يكاد المستشعر (أو الحسّاس – Sensor) أن يصير أحد أكثر المنتجات التقنية انتشاراً، كماً ونوعاً. ذلك أن مدى تطبيقات المستشعرات وتعدادها تفرض تصنيعها بكميات مهولة.
إن المستشعرات تحوطنا في الحياة المعاصرة حيثما التفتنا، ولا مفر من نطاق استشعارها. فهي موجودة في ساعتك الذكية وفي هاتفك الذكي، وتحمل سيارتك العشرات منها لتستشعر لك مستوى السوائل في المحرك وضغط الهواء في الإطارات ودرجة الحرارة في الخارج ومدى قربك من المركبات الأخرى حولك على الطريق. كما أن لواقط (ساهر) ما هي إلا مستشعرات للسرعة موصلة بكاميرات عالية الكفاءة. فضلاً عن أن مستشعرات من نوع مختلف موجودة في كاميرتك الرقمية التي بفضلها صار اللفظ «سينسور» دارجاً وشبه معرّب! وبفضل هذا الـ «سينسور» بتنا نشهد تقدماً مطّرداً في الرعاية الصحية، وتطبيقات الأمن والسلامة. كما لا يمكن تصوّر منزل المستقبل دون عشرات المستشعرات التي ستكون جزءاً أصيلاً في كل قطعة أثاث يمكن تخيلها، ناهيك عن التطبيقات العسكرية التي هي دوماً أول المستفيدين والموجّهين لناصية المنتجات التقنية.
فما هو هذا المُنتج الاستشعاري بالضبط؟ ولم هو على كل هذا القدر من النفوذ والأهمية؟
باختصار.. حاسوب صغير جداً
المستشعر ما هو إلا وحدة معالجة حاسوبية صغيرة جداً. فهو عبارة عن معالج (Processor) مكرّس في الغالب لقياس نوع محدد من البيانات. فمثلاً:
• مستشعرات الحرارة: تقيس درجة حرارة الجو – فقط – وتعطينا إياها على شاشات سياراتنا أو ساعاتنا الذكية. وقد تُستخدم كذلك لتقيس حرارة المريض. وربما تم تسخيرها في التطبيقات المخبرية أو الأمنية كي يتم وقف التجربة إذا وصلت درجة حرارة المزيج لمستوى معيَّن، أو لإطلاق إنذار لو تم استشعار ارتفاع مفاجئ ينبِّئ عن حريق في أي من أجزاء المبنى.
• مستشعرات الضغط: سواء أكان الضغط الجوي، أو الضغط الفيزيائي الناجم عن كتلة جسم ما. يسعنا مجدداً أن نتخيل تطبيقاً أمنياً مبنياً على مستشعرات مدمجة بالأرضية ترسل إنذاراً فيما لو مشى أحد فوقها خارج وقت دوام بنك ما مثلاً.
• مستشعرات الأجسام عن بُعد: وهذه نعرفها جيداً في السيارات. وقد تستخدم في تطبيقات تساعد على توجيه كفيفي البصر.
هناك أنواع أخرى عديدة من المستشعرات الخاصة بقراءة مستوى الإضاءة، ونسبة التلوث، وتسجيل أنماط الحركة وسواها. وكلها في النهاية عبارة عن معالجات حاسوبية مخصصة لجمع نوعية معيَّنة من القراءات أو لإرسال إشارة عند قراءة قيمة معيَّنة – تفوق مستوى الخطر أو تستدعي اتخاذ إجراء ما – وكي يعمل هذا المُعالج فلا بد من بطارية تزوده بالطاقة. هذه البطارية قد تستغل أيضاً لتشغيل وحدة إرسال واستقبال لاسلكية تمكّن المستشعر من التواصل مع مستشعرات أو آلات أخرى عن بُعد. وتعطينا هذه المكونات الثلاثة (مُعالج، بطارية، وهوائي الاتصال) مستشعراً لاسلكياً (Wireless Sensor).
