في غمرة الحديث العام عن المناهج التربوية في البلاد العربية والدعوات إلى تطويرها، تضيع النظرة الموضوعية إلى تفاصيل عديدة بالغة الأهمية، ومنها الكتاب المدرسي العربي وصناعته.
أحمد عثمان يتناول هنا حال الكتاب المدرسي العربي من خلال عينات محدَّدة شملت كتباً من المملكة ولبنان وتونس، ويقارنها ببعضها وبنظيراتها في كل من فرنسا وأمريكا. والخلاصة التي قد تفاجئ الكثيرين تقول إن الكتاب المدرسي العربي، وإن كان يعاني من بعض المسائل القابلة للنقد، فإنه مضموناً وإخراجاً، أفضل حالاً مما يقوله جلادو الذات.
ينتمي معظم قرَّاء هذه المقالة إلى جيلٍ عانى الجفاف في المواد التعليمية، مضموناً وإخراجاً. وليس خافياً أن مشكلة الجفاف هذه كانت شوكة في خاصرة المؤسسات التربوية، أزمعت هذه الأخيرة على اقتلاعها في كتبها الجديدة. خال الكثيرون أن الجيل الجديد من الكتب المدرسية العربية لن يخرج من مشكلة الجفاف إلا ليدخل في مشكلة الفوضى الصورية.
خلافًا لهذا الاعتقاد، فإن دراسة الكتب هذه عن كثب تظهر أن الكتب المدرسية العربية في حال جيدة إخراجاً ومضموناً، وإن لم تصل بعد إلى أفضل ما يمكن أن تصل إليه.
الجيل الجديد من الكتب المدرسية هو وليد تغير في المناهج التعليمية حصل في البلدان العربية في فترة التسعينيات. قبله، كان الدرس عبارة عن نص تليه أسئلة، وكانت الدراسة تعتمد على تلقي الطالب للمعلومات (أي على فهمه أو حتى حفظه للنص)، ومن ثم على التأكد من امتلاك الطالب للمعلومات هذه عبر الأسئلة. لم يكن هناك من عيبٍ جلي في ذاك النظام. كان بسيطاً ومنطقياً، وكان ضماناً لدقة المعلومات التي تقدَّم للطالب. صحيح أن الطلاب كانوا يتذمرون من كثرة المعلومات التي عليهم دراستها، ومن جفاف مناخ كتبهم، إلا أن هذه المعايير لم تكن لتؤخذ على محمل الجِد.
لم يطل الأمر حتى لاحظ القيمون على المناهج التعليمية العربية بضعة فروقاتٍ بين التلاميذ العرب ونظرائهم الأوروبيين والأمريكيين. كان التلاميذ العرب يكتبون ويقرأون، إلا أن السواد الأعظم منهم لم يكن يعرف الأبجدية العربية عن ظهر قلب، فيما كان التلاميذ الأوروبيون والأمريكيون ينشدون أبجدياتهم أناشيد مثلما تلقوها صغاراً. لم يكن التلامذة الأوروبيون والأمريكيون يغوصون في دراسة تاريخ بلادهم كما كان يفعل نظراؤهم العرب، إلا أنهم كانوا يتذكرون ما درسوا لسنواتٍ بعد امتحاناتهم الرسمية.
بدا واضحاً أن المناهج التعليمية تخسر الكثير على المدى الطويل إن هي لم تتكفل بتقريب نفسها إلى الطلاب، وأن عليها في ذلك تغيير النبرة الوعظية التي تتوجه بها إليهم. وبالفعل، فالمناهج التعليمية الجديدة تبدي ثقةً أكبر بالطلاب، حيث إنها تتركهم يقومون هم بالاكتشاف العلمي، معتمدين في ذلك على تلميحات يقدِّمها الكتاب إليهم.
يتألف الدرس في المناهج الجديدة من عدة وثائق متفرقة، تغلب فيها الصور ويقل فيها الشرح، وكل وثيقة تتبعها أسئلة خاصة بها تحث الطالب على التمعن فيها، وعلى استنباط المعاني والمعلومات منها. إزاء التغير الجذري هذا، كان من المستحيل الإبقاء على التصميم القديم للكتب المدرسية، ما استدعى إعادة تصميم شاملة تعكس النبرة الجديدة.
