حياتنا اليوم

الرسائل في الوسائل

إذا قرأت كتاباً مقسماً على مقالات متتابعة في جريدة، فإن وقع مضمون النصوص عليك يختلف عما لو قرأتها كما هي في الأصل ضمن الكتاب المجموع نفسه. فنص على صفحة كتاب مكتمل، غير نص على صفحة جريدة يومية. ومن المعروف في الأوساط الصحافية أن المقال حين يُقرأ مكتوباً باليد، غير المقال الذي يظهر في اليوم التالي في الجريدة. فلعامود الجريدة بدوره رهبة أخرى، والكلام المصفوف حروفاً طباعية يُدخل على النفس غير ما يدخله نص بخط اليد، وكأن نفس الكلام في الحالتين يختلف معناه وتختلف مدلولاته رغم تطابق الكلمات.

والناس تحس بهذه الفوارق، وتتصرف بناءً على هذا الإحساس في حياتها اليومية، من أبسط الرسائل الحميمة حتى أبلغ الخطابات. وبعد أن تكون الصياغة قد اكتملت ينظر «المُرسل إلى الوسيلة ويقرر ما إذا كانت مناسبة أم لا.

وكم من مرسل لهدية شخصية تراجع -على سبيل المثال- عن بطاقة فاخرة كبيرة، وقرر الكتابة على بطاقة صغيرة ليكتب فيها ما كان مكتوباً في الكبيرة، وذلك لأنه شعر أن ما يريد أن يقوله يكون أوقع وأصدق في البطاقة الصغيرة.

واليوم، مع تعدد وسائل التراسل والمخاطبة وتعاظمها، يجد كل واحد منا «مينيو تراسل طويلة يختار منها، بدءاً بالرسالة المكتوبة باليد (وما زالت متوافرة) إلى الفاكس إلى الإيميل إلى رسالة الجوال إلى رسالة «تخاطب عبر الكمبيوتر.. والحبل على الجرَّار. والناس بلا شك يدرِّبون أنفسهم على معرفة خصائص كل واحدة من هذه الوسائل.. حسناتها وسيئاتها.. مزاياها، وأوجه تصورها.

وهنا أيضاً يختلف وقع القول من وسيلة إلى أخرى، حتى لو كان الكلام واحداً أو يكاد. فنوع الجهد الذي يفترضه المستلم بالمرسل يؤثر بمضمون الرسالة، ويكون اختلافه أكبر أيضاً باختلاف المرسل إليه. فرسالة ترسلها من خلال الجوال وتصل إلى الفريق الآخر وتُقرأ عبر الشاشة يختلف مضمونها بسبب اختلاف أسلوب قراءتها عما لو أرسلتها هي نفسها عبر الإيميل.

فشخصية الشاشة الصغيرة تؤثر في وقع مضمون الرسالة. كما أن برنامج المراسلات عبر الإيميل يضفي شيئاً من شخصيته على رسالة وصلت عبره.

ولا شك في أن جزءاً من الاختلاف يعود إلى حيثيات أخرى، منها الافتراض الذي يكونه المستلم تلقائياً عن اختيار المرسل لهذه الوسيلة أو تلك، وانعكاس ذلك على معنى موقفه من موضوع الرسالة!

حين طرح «مكلوهن نظريته المعروفة في الستينيات حول دور التلفزيون كجهاز في حياة المجتمع المعاصر، ورفع شعار «الرسالة في الوسيلة ، وجد الناس صعوبة في الإمساك بهذه النظرية رغم أنها ذاعت وشاعت. ولربما قصد مكلوهن أن التلفزيون يمثل نمطاً متكاملاً للحياة الاجتماعية وأسلوباً في التفكير، كما أنه يقدِّم فلسفة في التسلية وحياة المجتمع الاستهلاكي. وعندما أختار التلفزيون كوسيلة لي، فهذا اعتراف مني بقبول المجتمع الذي خلق التلفزيون وقبول أسلوب حياته.

ولاشك في أن هذه النظرية زئبقية بشكل أو بآخر، إذ يأتي المرء ليضرب مثلاً حول صدقها فيجد أنه أقرب إلى من يحاول مسك الهواء. وعلى الرغم من ذلك، وجدت هذه النظرية الكثيرين ممن اقتنعوا بأنها أصابت هدفاً.. دون أن يرى أحد زجاجاً مكسراً على الأرض!

فما من شك في أن الوسيلة تؤثر في المضمون الذي تحمله، وتصبغ عليه من كيانها وشخصيتها شيئاً، قل أو كثر. فالعصر قد وضع بين يديك كل أنواع الوسائل.. وترك لك أن تختار الرسالة.

أضف تعليق

التعليقات