فرض تطور الاقتصاد العالمي عموماً وقطاع الصناعة التكنولوجية خصوصاً، جملة معطيات جديدة لا تزال تتكشف تباعاً، وكان آخرها المكانة الكبيرة التي باتت تُعطى لأصحاب المواهب والكفاءات المميَّزة من بين الموارد البشرية.
والواقع أن مكانة الكفاءات كانت دوماً تحظى باعتراف الجميع. ولكن الحاصل الآن هو تبدل دور الكفاءة الكبيرة وشراهة الشركات في الاستحواذ عليها. ولأن المعروض من هذه الكفاءات أقل من المطلوب، بات هناك ما يشبه حرب الأدمغة بين الشركات، حرب من أهم أسلحتها المكافآت الضخمة، ومن أبرز خسائرها الولاء الوظيفي والأمان، كما تبيِّن الباحثة هدى بتروبولس في هذه القراءة التحليلية لتهافت اقتصاد بلاد العالم على الكفاءات.
نقص الكفاءات يلوح غمامة سوداء ، تُظهر هذه العبارة، وهي من حديث لمتخصصين في الموارد البشرية، قلقاً متزايداً اليوم تجاه ندرة الكفاءات وتخوفاً من تفاقم المشكلة في المستقبل.
وتبدو صناعات التكنولوجيا المتطورة الأكثر تأثراً بها، وبعضها يضطر لتلبية الطلب إلى زيادة ساعات العمل، ورعاية مواهب جديدة، والبحث عن عمالة من الخارج، وحتى نقل بعض عمليات الإنتاج إلى الخارج، وإعادة موظفين من التقاعد. وتعاني البلدان النامية هذه المشكلة بشكل مضاعف نتيجة الواقع التعليمي الضعيف. إنها كعب أخيل الشركات التكنولوجية التي تنمو بسرعة في البلدان الناهضة كالهند، وهي إعاقة مهمة للبلدان التي تطمح إلى تطوير صناعات جديدة. كما أن الشركات العالمية باتت تراها مشكلة أمام توسيع أعمالها في تلك البلدان.
وليس صدفة أن يأتي حديث الساعة، في السياسات الوطنية وفي مؤتمرات الأعمال كاجتماعات دافوس، مركزاً على موضوع التعليم، ولكن ليس فقط التعليم. فمكامن الخلل، حسبما يراها المحللون، متنوِّعة. ومن مظاهرها، إلى جانب عدم مواكبة التعليم والتدريب للتحوّلات التي باتت تزيد من اعتماد الاقتصاد على المعرفة، هناك تبدل المعايير في سوق العمل التي تعيد من جديد النظر في مسؤوليات الشركات والأفراد، والهوة الاجتماعية والاقتصادية التي خلَّفها تطور سريع في محيط غير منضبط.
إن الاندفاعة التي عرفتها مرونة سوق العمل في اقتصاد الدول المتقدمة خلال العقود الماضية، والتي أسهمت في تقليص التكلفة والاستغناء عن عدد مهم من الوظائف، تظهر اليوم عقبة أمام القطاعات التي تنمو وتبحث عن مواهب قديمة وجديدة مع ليونة انتقال هذه الكفاءات من موقع عمل إلى آخر. وتجد الشركات نفسها ضمن حرب أدمغة في موقع المنافسة على اصطياد المواهب، وتواجه معضلة أكبر وهي كيفية الحفاظ عليها.
في طلب الكفاءات والمهارات والمواهب
تعطي الأفكار الاقتصادية الرائجة اليوم انطباعاً متفائلاً بأن المجتمعات تسير في اتجاه يزيد مكانة المعرفة في بنيان التطور والنمو. يشار مثلاً إلى أن المنتج الاقتصادي في الدول المتطورة يميل إلى أن يكون معرفياً أكثر مما هو مادي، وأن الوظائف الأعقد والتي تحتاج إلى عمل خلاَّق وقدرة على حل المشكلات تزداد نسبة نموها مقارنة بالوظائف الأخرى، وأن ميولاً كهذه ستشهدها أيضاً الدول الأخرى.
