في عصر الاتصالات والسيطرة شبه المطلقة للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على الحياة، بات العالم على اتساعه في متناول أيدينا، فبضغطة زر واحدة يمكننا أن نحصل على معلومات عن أصغر جزيرة نائية في أقصى المحيط، أو نتسوق وتصلنا مشترياتنا دون أن نتحرك من مكاننا، بل ونعقد صداقات مع أناس من الطرف الآخر من العالم. هذا كله يجعلنا نشعر أننا شخصيات «كونية»، فهل يعقل أن تكون النتيجة مغايرة لتوقعاتنا؟ أي أنه كلما ازدادت تقنيات الاتصال تطوراً وتعقداً ازداد العالم انفصالاً؟!
إيثان زوكرمان في كتابه «إعادة الاتصال: الكونية الرقمية في عصر الاتصالات»، لم يكن بذلك التفاؤل حول طبيعة وجودنا على الشبكة العنكبوتية، فهو يرى أنه على الرغم من تطور وسائل الاتصال في عصر التكنولوجيا والمعلوماتية وسهولة انتشار الأخبار وإمكانية تبادل الآراء ووجهات النظر المختلفة إلا أن الصورة التي تصلنا أضيق بكثير مما كانت عليه عندما كان العالم أقل اتصالاً، وأنه على الرغم من توافر الأخبار وسهولة الحصول عليها فإننا نقرأ اليوم أخباراً عالمية أقل مما كنا نفعل في العقود التي سبقت عصر الإنترنت.
فقد كشف تقرير حول مشروع التميز الصحفي لعام 2005 الذي شمل 16 جريدة أمريكية، أن تغطية الأخبار الأجنبية فيها قد انخفض من 27 إلى %14 بين عامي 1977 و 2004. هذا فضلاً عن كون %94 من الآراء ووجهات النظر والتحاليل المنشورة هي لمستخدمي إنترنت أمريكيين من مواقع أمريكية. هو تقرير مغاير لما يتوقعه الأمريكي الذي يظن أنه مواطن «عالمي» في هذا الفضاء الرقمي، إذ بإمكانه أن يتصفَّح المواقع ويقرأ جميع الأخبار ويتعرف إلى أي شخص في العالم، ولا سيما أن الإنجليزية لغة عالمية ولكنه سيُفاجأ كثيراً عندما يدرك حقيقة «إننا نعتمد بشكل متزايد على بضائع وخدمات تقدَّم إلينا من مختلف أنحاء العالم، أكثر بكثير مما يصلنا من معلومات عن الشعوب والثقافات التي تنتجها». فمعظم ملابسنا صنعت في الصين ومياه الشرب «فيجي» التي يتم تعبئتها وشحنها عبر حاويات لجميع أنحاء العالم، يتم تغطيتها إعلامياً أكثر من الأحداث السياسية الحاصلة في فيجي البلاد. مما يدعونا لنقف لحظة ونتساءل هل المنتجات المادية أسرع انتقالاً عبر المحيط من المعلومات؟.
إيثان زوكرمان شخصية «كونية» في حياته العملية، وهو عندما يتحدث عن فشل التكنولوجيا في إنشاء اتصال حقيقي بين مجتمعه الأمريكي وثقافات العالم، فهو لا يقلل من شأن الصحافة الرقمية لأنه باحث في الإعلام الرقمي ومدير مركز الإعلام المدني وأحد مؤسسي موقع «أصوات عالمية للمدونين الدوليين». كما أنه عاش لسنوات في غانا وأسهم في تطوير البلد وعمل مع مختلف المنظمات غير الحكومية في مشاريع برمجية وتكنولوجية ساعياً لاستخدام الإمكانات المتعددة التي تتيحها الشبكة في ربط الناس من ثقافات مختلفة وتحسين مستويات العيش وفتح المجال أمام المجتمعات المعزولة والثقافات المهمشة، كما يسعى زوكرمان جاهداً لجعل الإنترنت آلة تعاطف تجعل الأمريكيين أكثر تسامحاً وتفهماً للشعوب الأخرى وأوسع إطلاعاً على آراء ووجهات نظر جديدة.
