تكاد النكتة أن تكون لوناً من ألوان القصص القصيرة جداً جداً.. حتى أن بعضها يتألَّف من جملة واحدة. ومع ذلك، فهي غالباً ما تتضمَّن بداية وحبكة ونهاية، حتى ولو اختزلت الكثير من التفاصيل؛ لأنها تفترض أن المستمع يعرفها. أما السمة الأساسية لهذه الميكروقصة فهي في هدفها: إضحاك المستمع. ولكن لماذا تضحكنا بعض النكات دون غيرها أو أكثر من غيرها؟ وما هو قوام النكتة الأدبي حتى تتمكن من تأدية دورها؟ عبدالله الهاشمي يتناول هنا تاريخ النكتة منذ ظهورها في أقدم الحضارات وتطورها حتى عصرنا، ويعرِّج على أبرز أنماطها، وعلاقتها بالوجدان الثقافي لدى كل شعب على حدة.
هناك أسئلة عديدة تواجه الباحثين في طبيعة هذا الفن الشعبي الساخر الذي نسميه النكتة . وحيث تتعذر الإجابة عن هذه الأسئلة، أو تندر بسبب ندرة المصادر التي تتناول هذا المجال، تبقى النكتة تقنية لغوية بالغة التكثيف والسخرية، شديدة النفاذ بمضامينها المركزة التي تغني الواحدة منها عن مقال كامل أو حديث مسهب.
فهي موقف صاغه عقل جماعي مجهول بمفردات بسيطة قوامها المفارقات المكثفة التي تعج بها وقائع الحياة اليومية. إنها المنشور الذي ينفذ بسخريته اللاذعة إلى الأعماق، والصحيفة غير المدونة والأداة التي يبدد بها الناس همومهم خصوصاً البسطاء الذين لا يجيدون تدبيج المقالات ولا الخطب والتحليلات العميقة التي تشرح الواقع المعقَّد. فمن خلالها هم يضحكون من عجزهم ومن أنفسهم ويروِّحون هموم الحياة بجوانبها المختلفة.
تُعد النكتة أحد الثوابت الثقافية للمجتمعات حيث تصعد وتهبط مع صعود وهبوط الحضارات. وما يميزها عن الحكايات الطريفة، هو كثافتها الشديدة وحملها للمعنى في سطور قليلة وقدرتها على النفاذ. فالنكتة في شكلها الكلاسيكي مختصرة جداً على غرار: كنت قبيحاً جداً حينما ولدت، لدرجة أن الطبيب صفع أمي! . في هذا المقال، سوف نحاول القيام بحفريات عميقة لسبر أغوار النكتة في جوانبها التاريخية والفلسفية والنظريات التي تفسِّر طبيعتها، مع التطرق لآخر البحوث في هذا المجال.
تاريخ النكتة الأوروبية
ورد في التاريخ الإغريقي، أن بلاميدوس، بطل حرب طروادة، هو أول من اخترع النكتة. وكان في أثينا حينئذ نادٍ كوميدي يسمَّى مجموعة الستين ، ويقال إن هذا النادي تسلَّم مبلغاً طائلاً من المال من فيليب حاكم مقدونية لأجل تدوين نكاتهم. لكن الكتاب فُقد في عصور لاحقة، على الرغم من أن بعض المؤرخين يقولون بعدم وجود هذا الكتاب في الأصل.
وفي روما، أشار بلاتو في اثنتين من مسرحياته لكتب طرائف. ويؤكد ذلك سوتنيس عن أحد أساتذة الإمبراطور أوغسطس واسمه ميليس، إذ ألَّف الأخير كتاباً يحوي 150 نكتة مختارة. ولكن رغم ذلك، فقد ورد إلينا كتاب واحد عن النكتة باللغة الإغريقية يعود إلى القرن الرابع أو الخامس الميلادي ويشتمل على 264 نكتة بعنوان الحبيب الضاحك (Philogelos). أتت طبيعة النكات في هذا الكتاب مختصرة ومركزة مثل: سأل حلاق أجيراً: كيف تريدني أن أقص شعرك؟ فأجاب الأجير: في صمت!! . ويجدر بالذكر أن هذه النكتة تُعد من ضمن أقدم عشر نكات مدوَّنة في التاريخ. كما يشتمل الكتاب على عدة أنواع من النكات تدور حول شخصيات مثل: البخيل والمتبجح ورأس البيضة أو الغبي. وللأسف، اختفى الكتاب تماماً في العصور المظلمة لأوروبا ومعه اختفى فن النكتة كما يبدو.