لا تحظى هذه النظرة المتفائلة بموافقة جميع المتفحصين. فبعضهم لا يزال يرى أن الثورة الرقمية رغم تأثيراتها الواسعة والمهمة، حيث أحلَّت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات موقعاً دينامياً في الاقتصاد وفي التراكم، لم تحمل معها أثراً شاملاً خاصة على القطاعات المنتجة، والمتأثر بها هي قطاعات التجارة والخدمات وبشكل رئيس القطاع المالي.
ورغم ذلك، فإن صياغة مؤشرات لما يحمله هذا التحول من مدلولات قد تتطلب أن يجاري المرء النظرة الأكثر تفاؤلاً، لكن بطريقة تستدعي التدقيق بها.
تقول هذه النظرة إن المهام الروتينية ستكون من عمل الحاسوب الإلكتروني وسيتوجه الإنسان إلى الأعمال الخلاَّقة وتلك التي تتضمن مشكلات تحتاج إلى حلول . تحوي هذه الأطروحة في الواقع نصف الكلام. فدخول الثورة الرقمية إلى الأعمال، بالإضافة إلى تقليصها للعمالة بشكل عام، أثَّرت، من دون شك، في زيادة نسبة تلك الأعمال الخلاَّقة، لكن نسبة مهمة أيضاً من الأعمال ظلت رتيبة، وربما أكثر رتابة من السابق لكنها مهذبة بإضافة بعض المهارات. فما أصبح ممكناً هو نقل هذه الوظائف غير المتطلبة بسبب معاييرها المنسجمة من البلدان المتطورة إلى أماكن أخرى حيث اليد العاملة أرخص.
بكلام آخر، إن زيادة نسبة الوظائف المعتمدة على المعرفة جرت جنباً إلى جنب مع توسُّع الهوَّة بين الوظائف بشكل عام على قاعدة هذه المعرفة.
ومن نتائج الثورة الرقمية أنها أدخلت الوظائف إلى عالم جديد من المهارات. وقد يصح وصف هذا التحوّل بالبنيوي، إذ يشير المحللون إلى أن المهارات المطلوبة اليوم أصبحت خليطاً من المهارات المتحوِّلة بشكل مستمر . أي أنه لم يعد يكفي أن يعرف المرء المهارات المتخصصة والمتعلِّقة بوظيفته، فمتطلبات الوظيفة أصبحت تستدعي مهارات إضافية وأحياناً متنوعة، وازدادت قيمة مهارات الاتصال، بينما برزت المهارات الأساسية في حد الوظيفة الأدنى، وطُرحت الحاجة إلى التحوُّل المستمر في إطار المواكبة الدائمة للتطورات التي تحصل بسرعة. فقد أصبح العمال التقليديون في الصناعات، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى تدريب متخصص لتشغيل الروبوتات في خطوط الإنتاج التي تعمل على الكمبيوتر. والعمال التقنيون يحتاجون إلى قراءة كتيبات إرشاد بكاملها. والعلماء يحتاجون إلى مهارات محاسب، والمهندسون إلى برامج حاسوبية. وعملياً يُطلب من جميع الموظفين الإداريين بعض المهارات الحسابية لحفظ السجلات وتطبيق عمليات إحصائية وغير ذلك من الأمور.
وحصيلة الأمر، أن المهارات أصبحت تأخذ حيِّزاً كبيراً من الوظيفة، بينما الألقاب المهنية المرتبطة بمهام ثابتة تميل مع الوقت إلى أن تكون أضعف.
