حياتنا اليوم

يوسف زيدان
عندما يصبح الشغف نمط حياة

لو كان شغف يوسف زيدان بالمخطوطات العربية مجرد هواية، لكان واحداً مثل الألوف غيره. ولكن الرجل جعل من حبه للكتاب، وللمخطوطة بشكل خاص، محور حياته ومشروع عمره. فأعاد إلى المكتبة العربية الكثير من كنوزها الضائعة، جمعاً وتصنيفاً وتحقيقاً، كما تبيِّن لنا ابتسام محمد* هنا من خلال هذا العرض الموجز لصورة واحد من أكبر حماة المخطوطات العربية في عالمنا اليوم.

ولد يوسف محمد أحمد طه زيدان في سوهاج سنة 1958م, ثم انتقل للأسكندرية مع جدته لأمه بعد ولادته مباشرة ليعيش معها هناك إثر خلاف حدث بين جده لأبيه وجده لأمه سماه اختلاف الجبابرة . وكان الحاج أحمد أمين -جد يوسف لأبيه- من أسرة ثرية من بلدة العوامية بالصعيد. أما جده لأمه فهو من بلدة طهطا وهي بلدة بالصعيد أيضاً ولكنه تركها في شبابه بعد أن ضاقت به الحال وانتقل إلى العيش في الأسكندرية. وهناك، أصبح صاحب مقهى في منطقة غيط العنب. ثم بعد عام ونصف العام من ذهابه إلى الأسكندرية لحقت به ابنته، وهي والدة يوسف، وكانت حاملاً بأخيه الأصغر بعد أن طلقها والده. فقد استطاعت هذه الأسكندرانية إقناع والد يوسف بالذهاب معها إلى السينما في سوهاج؛ وهذا أمر لا يغتفر عند الحاج أحمد, فأرغمه على تطليقها طلاقاً بائناً عقاباً لهما على ذلك. وبقي أبو يوسف في الصعيد حيث تزوج ست مرات بعد أم يوسف لينجب عشرة أبناء كلهم إخوة يوسف.

طريقه إلى نهاية الكون
كان يوسف يعاني وحدة قاتلة في صغره بسبب الحصار الذي فرضه عليه جده لأمه. وفي السابعة من عمره قرر الذهاب إلى نهاية الكون. ومن دون أن ينتبه إليه أحد؛ غافل من حوله وتسلل إلى منطقة غيط العنب وظل يمشي مبتعداً عن العمران حتى إذا ما بدأ الظلام يغزو السماء وصل يوسف إلى وجهته أو هكذا ظن عندما سد عليه الطريق سور عالٍ ممتد إلى ما لا نهاية. وقتها، علم أن الإنسان يستطيع الحصول على ما يريد إذا سعى بجد ومن دون كلل أو تقاعس. علماً بأنه يعرف اليوم أن ذلك السور لم يكن غير سور شركة الغزل والنسيج وليس نهاية الكون كما كان يعتقد.

التحق يوسف بمدرسة خاصة, وعندما حان وقت انتقاله إلى الصف الثالث، أخرج من المدرسة ليلتحق بمدرسة راغب الابتدائية الحكومية لأسباب مادية. وطبقاً لأنظمة الحكومة، فقد تعيَّن عليه أن يعود للصف الأول حسب عمره, وقد كان يتعجب من بكاء الأطفال لفراق ذويهم بقدر ما كان يتعجب من تفاهة الواجبات التي كانت تفرض عليهم.

لم يتأقلم يوسف مع زملائه, حيث كان يشعر أنه أكبر منهم رغم أنهم في العمر نفسه. ولكن شغفه بالقراءة أكسبه وعياً وثقافة أضافت إلى عمره سنوات. وقد كان خاله فتحي هاشم يصطحبه معه وهو في سن الحادية عشرة تقريباً إلى قصر ثقافة الحرية. فأكمل قراءة جميع الكتب في مكتبة الأطفال هناك في شهرين فقط. ثم صار يتسلل خفية إلى مكتبة الكبار حيث الكتب الحقيقية من وجهة نظره. وقد شهدت مكتبة الكبار بالقصر حبه الأول وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره حين شكته موظفة المكتبة إلى المديرة بسبب تسلله المتكرر إلى قسم الكبار رغم إخراجه من المكتبة عدة مرات. وحين نظرت إليه مديرة المكتبة، رأى يوسف وقتها بحراً من عسل الجنة كما يقول: وابتسمت .. فانطلقت أغنيات من خلف الكون، وشعرت بأن الأشياء تلاشت من حولي، أفقت حين توجَّهت بكلامها إليَّ مستفسرة عن الموضوع، رجوتها -بكلمات لا أذكرها الآن- أن تسمح بدخولي مكتبة الكبار فوافقت، ودعتني لحضور ندوة في اليوم التالي لمناقشة رواية دافيد كوبرفيلد. فقرأت الرواية في النهار، وشاركت الكبار في مناقشتها في المساء, فأعطتني المديرة في نهاية الندوة قلماً بديعاً مزخرفاً هدية من القصر .