بقيت النكتة حيَّة مع ازدهار الحكايات الشعبية العربية في الجزء من أوروبا الذي كان تحت سيطرة العرب، حيث انتشر هذا الفن ووصل حتى إسبانيا وإيطاليا. أما في بقية أجزاء أوروبا المظلمة فلم تعاود النكتة ظهورها إلا مع بدايات عصر النهضة على يد الإيطالي بوجيو.
ولد بوجيو براسكيلوني في عام 1380م وتوفي في 1459م. وخلال حياته، أمضى 50 عاماً في خدمة الكنيسة المضطربة آنذاك. قام بوجيو بنشر كتابه بعنوان Liber Facetiarum ، والمعروف اختصاراً باسم Facetiae ، أي الفكاهة في عام 1451م. ويحتوي الكتاب على 273 نكتة جمع أغلبها من خلال رحلاته العديدة في أنحاء أوروبا، ويعود البعض منها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. وقد ظهر جلياً فيما جمعه من طرائف تأثر النكتة الأوروبية بالفكاهة العربية وكذلك بحكايات ألف ليلة وليلة.
تتمثل أهمية الكتاب في كونه الأول الذي تمت طباعته مع أول ظهور لحرفة الطباعة، مما أدى إلى سهولة انتشاره على مستوى واسع. إذ سرعان ما تمت قراءته في كل أنحاء أوروبا. إلا أنه بالمعايير الحالية، تُعد النكات الواردة في هذا الكتاب طويلة جداً خصوصاً مع الشروح التي أوردها بوجيو بين جنباته. ولعل ذلك يعود لتأثره بالحكايات العربية، كما أسلفنا. ومن أمثلة النكات التي وردت في الكتاب نذكر التالية: كان رجل بالغ البدانة مسافراً إلى فلورنسا في إحدى الأمسيات. وفي الطريق سأل أحد الفلاحين: هل تعتقد أنني أستطيع الدخول عبر بوابة المدينة؟ وكان يعني هل يستطيع الدخول قبل إغلاق البوابات. فرد عليه الفلاح متهكماً من بدانته: لم لا. إذا كانت عربة من التبن تستطيع ذلك، فسوف تستطيع أنت أيضاً! .
وفي الفترة نفسها تقريباً في إنجلترا، قام وليام كوكستن، وهو أول ناشر إنجليزي، بطباعة أول كتاب للنكات في عام 1484م. حوى هذا الكتاب بعض النماذج من نكات بوجيو. ومع هذا التطور الذى صاحب ظهور حرفة الطباعة، صارت النكات في عهد شكسبير شديدة الرواج، لدرجة أنه أورد بعضاً منها في مسرحياته.
حدث التطور التالي في فن النكتة مع بدايات القرن السابع عشر حين بدأت النكتة تنحى للقِصر والتركيز، خلافاً لما كانت عليه في عهد بوجيو. في ذلك القرن، قام كاتب مغمور يسمى هيروكليز بنشر كتاب سماه تعليقات على كلمات فيثاغورث الذهبية ضمَّنه العديد من نكات بوجيو. وسرعان ما انتشرت نكاته في أنحاء أوروبا أيضاً. لكن التغير الأبرز الذي طرأ على النكتة الإنجليزية كان مع ظهور أعمال جو ميلر، الممثل المسرحي اللندني المغمور، بعد نشر كتابه بعنوان نكات جو ميلر في عام 1739م والذي طبع في العام الذي تلى وفاته. يحتوى الكتاب نكات مثل: سُئلت سيدة كيف أحبت رجلاً يغني ورائحة فمه كريهة. فأجابت: الكلمات جيدة ولكن الهواء لا يطاق! .