ومن خصائص المواكبة أن التعليم والتدريب المستمرين أصبحا جزءاً أساسياً من الوظيفة، لا سيما الوظائف التي تتطلب درجة من الكفاءة. ويلقي هذا المعطى مسؤوليات أكبر على عاتق الشركات، وربما أكثر من ذلك على عاتق الأفراد العاملين. وتدل عيّنة من مواصفات الوظيفة، كما يراها متخصصون في شؤون العمل، على طبيعة هذه المسؤولية بالنسبة إلى الأفراد. وهي تقول إن العاملين بحاجة إلى أن يدركوا أنهم المسؤولون عن تطورهم المهني ، وأن عليهم أن يضعوا في اعتباراتهم التعلم الدائم المستمر ، ويحتاجون إلى التحقق النشيط بأنفسهم بالاختيارات المتوافرة لهم ، وينتظر منهم أن يجدوا ما يعنيه تأثير التكنولوجيا في مهامهم وأن يفعلوا شيئاً بخصوصه ، و ألاَّ ينتظروا من صاحب العمل أن يهيئهم لمهام متغيّرة وربما سيكون عليهم أن يرفعوا من شأن قدراتهم على حسابهم الشخصي خارج العمل ، حسبما جاء على لسان إلاين أو. رايلي من المؤسسة الكندية لتطوير المهن.
تعبِّر هذه المتغيِّرات عن استقلال العاملين المتزايد على قاعدة المعرفة التي يملكونها. وهي تخاطب مرحلة شهدت فيها سوق العمل مزيداً من المرونة وعدم الأمان الوظيفي. إلا أنها استقلالية باتت تقابلها أيضاً مسؤوليات متزايدة للأعمال في سعيها لجذب الكفاءات والحفاظ عليها.
ومن مفارقات هذا التطوّر، أن طلب العمالة غير الماهرة لم يتراجع بشكل فعلي، لا بل تقدَّم في عدد من المجالات. ومن مظاهره البارزة تضخم ظاهرة العمالة المهاجرة غير الشرعية في أسواق البلدان المتطورة التي لا تزال تطلبها الصناعات والزراعة وعدد كبير من الخدمات المتزايدة، مثل المطاعم والخدمة المنزلية وغيرها، التي يحتاجها مجتمع يكرِّس أفراده وقتاً متزايداً للعمل.
المنافسة إلى جانب المعرفة
لم تأتِ هذه التحوّلات في فراغ، بل ضمن محيط تنافسي تقوَّى مع الانفتاح الاقتصادي المتزايد في الداخل والخارج، مما أعطى لطلب الكفاءات بعداً جديداً. ففي وضع يسقط فيه عدد من الحواجز والدفاعات لدى الشركات والبلدان، وتتطور تحوّلات تكنولوجية ومعرفية بشكل متسارع، أصبحت المنافسة بين الشركات أكثر حدَّة بكثير من السابق، وطُرِح الابتكار كأحد أهم عناصرها، ويراه البعض أكثر أهمية من الإنتاجية لدى عدد من الصناعات. وبالتالي فإن الشركات في تنافسها تبحث عن الكفاءات الأفضل ضمن الحاجة إلى الابتكار، وكعنصر أساسي في تقرير المنافسة الحادة بينها.
لذلك، يجد اليوم تعبير الموهبة طريقه إلى القاموس الاقتصادي، وينتشر استخدامه بشكل واسع في الأعمال، بالرغم من أنه لا يوجد تعريف دقيق لهذا التعبير. فـ الموهبة باتت تعتبر السلعة الاقتصادية الأهم في الاقتصاد المتطور. ومع صعوبة اعتماد تعريف واضح للموهبة فإن أوجه الاستخدام الأكثر اعتماداً لها لا تحصرها بالمعنى الضيق أو تشملها بالمعنى الواسع، بل تستخدمها كتعبير عن القوة الذهنية، كما يشير مقال في الإيكونومويست (5-10-2006م)، وهي القدرة على حل مشكلات معقَّدة أو ابتكار حلول جديدة، مع إيلاء اهتمام أساسي لما يسمى اليوم عمَّال المعرفة.
إن هذا التبدُّل في النظر إلى الكفاءات ضمن اقتصاد تتوسع قاعدته المعرفية في وسط محيط تنافسي حاد، يحمل أيضاً دلالات اجتماعية على قدر كبير من الأهمية. فتعبير الموهبة أصبح أيضاً مرادفاً لتحديد موقع نخبوي في السلم الاجتماعي، وعلى صعد مختلفة اقتصادية وعلمية واجتماعية وثقافية تفصلها عن غيرها تباينات واضحة في سلَّم المكافآت.
