يبدو أنَّ ما قالَهُ والتر باتر ذات مرّةٍ من أنَّ الفنون كلها تصبو بثباتٍ إلى شرط الموسيقى، فيهِ قَدَرٌ كبير من الأهميّة والحقيقة الإبداعيّة. فلو أسقطنا ذلكَ على فنّ الشِعر، بوصفهِ أرقّ الفنون والأكثر نقاوةً وقرباً للنَفس البشريّة على مرّ العصور، لوجدنا أنَّهُ لا بدَّ من لمسةٍ موسيقيّةٍ لتكتمل القصيدةُ، ودونَ هذه اللمسة السحريّة تبقى ناقصةً، كجسدٍ لا روح فيه، مهما تحقّقتْ فيها باقي الشروط الفنية والإبداعيّة.
لعلّ أوّل ما تضيفهُ الموسيقى إلى القصيدة، تلك النَفحة الحميمة، سواء من جهة الربط السلس والحميم بين الكلمات ضمن الجملة أو العبارة الواحدة، ومن ثمّ الربط بين الجُمَل داخل القصيدة كَكُل، وحتّى بين قصائد الكتاب الواحد أيضاً. أو من حيثُ إنها تقولب نظرتنا للقصيدة من كونها نصاً مدوّناً إلى اعتبارها أشبه بلوحة تشكيليّة أو قطعة غنائيّة، في إثارتها لحواس أخرى كالنظر والسمع، أو الحواس الخمس مجتمعةً، من جهةٍ ثانية. ومن دون هذه الموسيقى، تفقد القصيدةُ أحد أبرز شروط وصولها إلى المُتلقّي، ونقصد به القارئ الحقيقيّ المتذوّق للشِّعر والمُلمّ به من حيثُ جوانبهِ الجماليّةِ كافّة. ما ينبغي أنْ نُفَرِّق بين الإيقاع الموسيقي الخارجي الصاخب عادةً، الإيقاع التفعيلي على سبيل المثال لا الحصر؛ وبين الموسيقى الداخلية للكلمات، تلك «الصامتة- الصائتة» في الآن معاً؛ ما أعنيهِ وأميلُ إليه هو الثاني بكل تأكيد.
فالموسيقى تماماً كاللغةِ، لم تنبثق من المكتبات – كما يقول بورخيس – وإنما من الحقول، من البحار، من الأنهار، من الليل، من الفجر. أي إلى الطبيعة نفسها يعودُ منبتها الحقيقي، الطبيعةُ لا بوحشيّتها ووحشتها، بل إلى البراءة والعفويّة الكامنتين فيها. وهو ما يجعلنا نُدهش للومضة الشِّعريّة داخل بعض المطوّلات أكثر من تأثّرنا بالجمل والعبارات الأخرى داخل النصّ نفسه، لتكون أشبه بتلك الرعشة التي تجتاحنا كالطوفان، تهزُّ وجداننا وأفئدتنا، وتُدمّر مفاهيمنا المسبقة، ومن ثمّ ليُعاد تشكيلها من جديدٍ، لا كما نرغب بل بحسب رؤية ونبوءة النص ومبدعه.
إلى جانب الموسيقى، ثمّة الفكرة أيضاً، وإذا اعتبرنا الفكرة بوصفها المحمول فإنَّ الموسيقى – آنفة الذكر – هي الحامل الوحيد لها، دون شكّ. يقول ييتس في قصيدة (البجع البريّ عند متنزّه كول): «على سطح الماء المترع بين الحصى / ثمّة تسع وخمسون بجعة»، ويتابع في مكان آخر من القصيدة نفسها: «لطالما نظرتُ إلى هذه المخلوقات الرائعة، / والآن أشعر بالوجع في قلبي. / لقد تغيّر كل شيء منذ أنْ وطأت قدماي، / وأنا أسمع عند الشفق، قرع أجراس أجنحتها فوق رأسي، / أرض هذا الشاطئ لأول مرة»، ما يثيرنا في هذه القصيدة ويشدّنا أكثر من أيّ شيء، تلك اللعبة الذكيّة «الموسيقيّة/ الشِّعريّة» الكامنة فيها، سواء من حيثُ الدقّة في التقاط المشهد ووصفه، انتقاء سربٍ من البجعات تحديداً دون غيرها، والدلالة في اختيار الرقم (تسع وخمسون) أيضاً؛ أو من جهة التناغم بين المفردات المُمَوْسقة بإتقانٍ؛ وكذلك تقطيع القصيدة إلى مقاطع غايةً في البراعةِ وعلى غرار الأغاني (القصائد) المُغنّاة، فيها من التواتر والمباغتة أثناء الانتقال من مقطع إلى آخر، لنصل إلى ذروة الإدهاش أو ما يسمّى ببؤرة التوتّر في النهاية؛ إضافةً لجماليّة التصوير لدى الشاعر، وهو ما يجعل القصيدة تصل إلى المتلقّي بيُسْرٍ.
للموسيقى فِعْلُ السحر في النَفْسِ، لكنْ ماذا لو كانت مترافقةً مع الجميل من الكلمات؟ سؤالٌ يرسم الآن والأزل، في الوقتِ عينه.