النكتة البذيئة.. ماذا يكشف تحليلها
ظلت النكتة القذرة من ضمن الثقافة الشفهية لشرائح محددة من بعض الشعوب. ورفضتها جملة وتفصيلاً الشعوب المتمسكة بالقيم الأخلاقية التي تصوغ سلوكها اليومي ولغتها وأدبها. لكن في عام 1960م، قام الأمريكي جيرشن ليقمان بجمع أول كتاب ونشره تحت عنوان الأساس المنطقي للنكتة البذيئة ، ثم أردفه بكتاب آخر عام 1975م بعنوان شيء جدي إلى حد بعيد . وحوى الكتاب الأخير أكثر من ألف صفحة من النكات الأكثر بذاءة مقارنة بالكتاب السابق. أراد ليقمان بكتابيه تحليل الجوانب النفسية في النكتة وما تحويه من عنف لفظي موجه من الرجال ضد النساء في الغالب. إذ يؤمن ليقمان بأن النكتة البذيئة هي انعكاس للحالة النفسية للراوي من حيث شعوره اللاواعي بالذنب. وكان من الطبيعي أن يتعرض ليقمان للإقصاء من جانب مجتمع المثقفين بعد نشره لتلك الكتب، كما صُنف رجلاً خطراً من جانب مكتب التحقيقات الفيدرالي، حتى أنه اضطر تحت كل تلك الضغوط إلى شد الرحال نحو فرنسا. وفي الوقت الحالي تُعد آثار ليقمان ذات أهمية كبيرة لدى الدوائر المهتمة بالفولكلوريات، إذ استطاع الرجل أن يجعل من هذا النوع من النكات علماً قائماً بذاته يشرح الجوانب السرية للمجتمع.
وفي أمريكا أيضاً، اشتهر آلان دنديز، من جامعة كاليفورنيا، بكتاباته عن النكتة من منطلق أنها جزء من الفلكلور الشعبي. وحاز لقب أستاذ النكتة حتى وفاته أمام طلابه في عام 2005م وعلى لسانه نكتة لم يكملها. والمعروف عن دنديز أنه ركَّز في عدد من مقالاته المنشورة في الصحف المهتمة بالفولكلور على موضوعات قذرة ومحددة مثل نكات المرحاض .
النكتة تتطوَّر ولا تُخترع
يؤمن الفولكلوريون بأن النكتة لا يتم اختراعها ولكن تتطوَّر. وبحسب ليقمان لا توجد نكتة محكية لأول مرة . فمعظم النكات المتداولة حالياً تعود في أصولها إلى مئات السنين، ولكنها قد تظهر في كل مرة بثوب مختلف بحسب ما يخلع عليها الوسط الثقافي المتداولة فيه من مظهر جديد. وبشكل عام، تظل النكتة الغربية مدينة إلى بوجيو الذي أعاد بعث هذا الفن في الغرب من خلال ما جمعه في كتاب الفكاهة عقب فترة ركود حضاري عاشتها أوروبا لنحو عشرة قرون فيما يعرف بالعصور المظلمة.
فلسفة النكتة
تقوم أركان الفلسفة التقليدية على ثلاثة مبادئ هي الحقيقة والجمال والخير. وفي العصر الحالي يُعد مجال مصطلح جمال أكثر ضيقاً ليحوي كل ما يمنحنا المتعة من فن وطبيعة. لذا يتحدث الفلاسفة عن مصطلح جديد هو القيمة الجمالية (Aesthetic Value) وما تخلفه على مستوى الفرد من تجربة جمالية (Aesthetic Experience). والأخيرة هي الأعراض الجسدية المرافقة للإحساس بالجمال، مثل انتصاب شعر الجسم حين الاستماع لمقطع من الشعر أو قطعة موسيقية لباخ مثلاً. وبما أن النكتة هي أحد الفنون ذات القيمة الجمالية، فردّ الفعل الحركي لها هو الضحك، الذي يحرِّك خمس عشرة عضلة في الوجه. من الناحية الصحية، تفيد هذه التجربة الجمالية الجسم في إمداد الدم بالمزيد من الأكسجين وتقليل هرمونات التوتر وتقوية مناعة الجسم. لكن هذه التجربة الجمالية هي خطرة بمقايس كثافتها، حيث إنها قد تودي إلى إصابات جسيمة بالعضلات أو حتى الوفاة في حال زيادة كثافتها عن المعدل الطبيعي!
