينما كان من المفترض أن يكون المكان المشتعل أكثر صخباً.

وتذكرنا هذه القصة بقصة مشابهة نعرف فصولها وجرت في وقت لاحق لصدور الكتاب، وهي قصة الطيار الأمريكي الذي حطَّ بطائرته على نهر الهدسون في مدينة نيويورك، بعد أن تعطل محرِّكا الطائرة نتيجة اصطدامها بسرب طيور كان في أجواء المدينة. فكل كلمات الثناء التي ألقيت خلال تكريم الرجل لإنقاذه الطائرة وركابها امتدحت «سرعة بديهته» التي لخصها هو بالقول: «عرفت فوراً أني كنت أطير على مستوى منخفض وببطء بشكل يجعل العودة إلى المطار مستحيلة، فقررت الهبوط على النهر..».

ويجري الكاتب مقارنة بين الأداء المتفوق في مجال تشخيص الآلام الصدرية في أحد مستشفيات شيكاغو بأداء غيره من المستشفيات، ويرده إلى التوجيهات التي أصدرها المستشفى بخصوص الطريقة التي يجب أن يتم بها تشخيص أسباب الأوجاع الصدرية، والقاضية بالاكتفاء بمعلومات أقل من المريض مما تطلبه باقي المستشفيات، والتركيز على المؤشرات الأساسية فقط مثل ضغط الدم وتخطيط القلب فقط. ومن خلال هذا التبسيط أصبح هذا المستشفى الأول في أمريكا على مستوى صحة تشخيص الآلام الصدرية.

التقطيع بوميض العين
يقول المؤلف إن اتخاذ القرارات الفورية الصائبة يعود إلى طريقة معقدة يعمل بها الدماغ في الجهة اللاوعية بالنسبة إلينا. فعندما نرمش بعيوننا أمام أمر يتطلب منا اتخاذ موقف منه، يقوم العقل بتقطيع المشهد إلى مجموعة متلاحقة من الصور، كل واحدة منها تحمل جانباً من حقيقة الأمر الذي نقف أمامه. وأحياناً تكون الومضة الواحدة كافية لأن ترسل إلى الدماغ صورة كاملة عن حقيقة ما نواجهه. وتترك الدماغ يعطي الجواب الملائم.

ويستند غلادويل في ثقته بجواب الدماغ، على أمر معروف في علم النفس منذ زمن طويل. فقد طور الإنسان خلال آلاف السنين، وأيضاً خلال حياة الفرد مجموعة من المعايير والمفاهيم وخزنها في
لا وعيه. فخبراء فن النحت مثلاً، يخزنون في عقولهم مقاييس المنحوتات الأصلية ومواصفاتها، ولذا، يمكنهم أن يقولوا فوراً إن هذه المنحوتة أصلية أم لا. في حين أن التحليلات المخبرية يمكنها أن تنخدع إذا ما كانت قد أضيفت إلى هذه المنحوتة عناصر كيميائية مثل تلك التي تتراكم عليها بفعل الزمن، وهذا ما يفعله الكثيرون من مزيفي الفنون.

الومضة في ذهن المؤلف
في أحد الحوارات الصحافية معه، قال غلادويل إن ما دفعه إلى البحث في هذا النوع من التفكير، كان ما عايشه هو شخصياً. فيروي أنه بعد صدور كتابه الأول، قرر التخلي عن المظهر التقليدي والوقور، وترك شعر رأسه يطول. فكانت النتيجة أن علاقة العالم به تغيرت. حتى إنه طورد ذات مرة من قبل سيارة شرطة أوقفته للتحقيق معه لأنها اشتبهت بكون هيئته «مطابقة» لرسم تقريبي لأحد المجرمين الذين تبحث عنهم. وخلال استجوابه استطاع غلادويل أن يُقنع الشرطة ألاَّ شيء مشترك ما بين مظهره ومظهر المجرم المطلوب غير الشعر. وأقرت الشرطة بصحة ذلك.

وفي تحليله لهذه الحادثة، يقول غلادويل إن مروره بالسيارة من أمام الشرطة، كان كافياً لإثارة شبهة عناصرها، الذين ربطوا ما بين شعره وشعر المجرم كما هو مرسوم في الصورة. وبإسقاط هذه الملاحظة على الأوضاع الاجتماعية بشكل عام، يقول إن الزنوج في أمريكا يتعرَّضون لمثل هذه المضايقات أكثر بكثير من غيرهم، بسبب الدور الذي تلعبه «رمشة العين» والفكر التقطيعي، من خلال ما تكدس من صور في اللاوعي. ولكن عندما تكون الصور المتكدسة في اللاوعي سليمة، ومبنية على الخبرة والدراسة والتجارب السابقة، يمكنها أن تصدر فوراً الحكم الصائب.

مفردتان برسم اللغة الجديدة
«الومضة» و«الفكر التقطيعي» هما التعبيران اللذان يرجِّح النقاد دخولهما إلى لغة العامة، نتيجة بحث دورهما بهذا الإسهاب في كتاب غلادويل، مهما تحفظ البعض على منحاه العام.

والمتحفظون ليسوا قلائل. فمعظم المجتمعات
لا تزال تمتدح «التمهل في التفكير»، وتنصح بـ «النظر قبل القفز»، وترى «أن في العجلة الندامة». في حين أن غلادويل يرى أن عالماً تصدر فيه الأحكام الفورية بالاعتماد على التقطيع السريع، «هو عالم أفضل»، خاصة بسبب غِنى العقل في زمننا بالمعلومات الصحيحة التي تتكدس فيه بشكل غير مسبوق في التاريخ نتيجة ثورة الاتصالات وشبكات المعلومات، وتمنحه فرصاً أكبر ليصدر الحكم الصائب بومضة عين.

أضف تعليق

التعليقات