والظاهرة، في الواقع، ذات حدين مترابطين. فهناك من جهة تزايد النخبوية، ومن جهة أخرى نقص الأمان. سواءأكان الأمان يتعلق بالوظيفة أم بالشركة التي تجد نفسها أمام درجة أعلى من المخاطر في واقع تنافسي ومتقلب.
نخبوية أكثر وأمان أقل
من مفارقات التطور الاقتصادي أنه يحصل بشكل غير متساوٍ. كأن تجد الشركات التكنولوجية الأوروبية نفسها وسط مشكلة البحث عن كفاءات، بينما نسبة البطالة مرتفعة ودائمة، وأن ينمو ويتطور قطاع خدمات التكنولوجيا العالية في البلدان الناهضة كجزيرة معزولة عن وسط مغاير يغلب فيه الفقر وعدم المعرفة. وأن يزداد الفقير فقراً في البلد المتطور ويزداد الغني غنىً.
إن عدم التساوي يظهر أيضاً في الوظائف بطريقة تتسع فيها الهوَّة بين وظائف نخبوية وأعمال أخرى. تدل المؤشرات في الاقتصاد المتأثر بالتحوّل، كالولايات المتحدة، إلى أن التباين في الأجور ازداد أكثر بين الأجور المرتفعة والأجور المتوسطة خلال العقود الثلاثة الماضية، بينما ضاقت الهوَّة بين الأجور المتوسطة والأجور المنخفضة خلال التسعينيات واستقرت بعد ذلك. وزادت الفوارق بين دخل العمال حسب مستوى التعليم والمهارات منذ التسعينيات. ويظهر التباين أوضح مع التضخم الكبير في أجور مديري الشركات وعلاواتهم في قمة الهرم، الذين وصلت مكافآتهم، إذا ما أُخذت الأجور فقط بالاعتبار، إلى حوالي 300 ضعف أجر العامل العادي عام 2000م بينما كانت هذه النسبة 24 ضعفاً عام 1967م، حسبما يشير باحثون من معهد السياسة الاقتصادية في واشنطن.
تعزو بعض التحاليل سبب هذا التباين إلى ازدياد القيمة الاقتصادية لما يسمى عنصر الموهبة ، التي يرتبط عملها باستحداث نشاط جديد وتطوير منتجات وتقنيات جديدة، وعلى أساس أن مكافأة المواهب مسألة مهمة لضمان توزّعها الفعَّال ضمن العملية الاقتصادية. أما المكافآت الصارخة التي تصل إلى مبالغ تجافي القيم الاجتماعية المقبولة، فتعزى أسبابها إلى مسألة صعوبة تحديد مردود هذه الموهبة. تُطرح هذه الصعوبة، كما يرى هذا التحليل، بشكل خاص بالنسبة للنشاط الإبداعي، كالموسيقى والرياضة والتصميم، وبالنسبة للأعمال، خاصة ضمن التفكير الرائج بأن أصحاب الأعمال (أو المديرين التنفيذيين) هم الذين يقدرون على كسر الوضع القائم والابتكار بدل القيام فقط بتكرارعملية التراكم. وتخلق هذه العملية في سياقها مواهب سوبر نخبوية ، حيث العوائد المطروحة كبيرة جداً بالمقارنة مع الفوارق البسيطة في القدرات، كما في اللعبة التنافسية التي تنتهي برابح يحوز كل شيء، وذلك بالنظر إلى الألعاب الرياضية حيث مكافأة الرابح الأول لا تقارن بما يحصل عليه من يأتي في المرتبة الثانية.