بهذا الطرح، فإن الضحك عبارة عن تجربة جمالية تنساق من الداخل إلى الخارج،أي من متعة ذهنية صرفة يعبر عنها برد فعل حركي يعرف بالضحك وذلك خلافاً لتجربة التمتع بمشاهدة لوحة فنية جميلة مثلاً، حيث تنساب المتعة الجمالية من العين إلى الدماغ، أي من الخارج نحو الداخل.
ومع العلم أن الضحك ذو ارتباط وثيق بالنكتة أو الطرفة، إلا أن بعض الأشخاص ليست لديهم قابلية لهذه التجربة الجمالية. فقد ورد أن إسحق نيوتن لم يضحك في حياته غير مرة واحدة عندما سئل عمَّا وجد في مبادئ إقليدس. كذلك جوزيف ستالين فمن النادر أن رآه أحدهم يضحك. وهكذا رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر والتي يبدو أنها لم تنل لقب المرأة الحديدية جزافاً. وعلى الرغم من أن الضحك -مثلما اللغة- من الملامح المميزة للكائنات البشرية، إلا أن الفلاسفة لم يتيحوا له المساحة الكافية في دراساتهم مقارنة بما أتيح للغة من دراسات منهجية محكمة.
قد نستغرب لذلك، ولكن ربما يعود هذا إلى جذور الفلسفة نفسها، حيث اعتبر بلاتو الضحك عيب وعمل أحمق حريٌ بالإنسان تفاديه ما أمكن. أما أرسطو فقد عدَّه ابن القبح وليس من ورائه طائل غير الإساءة إلى الآخرين. أما سبينيوزا -بحسب أصدقائه- فكان يضحك فقط حينما يرى العناكب وهي تتقاتل حتى الموت! وهو الذي سجَّل في كتاب الأخلاق أن الضحك متعة صرفة وأنها في حد ذاتها خير. أما بقية الفلاسفة الكبار أمثال إمانويل كانط وشوبنهور وهوبس فلهم نظريات غامضة في فلسفة الضحك، وردت مصادفة بين طيات أعمال أخرى كبيرة، ولم تكن بأي حال من الأحوال من الفلسفات المكتملة.
وفي تحليل السبب من وراء إحجام الفلاسفة عن دراسة النكتة والضحك بصورة متأنية، نجد أن هناك عدة أسباب مجتمعة من ضمنها المبدأ القائل إنه كلما كان الشيء ممتعاً كانت فلسفته أقل إمتاعاً والعكس صحيح. مثلاً الفن جميل ولكن فلسفة الفن مدعاة للملل، أما القانون فممل ولكن فلسفة القانون في غاية الإمتاع. وأيضاً هناك الإحساس القائل إن كشف سر شيء جميل مثل الضحك قد لا يعود بالفائدة عليه بقدر ما قد تؤذيه.
النكتة واللاوعي
لم يسبق لأحد في التاريخ أن وضع تحليلاً ثابتاً للنكتة والضحك كما فعل المحلل النفسي الأشهر سيجموند فرويد في كتابه الأحلام وعلاقتها باللاوعي .
لم ينبع اهتمام فرويد بالنكتة من علاقاتها الفلسفية ولكن لارتباطها الوثيق من عدة جوانب بالأحلام التي هي مجال بحثه. وهو يعتبر أن النكتة والحلم يحملان معاني مكثَّفة مستبدلة، وأن الأشياء يشار إليها بطريقة غير مباشرة أو بأضدادها، وأن النكات تظهر فجأة ويتم نسيانها مثل الأحلام. من هذه التشابهات افترض فرويد أصلاً واحداً لهما في اللاوعي. ولكن الفرق الوحيد بينهما هو أن النكتة وُجدت كي يتم استيعابها أي فهمها وهو السبب الأساسي لوجودها أصلاً. على العكس تماماً، فإن الحلم قد يتعذَّر فهمه حتى على صاحبه، أو حتى على محلل نفسي. بمعنى آخر فإن الحلم عبارة عن نكتة بايخة لم يتم فهمها.