عيِّنة من خمس بلدان
اشتملت الدراسة هذه على كتبٍ مدرسية من خمس بلدان هي المملكة العربية السعودية ولبنان وتونس وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، أما عيِّناتها التمثيلية فكتب الصف الخامس ابتدائي في مادتي العلوم والرياضيات. جرى اختيار البلدان العربية (المملكة العربية السعودية، لبنان، تونس) بحيث تشمل الدراسة الأقسام الثلاثة للعالم العربي (الخليج، المشرق، المغرب)، وجرى اختيار فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية نظراً للتأثير الثقافي الذي تلعبانه على المستوى العالمي. واختير صف الخامس الابتدائي لأن جميع شُعبه متماثلة لا تخصص فيها، واختيرت مادتا العلوم والرياضيات لأن موادها كونية (أو بالأحرى، أكثر كونية من مواد اللغة مثلاً). هذا، وللأمانة العلمية لا بد من الإشارة إلى كون الكتب العربية كتباً رسمية، بينما كتب فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية التي توافرت للدراسة هي خاصة, وهذا يقلل من دقة المقارنة بين العيِّنات التمثيلية.
أغلفة رقيقة، أغلفة قاسية
نبدأ ببنية الكتب. كان الفرق شاسعاً، في الثمانينيات، ما بين بنية الكتب اللبنانية (وعلى الأرجح، العربية) والأمريكية؛ ذلك أن هذه الأخيرة كانت قاسية الأغلفة، وكانت صفحاتها مجموعة بواسطة الخياطة، بينما كانت الكتب اللبنانية رقيقة الأغلفة، وكانت صفحاتها تُجمع بالصمغ.
كان من تبعات الاختلاف هذا أن الطلاب الأمريكيين كانوا قادرين على الاحتفاظ بكتبهم المدرسية إلى أمدٍ بعيد، فيما كانت أوراق الكتب اللبنانية تتساقط منها ابتداءً من منتصف السنة الدراسية. والغريب في الأمر هو أن الكتب اللبنانية، بل والسعودية والتونسية، لا تزال حتى الآن تعتمد الصمغ لتجميع أوراقها، وأن أغلفتها لا تزال رقيقة حتى الآن. والأغرب هو أن الكتب الأمريكية نفسها قد تخلت عن تقنية الجمع بالخياطة، وإن كانت لا تزال تعتمد الغلاف القاسي لجميع كتبها. السبب في ذلك قد يكون التكلفة المرتفعة لتخييط الأوراق ببعضها، علماً بأن الكتب الأمريكية تعاني أصلاً من مشكلة غلاء أسعارها (حوالي الـ 175 ريالاً سعودياً للكتاب الواحد). وقد يكون هناك سببٌ آخر لذلك، وهو أن تقنيات الجمع بالصمغ نفسها قد تحسنت مع التطور التكنولوجي، ما أسقط عن التقنية هذه تهمة الرداءة.
هذا فيما يختص بالتجميع، أما فيما يتعلَّق بنوعية الورق فالصورة أكثر قتامةً قليلاً؛ والورق المستخدم في البلدان الخمس المذكورة رقيقٌ بحيث يمكن للقارئ أن يرى أحياناً ما على ظهر الصفحة التي يقرؤها، وهذا يقلّل من جودة القراءة. هذه المشكلة منحسرة أكثر ما تكون في كتب المملكة، وإن ظلت متواجدة فيها. المقلق أكثر من شفافية الورق في بنية الكتب المدرسية هو الغياب التام للورق المعاد تصنيعه، حتى في كتب الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ذائعة الصيت البيئي. الورق أبيض كالثلج، وهذه ليست بعلامة بيضاء في سجل الدوائر المعنية، إذ إنها تدل على استخدام مادة الكلور في عملية التصنيع. ومن السهل التساؤل عن سبب جهل أطفالنا بأهمية البيئة طالما كتبهم نفسها لا تزال تُصنَّع من ورقٍ جديد ومبيَّض بالكلور.
وقد يكون من الضروري أن ننوه بالورق المستخدم لغلافات الكتب الرسمية السعودية؛ فضلاً عن تحليها بالسماكة المطلوبة، فإن ملمسها أخشن قليلاً من المعتاد، وهذا من شأنه أن يشغل حاسة اللمس لدى الطالب، وهي حاسة غالباً ما ينسى المربون أمرها، وللصراحة فإن تنبه المربين المسؤولين لهذا الأمر هو بحد ذاته أمر باعث على التفاؤل.