إلا أنه يجب أيضاً البحث عن الأسباب في صلب الحالة الاقتصادية التي نشأت عنها هذه الظواهر. وهي حالة تفككت فيها الكثير من الضوابط لصالح ما اعتبر تحريراً للأسواق سواء أكانت أسواق العمل أو البضائع أو الأسواق المالية. وقد زاد هذا التبدل بشكل كبير من الفرص والمخاطر بالنسبة للشركات، التي تجد نفسها وسط منافسة حادة وأمام فرص لأسواق جديدة وحركة اندماج بين الشركات هي الأهم منذ بدايات القرن الماضي. وتصل هذه العلاقة بين ضخامة الفرص وضخامة المخاطر في الأسواق المالية، إلى حد يجعل المرء يتساءل ما إذا كان يجوز مقارنة اللعبة بمقامرة تنتقل فيها بغمضة عين الأموال الطائلة من موقع إلى آخر. ولذلك، يمكننا أن نفسِّر مثلاً لماذا تكافئ الصناديق المالية مديريها إلى حد لا يتصوره عاقل، كأن يتجاوز مثلاً دخل 25 مديراً في صناديق التحويط (هيدج فاندز) والمقدر بـ 15 بليون دولار ضعفي موازنة لبنان والدخل القومي الأردني (جريدة الحياة في 25-4-2007 نقلاً عن مجلة ألفا ماغازين ). وهو دخل يمكن مقارنته العقلانية فقط بضخامة العائدات، التي يقابلها احتمال ضخامة الخسائر، التي تجنيها شركات مالية غير منتجة من المضاربات أو في عمليات الاندماج.
تقابل ذلك ظاهرة أخرى لا تقل أهمية، وهي سرعة انتقال المديرين التنفيذيين في الشركات العالمية، وفي أغلب الأحيان عبر الاستغناء عن خدماتهم أو التعاقد معهم على مدى قصير جداً. وتُطرح عادة من منظور مجالس إدارة الشركات مسألتان: الأولى وتتعلق بدورة حياة الشركة والدورة الاقتصادية (ركود أو نهوض أو توسع أو تقليص .. الخ) التي تُظهر الحاجة إلى اختصاصات متغيِّرة مع الوقت. أما المسألة الأخرى فترتبط بطبيعة العلاقة بين مجلس إدارة الشركة والمديرين، التي لا تتأسس على الثقة والولاء بل على حسابات الربح والخسارة على المدى القصير المقترنة أيضاً بصعوبة تقدير النتائج. فاستعداد إدارات الشركات وأصحاب الأسهم لدفع أجور وعلاوات صارخة يقابله توقع الأداء الأفضل منهم أو المخاطرة بخسارة موقعهم.
إن مرونة انتقال الكفاءات والمواهب تتجلى كظاهرة أشمل وعالمية الأبعاد أيضاً. وقد باتت تهّز مضاجع عدد من الشركات. فنقص الكفاءات، والتنافس على ما هو متوافر منها تظهر وكأنها حرب أدمغة بين الشركات لاصطياد المواهب بعضها من البعض. لكن المعارك الصغيرة لن تحل المشكلة، والاتجاه يتطور نحو استراتيجيات على الأمد الأطول مع اعتراف متزايد بأن هناك حاجة لإرساء سياسات مبنية على قاعدة أقوى من الاستقرار داخل الشركات، وأن المواكبة المجتمعية، خاصة في التعليم، باتت أكثر إلحاحاً.
بين حرب الأدمغة وسياسات أبعد
تزيد المعارك الصغيرة من نسبة المخاطر بالنسبة للشركات، وأيضاً من احتمالات زيادة أعباء تكلفة مترتبة على عمال المعرفة. ولذلك تتقوى النزعة إلى اعتماد سياسات أبعد مدىً تركِّز على التعليم وعلى تهيئة الظروف لاستقرار أكبر للأعمال، بالعودة إلى بعض الأصول ومواجهة مشكلة عدم الولاء الوظيفي.