من المؤكد أن الفلاسفة كانوا أقل شجاعة من فرويد في البحث عن نظرية النكتة. حتى أن بعضهم يظن أنه من غير المثمر البحث عن هذه النظرية. وفي ذلك يقول تيد كوهين الفيلسوف المعروف بجامعة شيكاغو إن أية نظرية عامة عن النكتة معروفة بالنسبة لي هي خطأ . وبغض النظر عن كلام تيد سوف نستعرض هنا النظريات الثلاث المتنافسة في تفسير فن النكتة.
• نظرية التفوق
اقترحت نظرية التفوق بعدة أشكال بواسطة بلاتو وهوبس والفرنسي بيرغسون. وتفترض هذه النظرية أن لب الدعابة هو في السعادة المفاجئة ، حسب تعبير هوبس، التي نشعر بها عندما -قل مثلاً- نرى شخصاً رصيناً وقد رُشق بقالب من الحلوى على وجهه. وتفترض النظرية أن كل دعابة هي سخرية واستهزاء في الأساس ولا تحمل غرضاً غير الإضحاك.
• نظرية التنافر
ويتبناها باسكال وكانط وشبنهور، وتقول إن الدعابة تنشأ حينما يمتزج اللائق المنطقي على نحو مفاجئ مع الوضيع والعبثي. مثل النكتة القائلة: سئل أحدهم هل تؤمن بأندية الأطفال؟ أجاب: فقط حينما يفشل العطف! .
• نظرية الترويح
حاولت نظرية الترويح شرح العلاقة ما بين الضحك والدعابة. بحسب فرويد، فإن النكتة الماكرة تحرر الضاحك من نير القلق والأفكار السلبية، والنتيجة هي استبعاد طاقة التوتر من خلال عضلات الوجه والجهاز التنفسي حيث تعمل الضحكة على غسل الدواخل مما يجري فيها من عواطف سالبة.
تعود جذور الفكرة القائلة إن النكتة تسيء إلى جوهر الأخلاق، إلى بدايات العصر الفيكتوري حيث ارتبطت بالتطاول على القيم الدينية والأخلاقية. وكما لاحظ الفولكلوريون فإن أغلبية النكات التي تم تداولها في ذلك العصر كانت عن أمور يحظر المجتمع عُرفاً الحديث عنها، مما أضاف مزيداً من الإساءة لهذا الفن. وقد لا ينطبق هذا الرأي على الإنجليز فقط ولكن الشاعر الفرنسي بودلير يرى أن النكتة تنبع من شعور بالتفوق من ناحية واحدة. ويظل دوماً من الصعب بمكان تحديد روح النكتة لأنها
لا تبقى على حال واحدة حيث إنها شكل تاريخي متحول يتطور مع الوقت.
فلسفة الضحك والمتعة العقلية
أول ما يتبادر إلى الذهن هو السؤال عن ماهية المتعة العقلية التي تنتزع ذلك الفعل التشنجي العنيف الذي يسمى الضحك. يقول مارفن مينيسكي وهو أحد الآباء الشرعيين للذكاء الصناعي، إن النكتة تطورت لتبيان الخطأ في منطقنا. أي عندما يضل منطقنا، فإن الضحك يعيد لفت تركيزنا إلى الخطأ.
بيد أن الباحث الإنجليزي في المخ جون ماكرون يقول إن الضحك لا يحدث فقط حين نكتشف خطأ أو مفارقة قد تم علاجها بطريقة ذكية، لكن يبدو أن المتعة العقلية ناتجة عن الوصول إلى روابط أو مفارقات حيث لا نتوقع ذلك. وتتم هذه العملية في الجزء المتطور حديثاً من أدمغتنا وهو القشرة العلوية بحسب الدراسات التي أجريت حديثاً في هذا المجال. وقد تم التوصل إلى تحديد المنطقة المسؤولة عن الضحك في الدماغ عن طريق الصدفة. وتبيَّن أنه من خلال استثارتها بتيار كهربائي خفيف، فإن الشخص يجد كل ما حوله مضحكاً!
النكتة العربية
مرَّت النكتة العربية بتطور منذ أن كانت مظهراً من مظاهر البذخ في القصور والديوانيات الأنيقة، إلى أن صارت متنفساً يروِّح الناس به عن أنفسهم أوقات الضيق. والنكتة عند العرب دليل على النضج والسماحة والميل إلى السلام والقدرة على التفاهم العقلاني. يقول مثل عربي قديم إن الرجال لفي سجن إلى أن يغمرهم الظرف .