مساهمون بلا وجوه
تتشابه سياسة الكتب الفرنسية والأمريكية المتعلِّقة بذكر الأسماء المساهمة فيها؛ هناك غياب مريب لأسماء المصممين، يقابله سخاء في ذكر أسماء المربين المشرفين على تأليف الكتاب، حيث يُرفق كل اسم بشرح لموقعه من الإعراب. المثير للاهتمام هو مدى تطور الظاهرة هذه في الكتب الأمريكية، حيث يلاحظ القارئ تخصيص صفحة مزدوجة بأكملها لذكر أسماء المساهمين، وهم كثر (32 شخصاً في كتاب الرياضيات، و72 شخصاً في كتاب العلوم) بحيث نجدهم مدرجين تحت مظلات مهماتهم (مؤلفو برامج، كتَّاب مساهمون، محررون، مستشارو علم أحياء، مستشارو علم أرض، مستشارو فيزياء)، كلٌّ مع شرح لاختصاصه ومكان عمله طبعاً. فيما يختص بالمصممين، الأرجح أنهم مندرجون تحت لواء دار النشر الخاصة (الحديث بطبيعة الحال يخص عيِّنة الكتب الخاصة)، وهي فرضية قد تفسِّر غيابهم المريب.
هذا في الولايات المتحدة وفرنسا. بالانتقال إلى المملكة العربية السعودية ولبنان وتونس تختلف الصورة باختلاف البلدان، والقاسم المشترك بين الثلاثة هو انكماش عدد المساهمين. معدل المساهمين عشرة أشخاص للكتاب الواحد، وهم في الكتب اللبنانية والتونسية مجهولو الأوجه لدى القارئ، لا يمتاز واحدهم عن الآخر إلا بحرف الدال قبل اسمه، أو بغياب الدال هذه، أما في السعودية فالصفحة الأخيرة تتكفل بالتعريف المفصَّل عن كلٍّ من المساهمين، وهي خطوة موفقة. هذا فيما يختص بأسماء المؤلفين والمقيِّمين، أما فيما يختص بأسماء المصممين، فنجد لهم ذكراً في الكتب العربية يختلف بحسب الكتاب نفسه، كما لو كان القيِّمون على الكتاب يخلقون سياسة جديدة لأسماء المساهمين مع كل كتاب.
في كتاب الرياضيات السعودي مظلة مخصصة لاسم واحد، هو اسم المصممة والمخرجة الفنية، وهي خطوة غابت كلياً عن كتاب العلوم للصف نفسه. في كتاب العلوم التونسي، هناك مظلة مخصصة لمجمِّع الصور، بينما كتاب الرياضيات التونسي لا يذكر اسم الرسام الذي بدا واضحاً جهده في ابتكار شخصيات ترافق الطالب في كل درس وفي كل صفحة. وحدها الكتب اللبنانية بدت على قدر من الاستمرارية في ذكر المصممين، حيث سمَّت الشركة المتكفلة بالتصميم دون الغوص في الأسماء، وحيث سمَّت الرسامين والمصورين الفوتوغرافيين أنَّى تواجدوا. هذا، وقد وقعت الكتب اللبنانية في الفخ نفسه الذي وقعت فيه نظيراتها العربية، إذ أغفلت ذكر موقع مساهميها من الإعراب، تاركة القارئ يتساءل عمَّا إذا كان مدير طاقم التحرير اختصاصياً في التربية أو الأدب الإنجليزي.
حتى العين تتنفس
فيما يتعلَّق بالإخراج الفنّي، كتبنا المدرسية الرسمية تنقصها الثقة بالنفس وحس العمل الجماعي (القارئ يشتمُّ فيها رائحة الجهد الفردي حتى من دون قراءة أسماء المساهمين)، لكنها أكثر ترتيباً وفعالية من بعض الكتب المدرسية العربية الخاصة.