إن النظرة السائدة اليوم في البلدان المتقدمة تقول إن نجاحها يعتمد بشكل متزايد على قدرتها على تعبئة القوة الذهنية لمواطنيها بشكل عام. وهذا المنظور التعبوي يضع موضوع التعليم في الواجهة، وبشكل أساسي مسألة تحسينه لملاءمة متطلبات سوق العمل لتحسين التعليم وزيادته بالنسبة للاختصاصات التقنية. وتظهر مقابلات مع مديرين تنفيذيين في القطاع التكنولوجي وجود شكوى من ضعف مواد الرياضيات والعلوم في نظام المدارس العامة في الولايات المتحدة بشكل لا يشجِّع على متابعة التحصيل في هذه الاختصاصات لاحقاً. ويبدو بالنظر إلى أوروبا أن المشكلة ليست في عدد من يتقدَّم إلى العمل بل في نوعيتهم ونسبة المؤهلين منهم، ويحيل البعض ذلك إلى أن النظام الجامعي يحتوي على عدد قليل من المعاهد التعليمية العليا في قمة الهرم، بينما ثمة كثير من الجامعات التي هي في أحسن الأحوال متوسطة الجودة.
وقد باتت قطاعات الأعمال معنية أكثر بالنظام التعليمي، وبعضها يتدخل مباشرة في تقديم مساعدات للمدارس والجامعات في مسعى منه إلى مواءمة البرامج مع حاجاته وجذب الطلاب أكثر إلى دراسة الرياضيات والعلوم، إضافة إلى محاولة التأثير في دفع التعليم العالي إلى تلبية متطلبات الوظيفة للوصول إلى الكفاءة الجامعة بين التعليم الأساسي والتعليم الداعم والمهارات والخبرة، مثل تضمين برامج التعليم العالي مواد في الخبرة والمهارات والإعداد للمهن.
إن رفع نوعية التعليم وعصرنته وشموليته وتطوير البنى التحتية الملائمة يشكِّل تحدياً أيضاً للبلدان الأقل تطوراً، وبإلحاح أكبر، في مواجهة ضعف تأهيل خريجي الجامعات والمعاهد التقنية لتلبية حاجات قطاعات متقدمة تتطور على تخوم اقتصادها، ولكي يشمل التعليم في المدى الطويل الفئات الواسعة التي لم يشملها بعد من خلال تعميمه وإلزاميته على الأقل في مراحله الأولى.
ويظهر نوع من الانسجام على مستوى المديرين التنفيذيين للشركات، خاصة في قطاعات التكنولوجيا العالية، على وضع مسألة تطوير التعليم والتدريب الداخلي في المقام الأول كأحد العناصر الرئيسة ضمن أولوياتها لصقل المواهب والحفاظ عليها. فهناك منافسة حادة على المواهب، يقول البعض، والناس لديها عدد من الفرص، و إذا لم نلبِّ حاجاتهم فسيذهبون إلى منافسينا، ولذلك نتعامل بشكل أكثر استراتيجي فيما يخص الموارد البشرية . وكانت الحاجة في السنوات الأخيرة قد فرضت إنشاء معاهد تدريب تحت ضغط نقص الكفاءات، وبرز الموضوع بشكل أكثر إلحاحاً في الدول الناهضة، التي تجد صعوبة أكبر في تلبية الطلب نظراً لضعف نظامها التعليمي العام، والمثل الواضح كان في الاندفاعة التي قامت بها شركات التكنولوجيا في الهند بالتعاون مع الحكومة ومعاهد التعليم، لإنشاء مراكز تدريب ضخمة لصقل المواهب الجديدة. بشكل عام باتت نظرة خبراء الموارد البشرية إلى التعليم على أنه مسألة أكثر من مجرد تكتيك لتحسين الأداء الوظيفي داخل الشركة، ويجري إعادة تصوّر له كعنصر استراتيجي أساسي في نجاح أية منظمة، والمتوقع هو أن يصبح التعليم أكثر اندماجاً مع العمل وليس خارجه.