شغفه بالكتاب:
من القراءة إلى المخطوطات
حين التحق يوسف بمدرسة العطارين الإعدادية لم تعد مكتبة قصر الثقافة تكفيه. فاستدل على ميدان المحطة, حيث كان تجار الكتب يبيعون الكتاب الواحد بخمسة وسبعين قرشاً، وحين إرجاعه ينقص ثمنه عشرة قروش هي ثمن قراءته. فكان يقرأ كتابين في اليوم حين توصل إلى اتفاق بعد مفاوضات مع تجار الكتب وهو أن يعيروه الكتاب بخمسة قروش فقط.

استمر على هذه الحال حتى التحق بثانوية العباسية وصار يهرب من المدرسة للبقاء في مكتبة بلدية الأسكندرية لأطول وقت ممكن لاستهانته بالمقررات الدراسية. وقد كانت كتب الفلسفة متعته الحقيقية خاصة كتب نيتشه, ومن بعدها الكتب اليونانية القديمة والغربية الحديثة. ثم حصل لاحقاً على درجة الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية من جامعة الأسكندرية عام 1989م, ثم درجة الأستاذية في الفلسفة وتاريخ العلوم في ديسمبر 1999م، بإجماع لجنة الترقيات بالمجلس الأعلى للجامعات. وكان أول كتبه المنشورة تحقيق المقدمة في التصوف لأبي عبدالرحمن السلمي.

بدأ اهتمامه بالتراث من صالات المزادات في منطقة العطارين بالأسكندرية, وهي منطقة قديمة تنتشر بها محلات العاديات والتحف الأثرية بالإضافة إلى صالات ودكاكين للمزادات. كان شغوفاً بالتجول فيها عندما كان صغيراً لقربها من المنطقة التي نشأ فيها, وقد كان يشتري بعض الأشياء القديمة إذا سمحت له ميزانيته بذلك ويقوم بإصلاحها وإعادة تلميعها. وهكذا استمر شغفه بكل ما هو قديم حتى أثار ابن النفيس اهتمامه، فبدأ بجمع كل ما ينتمي إلى ابن النفيس من مخطوطات، حتى أصدر عنه أربعة كتب نالت عام 1994م جائزة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية / مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، في مجال الفقه الطبي وتحقيق التراث وفق أصول فن التحقيق. ثم قام في إطار اهتمامه بابن النفيس بجمع مخطوطات الشامل -وهو موسوعة صيدلانية لابن النفيس- من مكتبات العالم وخزانات المخطوطات العتيقة كافة. وظلَّ يجتهد في استكمال الأجزاء المتناثرة حتى اجتمع بين يديه أربعون كتاباً من موسوعة الشامل ، وقام بتحقيقها ودراسة نصها المخطوط، إلى أن صدر الكتاب في ثلاثين جزءاً نشرها المجمع الثقافي بأبوظبي إيماناً بأهميتها.

عمل الدكتور يوسف مستشاراً لمشروع المخطوطات بمركز المعلومات، كما أشرف على سلسلة كتب الفلسفة والعلم التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وزارة الثقافة المصرية. كما قام -منذ مطلع التسعينيات- بفهرسة حوالي 18،000 مخطوطة موزَّعة على مكتبات مصر. وأشرف على سلسلة كتب تراثنا التي تصدرها دار الأمين ومطابع سجل العرب بالقاهرة, إضافة إلى عمله كمستشار للتراث والمخطوطات ومشرف على قسم المخطوطات والكتب النادرة بمكتبة الإسكندرية، وأميناً للتزويد بالمكتبة منذ عام 1994م, له ما يقرب من 52 كتاباً ما بين دراسة وتحقيق وتأليف, و600 مقالة منشورة في الجرائد والمجلات، فضلاً عما قدَّمه عبر عالم الإنترنت والبرمجيات في محاولة لسد الفراغ فيما يتعلق بالتراث والمخطوطات العربية والإسلامية على شبكة الإنترنت. ومن ضمن إسهاماته في هذا المجال موقع الدكتور يوسف زيدان المجاني على شبكة الإنترنت بجهد شخصي منه. وهو خلاصة رحلته الثقافية على مدى 20 عاماً, إضافة إلى إصدار مجموعة أسطوانات رقمية تحتوي على بعض المخطوطات القيِّمة كنصوص كاملة مع برنامج تصفح للمخطوطة مثل: قصيدة البُردة للبوصيري، و التاريخ الكبير للمقريزي, و ديوان الأريب في مختصر مغنى اللبيب ، وغير ذلك..

يعمل الدكتور يوسف زيدان الآن مديراً لإدارتي المخطوطات والتزويد بمكتبة الإسكندرية, ونشرت دراسات عديدة عن أعماله مثل (عاشق المخطوطات, دراسة في أعمال يوسف زيدان التراثية). كما ترجمت بعض أعماله إلى لغات أجنبية. من أعماله الأدبية رواية ظل الأفعى ، ورواية عزازيل , الصادرتان عن دار الشروق. وقد أثارت رواية عزازيل جدلاً واسعاً، ورشحت من ضمن 131 رواية لجائزة بوكر للرواية العربية لعام 2009م.

أضف تعليق

التعليقات