أبطالها أدباء ..القلم سلاحها الوحيد.. وضحاياها يتساقطون بلا دماء.. إنها المعارك الأدبية .. إحدى أبرز مظاهر الزمن الجميل للثقافة العربية.. فبينما كانت كوكب الشرق والعندليب الأسمر يصدحان بأغانيهما العذبة الممزوجة بهتافات الجمهور الصاخبة، كانت الصحف المصرية تشهد صخباً موازياً لمعارك حقيقية.. تغلب عليها سمة فرسان القرون الوسطى عندما جعلوا للمبارزة شرفاً وللموت قانوناً. كانت تلك المعارك تقليدية يتقابل فيها الفارسان وجهاً لوجه قبل أن يصوِّب كل واحد منهما سلاحه في وجه الآخر.. القلم كان السلاح الأمضى وصفحات الصحف والمجلات كانت ساحة المعركة التي تستمر لجولات طويلة وتستعر نيرانها بعد كل جولة قبل أن تعقد الأحلاف وتفتح الجبهات على هذا أو ذاك من المتعاركين..
قد يقول قائل إننا بعودتنا إلى ذلك الماضي القريب الذي كان حافلاً بمثل تلك المعارك بين أعلام الأدب والفكر، نجد أن بعضها كان يخرج عن أدبيات الحوار في أحيان، ولكنها كانت في ذات الوقت تضفي طابعاً من الحراك والحيوية على المشهد الثقافي العربي ويشعر معها القارئ العادي بمتعة عارمة شبيهة بمتعة أفلام الحروب والفروسية في القرون الوسطى. وإلى جانب ذلك الحراك الذي أحدث تفاعلاً شعبياً مع الحياة الثقافية وجعلها تنزل من بروجها العاجية ونخبويتها المطاطية، كانت تلك المعارك تنشئ تفاعلاً في الآراء يزيل عنها طابع الجمود.
لقد علقت تلك المعارك في صفحات تاريخ الثقافة العربية مخلِّفة نظريات وكتباً، فيما زال الطابع الشخصي الذي أسهم في إشعالها، وما زلنا نقرأ عن معارك خالدة في تاريخ الثقافة العربية لم نكن وقت وقوعها شاهدين عليها، كمعركة تلقيب أحمد شوقي أميراً للشعراء التي دارت رحاها بين طه حسين والعقاد. ومازلنا نقرأ كتاب على السفود للرافعي الذي فتح نيران قلمه على العقاد شخصاً وفكراً. ما زلنا كذلك نتذكر معركة جيم جدة بين عبدالقدوس الأنصاري وحمد الجاسر، وما حصل بين أحمد بن محمد الشامي ومحمد بن علي الأكوع في كتاب جناية الأكوع على التراث اليمني ، إلى غير ذلك من المعارك الأدبية المختلفة التي اندلعت نيرانها على الورق، ولكنها لم تلتهم شيئاً من الأخلاق ولم تنتقص سطراً من الأفكار. بل أساهمت في الإجابة عن الكثير من الأسئلة ووضعت الكثير من النقاط على الحروف. كمعارك أنيس منصور في الخمسينيات دارت حول الفلسطة والوجودية ومعركة وجود حضارات أو كائنات عاقلة في أماكن أخرى من العالم، هل هي موجودة أم غير موجودة، وهي من أغرب المعارك على الإطلاق.
ومن أشهر المعارك ما خاضه الدكتور زكي مبارك ضد أحمد أمين. حين كتب أحمد أمين سلسلة مقالات عنوانها جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي . ورد عليه الدكتور زكي مبارك بسلسلة صواريخ حملت عنوان جناية أحمد أمين على الأدب العربي وقد دارت رحى هذه المعركة في مجلتي الرسالة والثقافة.
وقد كان للمعارك الشعرية نصيبها من قائمة المعارك الأدبية التي أخذ النقد منها نصيب الأسد، ومن أهم تلك المعارك معركة هيمنة محمود سامي البارودي على كل من جاءوا من بعده وخلفوه في نظم القصيدة العربية المعاصرة، ومعركة ريادة الشعر العربي الحديث في العراق بين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة التي تدخل فيها كذلك البياتي وبلند الحيدري مطالبين بحق الريادة. وفي العراق أيضاً وعند الحديث عن المعارك الشعرية يبرز الشاعران الرصافي والزهاوي ومعاركهما الشعرية الشهيرة على صدر الصحف البغدادية. وفي هذا السياق نتذكر معركة قصيدة النثر في مصر والتي أعادها إلى الواجهة من جديد الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي من على صدر صحيفة الأهرام وهي المعركة التي انخرط فيها الكثير من الأدباء المصريين واتسعت رقعتها لتشمل الحداثة كلها.
لماذا صمتت مدافعها ؟
يظل السؤال الأكثر إلحاحاً لماذا صمتت المعارك الأدبية في يومنا هذا صمت القبور على الرغم من اتساع منابر النشر التقليدية والحديثة؟ الأديب العربي الكبير الراحل نجيب محفوظ يقدِّم تفسيراً لذلك بالقول: أعتقد أن السبب الأول هو الفجوة الكبيرة بين الأدباء والمفكرين وبين القارئ لأنه قاعدة المثلث. وإذا اختفت القاعدة لم يكن هناك مثلت. والقارئ لم يعد يتفاعل مع ما يكتب، لذلك نجد الكثير من الكتَّاب يصابون بالإحباط لأنهم كانوا يتوقعون -مثلاً- لفكرة ما أو لكتاب أن يحدث صدى أكثر فلا يحدث .