من أشهر كتب الطرائف في التاريخ العربي القديم كتاب أخبار الحمقى والمغفلين لأبو الفرج بن الجوزي و البخلاء للجاحظ. إلا أن أشهر الشخصيات الفكاهية على مر التاريخ العربي كانت شخصية جحا التي نسجت حولها الطرائف كل شعوب آسيا تقريباً. ويقال إن اسمه الحقيقي هو أبو الغصن دجين الفزاري، كما يقال دجين أبي الغصن ابن ثابت الفزاري البصري. عاصر هذا الرجل الدولة الأموية ومات في خلافة المهدي عن 90 عاماً. ويمثل جحا شخصية الرجل العاقل الذي يصبح مجنوناً أو يتظاهر بالجنون، ليستطيع التعامل مع عالم من حوله مليء بالمفارقات. كما زخرت الذاكرة العربية بطرائف أشعب والبهلول وأبو العتاهية.
وفي شأن جحا نذكر هذه النكتة وإن كنا لا ندري صحة نسبها إليه اصطحب أحمقان وبينما هما يمشيان في الطريق يوماً قال أحدهما للآخر تعال نتمنى. فقال الأول أتمنى أن يكون لي قطيع من الغنم عدده 1000 وقال الآخر أتمنى أن يكون لي قطيع من الذئاب عدده 1000 ليأكل أغنامك. فغضب الأول وشتمه ثم تضاربا، مر جحا وسألهما فحكيا له قصتهما وكان جحا يحمل قدرين مملوءين بالعسل فأنزل القدرين وكبهما على الأرض وقال لهما: أراق الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين .
أقدم نكتة مكتوبة في التاريخ
في عصرنا الحاضر، تتميز جامعة وولفرهامبتون بامتلاك قسم متخصص يقوم على عاتقه دراسة تاريخ النكتة وعلاقاتها بالطبيعة البشرية. ولا شك في أنه من خلال دراسة هذا الفن يمكن دراسة الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية ككل لأي مجتمع. ونحن نعتقد أن النكتة هي المختصر المفيد عن الوضع الذي تعيشه أية جماعة ذات ثقافة مشتركة. بكلمات أخرى، فإن النكتة هي الدليل إلى واقع الناس وآمالهم.
وعن الدراسة التي أجرتها الجامعة المذكورة عن أقدم نكتة مدوَّنة في التاريخ يقول الدكتور بول ماكدونالد المحاضر في الجامعة إن الدراسة أظهرت اختلاف النكات عبر الحقب. حيث يتخذ بعضها طريقة السؤال والجواب والأخرى شكل مَثَلٍ ظريف أو لغز. لكن ما يربط هذه الأشكال كافة هو استعدادها للتعامل مع المحظورات وعلى درجة من التمرد على الأعراف والقوانين. على أية حال، كشفت الدراسة عن أقدم عشر نكات مدوَّنة في التاريخ أوردنا واحدة وسوف نورد بعضاً منها فيما يلي. الأقدم، هي سومرية وجدت مكتوبة في أحد الحمامات ويعود تاريخها لحوالي سنة 1900 قبل الميلاد. وهي عبارة عن مثل سومري قديم. ولطبيعة هذا المثل-النكتة فلا نستطيع إيراده هنا من باب الحشمة. أما أقدم ثاني نكتة مدوَّنة في التاريخ فهي فرعونية يعود أصلها إلى 1600 قبل الميلاد وتقول نسختها المعدَّلة: كيف ترفع معنويات الفرعون سنوفرو حين يذهب لصيد السمك؟ الجواب: ترمي أحد العمال من دون أن يدري ثم تصيح بأعلى صوتك هناك سمكة كبيرة يا سيدي!! .
