كنت أعتقد وما زلت أنَّ من أهم وظائف الثقافة التي يقوم بها أي مثقف، سواء على المستوى الإبداعي أو الفكري، هي تهيئة أرضية صلبة للحوار والمناقشة في شتى شؤون الحياة، ليس بين المتجانسين في التوجه الثقافي أو الفكري، والمتجايلين في المرحلة العمرية، بل بين مختلف شرائح المجتمع، ومن جميع الأعمار، ومن شتى المشارب والتوجهات.
استند الرهـان على هذه الوظيفــة في أهميتــه على حقيقة أن ما تقوم السياسة بالعمل على تفريقه، تقوم الثقافـة من طريق آخر على تجميعه.
الفن بجميع فروعه هو أفضل من يقوم بهذا الدور. فهل رأيتم على سبيل المثال موسيقياً أو فناناً تشكيلياً أو أديباً ترك فنه، وتحول عنه إلى السياسة أو بدلاً من أن يحمل آلة موسيقية في يده، يحمل بندقية أو مسدساً. نادراً ما نرى ذلك! وإن حصل، فهناك استثناءات قليلة كالشاعرين أكتافيو باث وصلاح ستيتية اللذين عملا كدبلوماسيين وسفيرين لبلديهما. لكنهما لم يتورطا كثيراً في العمل السياسي. أريد أن أقول إن الفن والأدب هما الوجه الآخر للحياة، الوجه الذي تشوِّه ملامحه وتخفي معالمه الحروبُ المدمرة، والنزاعات المسلحة بين البشر. لكنه يظل الوجه الأكثر إشراقاً في تاريخ البشرية، ولولاه لكانت البشرية قد شارفت على الانقراض، أو انقرضت فعلاً.
لكنّ الخوف يعتريني بين الحين والآخر، على موقع هذه الوظيفة في الثقافة المعاصرة، والسبب هو جملة التحولات التي طالت وظائف الثقافة نفسها. فعندما تبدلت الوسائط باعتبارها الرافعة للإنتاج الثقافي، استتبع ذلك تبدل في الوظائف. وفيما يخص الأدب والفن تحديداً، نجد أن العزف في صالات ضخمة ومغلقة لم يعد يغري الموسيقي مثلاً، أصبحت الشوارع العامة والبسيطة ومترو الأنفاق هي الأماكن المفضلة له، كذلك المسرحي لم تعد تغريه منصة المسرح، ولا الجمهور المهيأ سلفاً لاستقبال العمل. أصبح الفضاء المفتوح هو الفرجة التي ينشدها كل مسرحي. والفنان التشكيلي كذلك تخلى عن اللوحة والفرشاة، واستعاض عن اللوحة بجسده، وعن الفرشاة بأدوات الطبيعة المحيطة ببيئته وحياته، وأصبح هو بالتالي جزءاً من العمل الفني، لا ينفك في إطاره يجرِّب ويجرِّب دون كلل أو ملل.
كان يقال في الأوساط النقدية والنظرية إن توظيف هذه الوسائـط بهذه الكيفية يندرج ضمن ما يسمى بتوجهـات ما بعد الحداثة في الفن والأدب.
التسميات في تصوري لا تهم، الذي يهم هو أن الفنانين والأدباء بدأوا يبحثون عن وسائل يتجدد من خلالها التعبير العميق للفن والأدب من دون أن تفقده الوسيلة الحرية الكامنة فيه، وهذا ما حصل تماماً، وهذا هو أيضاً مربط الفرس الذي يقودنا إلى الأزمة الحالية في الوسائط.
الوسائط المتعددة للعالم الافتراضي (ملتي ميديا) من تويتر وفيسبوك ويوتيوب وكيك والروابط التي تحيل إلى روابط أخرى، جميعها غيرت شكل العمل الإبداعي، وجعلت من وظيفته غير تواصلية، وحريته خاضعة للاستيهام أكثر من كونها للواقع. بعبارة موجزة: خوفي نابع من أن نفقد براءة التواصل بين الناس بفعل تلك الوسائط التي غيرت تصوراتنا عن الأدب والفن. وأول هذه التغيرات وأخطرها هو حين ننغلق على أنفسنا وكل ما حولنا مجرد أرقام وعلامات فقط، بينما نحن نظن في وسط هذا الانغلاق أننا نمارس الحرية والانفتاح على الآخر.