إن المستشعر، بقدرته على قراءة وتوصيل البيانات، هو بمنزلة وحدة التفكير الخاصة بأي آلة. لذا درجنا على وصم الموجودات التي يسعها الإفادة من قراءات مستشعراتها بـ «الذكية». فالمنزل الذكي يعرف أن درجة حرارته تستدعي إطفاء المكيفات لتوفير الطاقة. والمكتب الذكي يعرف أن صاحبه قد وصل فيشغل جهاز إعداد القهوة. والسيارة الذكية تعرف أن قائدها قد انتابه النعاس فتدق جرس تحذير له.
التطبيقات الأكثر شيوعاً للمستشعرات هي تطبيقات متعلِّقة بالتنبؤ بالطقس وبمراقبة الحياة البرية، إضافة إلى تطبيقات السلامة والصحة سالفة الذكر. وكلما صغر حجم المستشعر زادت الدهشة في مدى تطبيقاته. لكن علينا أن ندرك أن مزيداً من التصغير لمكونات المستشعرات يمثل تحدياً لمستوى الكفاءة والتشغيل. لأن البطاريات الأصغر – مثلاً – ستعيش أعماراً أقصر. لهذا يعمد مطورو تطبيقات المستشعرات – في البيئات القاسية كالمصانع والمناجم وميادين القتال – إلى استخدام أعداد كبيرة منها، أكثر من اللازم بكثير، وذلك لأجل تجاوز معضلة الفقد السريع للمستشعرات سواء بالإتلاف أو بنضوب طاقة البطاريات.
وفيما يلي سنذكر تطبيقين مدهشين للمستشعرات يعبِّران عن الرؤية التي يراد لهذه المنتجات أن تحققها.
الغبار الذكي.. والجسد الذكي
مشروع الغبار الذكي (Smart Dust) هو مشروع عسكري أمريكي جارٍ العمل عليه من تسعينيات القرن العشرين. يهدف هذا المشروع إلى إيجاد بنية تحتية آنية مكونة من آلاف – وربما ملايين – المكونات الإلكترونية الصغيرة، لا تتجاوز أبعادها الملليمترين، من مستشعرات وروبوتات ووحدات قراءة وتبادل البيانات في مناطق العمليات العسكرية، بحيث يتم رصد كل تغيير ممكن في البيئة تحت المراقبة؛ كل حركة كائن حي أو آلية، كل تغير في الحرارة أو الطقس أو المكونات الكيميائية أو مستوى الإضاءة، والمراد من ذلك كله تحقيق التحكم الكامل بميدان القتال عن بُعد.
إن مشروع الغبار الذكي قد تطور كثيراً خلال العقدين الفائتين بما يليق بالتطور المدهش في تصميم وبنية الإلكترونيات. كما أنه كان مصدر إلهام لتطبيق مدني لا يقل طموحاً عنه يعرف بـ «إنترنت الأشياء»، الذي تم استعراضه بالتفصيل في عدد مايو-يونيو الفائت. ويهدف إلى ربط كل ما نملك، من ملابس وأثاث وحيوانات أليفة ومستندات في شبكة واحدة هائلة عمادها المستشعرات والمعرفات الراديوية.
لكن المستشعرات الدقيقة لا يراد لها أن تراقب بيئاتنا الخارجية وحسب. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي يتحدث الأطباء والمهندسون عن مستشعرات خارقة يمكنها أن تُزرع في أجسادنا، أو نبتلعها كالكبسولات كي تسبح في مجرى الدم لا لتعالج الخلايا المريضة وحسب، بل ولتستشرف المرض قبل وقوعه بالتقاط مؤشراته المبكرة وتحذيرنا منها كذلك. وهي أفكار باتت تتجسد بوتيرة متسارعة بالتضافر مع التقدم الهائل في تقنيات التصغير وتصنيع المركبات الإلكترونية النانوية