وهناك جملة واسعة من الحوافز التي هي أيضاً في مركز اهتمام إدارة المواهب، كالمكافآت المالية ووضع مسارات مهنية بطريقة تناسب كل فرد والاستقرار الوظيفي والبحث عن عقود طويلة الأمد ودعم تطوير الموظفين لمهاراتهم ومكافأة الخبرة وسنوات العمل، وقواعد المعاملة وأخلاقيات العمل وعدم التمييز ومساعدة العاملين على الأداء الأفضل وغير ذلك. والميل أيضاً هو باتجاه تشديد الرقابة على الضوابط الداخلية للشركة خاصة بعد فضيحة شركة إمرون في الولايات المتحدة.
ولم يعد من الممكن إنكار أن البحث عن الكفاءات مسألة ذات بعد عالمي. فالخطوات التي تقوم بها الشركات للتعاقد من الباطن أو نقل أعمال إلى الخارج أو الشراكة مع شركات أخرى، تظهر أن من ضمن دوافعها هناك البحث عن الكفاءات. وحتى الحكومات فإنها تسير على خطى الشركات. إذ ان البلدان الغنية معنية أكثر اليوم بفتح أبوابها أمام هجرة العمالة الماهرة وإزالة العوائق والاهتمام بالجامعات كمراكز لاستقطاب الكفاءات. وهي تنظر إلى الموضوع على المدى الأطول لاعتبارات متعلقة بانحدار معدلات النمو السكاني. وبعض الدول الناهضة تعمل بدأب على تشجيع عودة الكفاءات المغتربة من خلال سياسات تسعى للتغلب على مواطن الضعف التي تؤدي إلى هجرتها بالأساس مثل تدني المكافآت وافتقاد الاعتراف بالمواهب وغياب مسار مهني وغيره.
وإذا كانت هذه المؤشرات، المستندة إلى استطلاعات لآراء المعنيين، جديرة بالانتباه فإن مدلولاتها تقول إن هناك احتمالاً للعودة إلى بعض الأصول التي أضعف منها كثيراً المحيط الاقتصادي وقلَّة أمانه. فقد تزداد النخبوية في إطار المعارك الصغيرة الدائرة على اجتذابها، لكنها ستضعف ويصبح توزيع الفائدة أوسع وأكثر مساواة على قاعدة عمل يزيد فيه الأمان وعلى قاعدة تعليم أكثر شمولاً وتطويراً.
اقرأ للموهبة
حرب الموهبة
على مدى العقود الماضية، أصبح الموظفون الموهوبون أهم من رأس المال أو استراتيجية البحث والتطوير في أي شركة من الشركات. ذلك حيث أن جذب الموظفين الأكفاء الموهوبين واستقطابهم يعد تحدياً للمؤسسات من جميع الأشكال والأحجام والاتجاهات. فنمو رأس المال البشري ضرورة استراتيجية للقرن الحادي والعشرين. كذلك أصبح الأشخاص الأكثر موهبة الدعامة الأساسية التي يرتكز إليها نجاح الشركة وتطورها.
كتاب حرب الموهبة , الذي يحتوي على 200 صفحة, تتويج لخمس سنوات من البحث المستفيض الذي شمل نحو 13,000 مدير تنفيذي من أكثر من 120 شركة، فضلاً عن دراسات من مختلف فروع الصناعة. فمؤلفو الكتاب إد مايكلز, وهيلين جونز, وبيث أكسيلرود، هم من مؤسسي الشركة الاستشاريه ماكينزي وشركاه التي صاغت واعتمدت عبارة حرب الموهبة قبل عدة سنوات. وكان المبدأ الأساسي لماكينزي هو أن على أرباب العمل أن يعتمدوا أكثر التقنيات المبتكرة في التوظيف، والاعتماد كل الاعتماد على الموظفين الأكفاء والموهوبين.
يحتوي الكتاب على سبعة فصول تصف عناصر جديدة ومدروسة أكثر لإدارة أكثر موهبة. وتقترح استراتيجية أجدى لتوظيف أصحاب الموهبة والكفاءات وتطوير المهارة القيادية. ويوصي بحتم الاستثمار في المواهب الشابة لنجاح الأعمال والشركات وازدهارها.