قد تكون هذه أقدم نكتة سياسية مكتوبة في التاريخ، وهي من النوع الذي برع فيه الإنجليز في عصرنا الحالي بفضل ما اكتسبوه من معارف عبر ماضيهم الاستعماري الحديث. أما بقية النكات العشر الأقدم في التاريخ والتي توصلت إليها الدراسة، فقد اخترنا لكم منها ما يلي:
–
ما هو الحيوان الذي يمشي على أربع في الصباح وعلى اثنتين في الظهر وثلاثة في المساء؟ الجواب هو: الإنسان. يمشي على أربع وهو طفل وعلى رجلين في شبابه ويستخدم عصا في الشيخوخة . (429 قبل الميلاد).
–
حاول فلاح تعليم حماره أن يعيش من دون طعام، لذا لم يقدِّم له أي طعام لفترة من الوقت. وعندما مات الحمار من الجوع. قال الرجل: واحسرتاه.. لقد خسرت خسارة كبيرة. فقد مات الحمار في اللحظة التي تعلَّم فيها أن يعيش بلا طعام! (تعود للقرنين الرابع والخامس بعد الميلاد).
أطرف نكتة في العالم
في بحث استغرق عاماً كاملاً قامت به الرابطة البريطانية لتطوير العلوم وأجرت خلاله استطلاعاً عبر الإنترنت عن أطرف نكتة في العالم شارك فيه أكثر من مليوني شخص عبر العالم بأكثر من أربعين ألف نكتة، تم اختيار النكتة التالية: كان صيادان في الغابة ووقع أحدهما فاقد الوعي وتوقف تنفسه وجحظت عيناه. اتصل زميله بالنجدة وقال لاهثاً للموظف الذي رد عليه: صديقي مات ماذا يمكنني أن أفعل؟ ورد عليه الموظف في هدوء قائلاً: فلتهدأ.. أولاً تأكد أنه مات بالفعل. وساد الصمت للحظة قبل أن يسمع دوي طلقة ويعود الصياد إلى هاتفه ليقول: الآن تأكد موته..ماذا أفعل؟! .
قد لا تكون هذه النكتة طريفة بحسب ما تعود عليه القارئ العربي، ولكن خلاصة البحث تفيد بوجود فروق واضحة في النكات التي يجدها الناس مضحكة بحسب الثقافات التي ينتمون إليها. فالبريطانيون والإيرلنديون والأستراليون والنيوزيلنديون يفضلون النكات التي تشمل اللعب على الألفاظ، بينما يفضِّل الأمريكيون والكنديون النكات التي يبدو أبطالها أغبياء، أما في بقية أجزاء أوروبا فيفضل الكثيرون النكات ذات الطابع الذهني.
هل هي فن بريء؟
لا يمكن تبرئة فن النكتة تماماً ودائماً، كونه يعتمد على السخرية والشماتة والتشفي أو تحقير مشاعر وأفكار الآخرين أو حتى الذات. كما تتضمَّن بعض النكات تطاولاً على القيم أو جانباً عنصرياً. كما أن كل الشعوب تستهدف في نكاتها فئات معيَّنة على أساس عرقي أو ديني أو مناطقي يتم نسج النكات عليها بشكل ثابت. مثلاً، أغلبية النكات في بريطانيا تبدأ بالقول هناك رجل أسكتلندي أو إيرلندي أو حتى امرأة من ويلز . وفي مصر تبدأ بالقول في واحد صعيدي .. وقد لا يدرك سارد النكتة أنه بهذا الفعل يحاول تبرئة نفسه ومستمعيه مقدماً، واختصار نواقص المجتمع في فئة بعينها.
خلاصة القول إنه رغم مظهر النكتة البسيط وطبيعتها المركزة ونتيجتها الباسمة، إلا أنها وسيلة تعبير قوية، تتضمَّن كافة الآراء والمواقف البشرية في قالب شديد التناقض وصادم للمنطق المتعارف عليه. وهي بالتأكيد ابتكار إنساني بالغ الذكاء، كونها في طبيعة ذاتها تركيبة لغوية وعقلية وثقافية بالغة التعقيد. ومن المهم أن يمتلك كافة الأطراف فيها المُلقي والمتلقي قدراً متساوياً من الثقافة والذكاء والمعرفة المشتركة تمكن المُتلقي من فهم مغزى حديثك، مثلاً، عن حذاء الطنبوري. وبمناسبة الحديث عن الطنبوري، من منكم يعرف أين استقر حذاء الطنبوري؟!