وهو يلقي باللوم بالدرجة الأولى على المسؤولية الفردية، فعندما راقب إيثان نشاطه على الإنترنت لاحظ، على الرغم من كونه شخصية «كونية»، أنه يقضي معظم وقته في تصفح الأخبار المحلية من المواقع المحلية، أما في مواقع التواصل الاجتماعي فهو يتصل بالأصدقاء والمعارف الذين هم في الأساس على اتصال جيد به في حياته الواقعية! ولو راقبنا جميعاً سلوكنا على الإنترنت والعلاقات التي نكونها للاحظنا أنهم نفس الأشخاص الذين تعرفنا إليهم في الدراسة أو العمل أو ممن تربطنا بهم ميول وآراء متشابهة، مما يعني أننا في عالم الاتصالات كما في كل مظاهر حياتنا سواء كانت «أونلاين» أو «أوفلاين» فإننا دون وعي نصنف أنفسنا ضمن مجموعات تمثل أفكاراً وميولاً نتفق معها، لأننا نجد فيها منطقة أمان أكثر لكننا بهذا لن نكتسب أي جديد..
إن التدفق الكبير في المعلومات يحده اهتمامنا الشخصي وعدم رغبتنا بالمجازفة والاكتفاء بمصادر نتفق معها، وبهذا نكون قد فوتنا على أنفسنا فرصة التعرف إلى آراء جديدة ومغايرة عما نؤمن به، ففي حين نطمح لأن نكون مواطنين عالميين يبقى انتباهنا من حيث الممارسة محلياً محضاً، فكونيتنا ليست سوى كونية وهمية يغذيها التحيز المعرفي ورغبة طبيعية بالتجمع مع من يشبهوننا صانعين لأنفسنا شرنقة قلما نخاطر خارجها..
إلى أي حد يمكن أن يزيد اتصالنا بالإنترنت وبقاؤنا «أونلاين» من انقطاعنا الفعلي عن العالم، هذا ما تحدده خياراتنا ورغبتنا بالبحث عن تجارب ومصادر جديدة للمعلومات، بعيداً عن الفلترة التي تمارسها على خياراتنا المواقع الإلكترونية والتي تخضع لحسابات الاقتصاد السياسي، فأنت مثلاً عندما تبحث عن أي موضوع عبر موقع جوجل فإنه يحاصرك مباشرة بمجموعة خيارات يفترض المبرمجون سلفاً أنها المعلومات التي تفيدك أكثر، كذلك الأصدقاء الذين يرشحهم لك الفيس بوك لكونك تشترك معهم في اهتمامات معيَّنة أو الكتب التي يرشحها لك موقع أمازون لأنها تتوافق مع نوعية قراءاتك السابقة كل ذلك يجعل خيار المخاطرة والبحث عن المجهول أمراً بعيد الاحتمال.
إن طريقة استهلاكنا لوسائل الإعلام تجعلنا ضيِّقي الأفق، والتحدي الكبير كما يعبِّر إيثان، ليس في الوصول إلى المعلومات، وإنما فيما نوليه انتباهنا. والسهولة في الحصول على معلومات عن العالم الواسع الذي أصبح منبسطاً بعد أن تحوّل نظام الاتصالات من نموذج البث إلى شبكة معقدة، يترتب عليها مخاطر حقيقية برأيه، فنحن اليوم أقل اعتماداً على صحفيين ومحررين متخصصين في انتقاء المعلومات التي نحتاجها كما كان الأمر عليه سابقاً، والمشكلة أننا نتلقى عبر هذه الوسائل «ما نريد معرفته على حساب ما نحتاج معرفته»..
نعم نستطيع الحصول على جرائد أجنبية والاستماع لموسيقى عالمية وتكوين صداقات من العالم، ولكن ما نفعله أو ما اعتدنا فعله يومياً على الإنترنت هو العكس تماماً. إن الكونية الحقيقية ليست أن نكون أكثر تسامحاً مع مَنْ هم مختلفون عنا، بل أن نكون قادرين على اعتناق ما هو غني ومنتج وخلاق في هذا الاختلاف. علينا التحكم بوسائل التكنولوجيا واستخدمها لنبني العالم الذي نريد بدلاً من العالم الذي نخاف.
من الحماقة أن نضيِّع وقتنا في قراءة أخبار لا تفيدنا على حساب أخبار أكثر أهمية نحتاج البحث عنها، لمجرد أن محركات البحث اختارتها لنا وفرضتها علينا لأسباب تتعلق بالدعاية والإعلان فحول الفِلم الأمريكي المعادي للإسلام «براءة المسلمين» الذي هاجم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأدى إلى أعمال شغب في بعض الدول المسلمة، يقول زوكرمان إن الفِلم كان بغيضاً وبشعاً ومجرد إنتاج غير ناضج لمخرج هاوٍ ولكنه مع الأسف سرعان ما انتشر عبر موقع اليوتيوب ليجد تضخيماً إعلامياً عبر القس المعادي للإسلام تيري جونز في الوقت الذي كان من الممكن أن يختفي الفِلم دون إحراز أية مشاهدة. فما كان من التغطية الإعلامية إلا أن ركزت على العنف الذي حرض عليه الفِلم متجاهلة في الوقت نفسه التداعيات الأهم التي أحدثها إنتاج هذا الفِلم كخروج الآلاف للتظاهر أمام السفارة الأمريكية في بنغازي.
هذا النوع من التغطية الإعلامية الذي يسلط الضوء على جانب واحد من الحدث، يجعلنا نحصل على صورة مشوهة للعالم، وبالتالي نصبح غير قادرين على توقع وفهم التحولات الكبرى الحاصلة في الشرق الأوسط مثل «الربيع العربي». وفي عصر جوجل والفيسبوك إذا كانت عادات استهلاكنا لوسائل الاتصال محدودة فنحن الملامون أولاً وأخيراً.
يحدد زوكرمان في كتابه الأول هذا والذي جاء نتيجة عمله الطويل في مجال الإعلام، بعض الوسائل التي تمكننا من التحكم بوسائل الاتصال بدلاً من جعلها تتحكم باختياراتنا، فهو يتحدث مثلاً عن «شخصيات الجسر» وهي شخصيات عاشت لفترات طويلة من الزمن في ثقافتين مختلفتين، وبالتالي فهي قادرة على تفسير هذه الثقافة للآخرين وردم الهوة الحضارية بينهما ونقل الأخبار عبر الحدود الثقافية والوطنية في سياقها الاجتماعي الحقيقي الذي يمثل نبض الشارع والحد من سوء التأويل أو مجرد التقاط بعض العناوين المثيرة التي ستضمن أعلى نسبة قراءة! وكذلك شخصية «محب الأجانب» كإيثان نفسه، ممن يهتمون ويبحثون عن الثقافات المغمورة والذين يحاولون الاستفادة من جميع الإمكانات التي يتيحها الإنترنت للتواصل مع كل الأجناس البشرية على الأرض. ففي عصر الاتصالات علينا الاعتماد على فلسفة تعليم الذات، حيث نجد أن الثقافات المتباينة وحضارات العالم موجودة كلها على الإنترنت كطاولة مفتوحة يشعر أمامها الجميع بأنه مدعو لتناول عينات منها، لا سيما أن الترجمة الفورية التي انتشرت في كثير من المواقع قد أسهمت في ردم هوة اللغة بين الشعوب.
قد نتساءل أثناء قراءة هذا الكتاب لماذا علينا أساساً أن نسعى لنكون شخصيات «كونية»، ألا تكفينا همومنا المحلية؟ هل سيحد ذلك من انتشار الأوبئة في العالم مثلاً، أو يوقف التصحر أو يكافح المجاعات أو ينشر السلام العالمي؟ يجيب زوكرمان بعيداً عن التفاؤل الساذج بأن ذلك وعلى المدى البعيد قد يحدث ذلك فعلاً، فالقدرة على إنشاء علاقات هي شكل جديد من السلطة والصورة الأشمل أصبحت ضرورة حاسمة للنجاح العالمي، فمثلاً عند مواجهة الانتشار العالمي لوباء قاتل مثل «السارس» الذي ينتشر بسرعة خيالية عبر الأرض فلا بد لمسؤولي الصحة من التفاعل بشكل كوني ليحدوا من انتشاره، وكذلك يشيد بالنجاحات التي حققتها شركات متعددة الجنسيات اعتمدت في إدراتها على رؤساء تنفيذيين من مختلف أنحاء العالم مثل شركة بيبسي وكوكا كولا ونيسان للسيارت، وعلى الصعيد الأدبي والفني يمكننا أن نجد كثيراً من الأمثلة التي وجدت إلهاماً ومحفزاً عن طريق الاطلاع على ثقافات وحضارات شعوب مختلفة مثل بيكاسو الذي تلهمه الأقنعة الإفريقية لرسم لوحات خالدة..
إنها دعوة متقدة لما سماه إيثان زوكرمان «كونية رقمية» فيها نتفاعل ونهتم بأشياء تتعدى دائرة اهتمامنا الخاص ومجال راحتنا الرقمية. علينا أن نقف قليلاً لنسأل أنفسنا هل نقرأ التايمز الهندية مثلاً؟ أم نتخيل أننا نقرأها لمجرد كونها متوافرة على الإنترنت بلغتنا الأم، ونستطيع قراءتها في أي وقت؟ علينا مراقبة نشاطنا على الإنترنت لنعرف هل نستخدم التكنولوجيا الحديثة لنحصل على أفكار عالمية نخرج بها من إطار المحلية أم أننا نكرس من خلال ممارستنا محليتنا وانعزالنا عن العالم وأحداثه..