نبدأ بالهوامش. هي أصغر ما تكون في الكتب اللبنانية (معدل سنتيمترين) (صورة رقم 4)، و أكبر ما تكون في الكتب السعودية (معدل ثلاثة سنتيمترات) (صورة رقم 5)، علماً بأن مساحة سنتيمترين هي الحد الأدنى المقبول للهوامش في طباعة الكتب، وهي أيضاً المساحة التي تعتمدها الكتب الفرنسية (صورة رقم 1) والأمريكية (صورة رقم 2). ينتج عن هذا أن الكتب الفرنسية والأمريكية واللبنانية فيها حس بالسرعة أعلى مما هو في نظيراتها السعودية والتونسية، التي تعمل الهوامش فيها عمل فسحة التنفس للعين. إلا أن الهوامش في جميع الكتب متواجدة بالحد الأدنى المقبول، وهو أمر جيد.
الملاحظة الوحيدة بهذا الصدد تتعلق بالكتب التونسية (صورة رقم 3)، هي أن الهوامش فيها طافية، أي غير محددة الملامح؛ في الكتب السعودية واللبنانية إطارات تحد مساحة الكلام من فوقٍ وتحت، وتحدد الهوامش بطريقة لا لبس فيها. وفي الكتب الفرنسية والأمريكية الإطارات الملونة غائبة، ولكن الكلام منظمٌ ضمن شبكة لا مرئية من الأعمدة المستقيمة والأفقية، يمكن تتبعها عبر صفحات الكتب المختلفة، وهي -أي الشبكة- تعمل عمل الإطارات الملونة في تحديد الهوامش. الهوامش التونسية تبدو وكأنها شيء قرره المصمم بطريقة عفوية أثناء عمله، ولذا، فهي تكاد تكون برحابة الهوامش السعودية، لكنها ليست بترتيبها.
بالحديث عن الإطارات الملونة المستعملة في تحديد المساحة الحية للصفحة (والمساحة الحية هي المساحة التي تحيط الهوامش بها، والتي تتألف من النص والصور والرسوم)، فكتب العلوم السعودية وضعت نفسها في موقف لا تُحسد عليه عبر استعمالها المفرط للصور في إطاراتها (صورة رقم 7). في كتب العلوم السعودية، الإطار هو عبارة عن مصغرات الصور التي استُعملت في الوحدة الفلانية، وكتاب السنة الخامسة ابتدائية مثلاً يتألف من أربع وحدات، ما يجعل فيه أربعة إطارات تختلف باختلاف الوحدة. الفكرة جيدة لأن تغير الإطار بتغير الوحدة يبرز للطالب بوضوح أين تبدأ الوحدة وأين تنتهي. المشكلة في التنفيذ أن الإطار يحد الصفحة من جميع الجهات ما خلا الجهة السفلى، وهو بمجرد تألفه من مجموعة من الصور يتسبب بتشويشٍ الطالب في غنى عنه، كما أنه ثقيلٌ على العين.
وما يزيد المسألة تعقيداً هو كون الإطار مفتوحاً على الأسفل، ما يجعل النص يبدو وكأنه ينزلق نزولًا إلى حيث الفراغ، بدلاً من أن تكون سماؤه (أعلى الصفحة) مفتوحة وأرضيته صلبة. الحل لهذه المشكلة يأتي من المحيط العربي نفسه، حيث اعتمدت كتب العلوم اللبنانية السياسة نفسها حيال تغيير الإطار بحسب الوحدة (صورة رقم 8)، إلا أنها بدلاً من أن تعتمد على مجموعة صور، اعتمدت على صورة واحدة تختصر الوحدة (ورقة شجر لوحدة هندسة الخلايا، لاعب جمباز لوحدة الجسم البشري، وهكذا دواليك)، وبدلاً من أن تمد الإطار على ثلاث من زوايا الصفحة الأربع، اكتفت بوضع الصورة على أعلى الجهة الخارجية من الصفحة. وهذا ما يحفظ وظيفة التمييز ما بين الوحدات المختلفة دون أن يثقل عين القارئ بضجة لا مبرر لها.
خطوط كلاسيكية ورسوم ضعيفة
الخط المستعمل في النصوص السعودية والتونسية هو النسخي؛ هو حرف كلاسيكي واضح المعالم وأليف للعين العربية نظراً لكونه الحرف المعتمد لتخطيط المصاحف العثمانية. الكتب اللبنانية والفرنسية تعتمد الخط «Times New Roman» لنصوصها، الأكثر شيوعاً في الحواسيب. وهذا الخط ليس أجمل الحروف اللاتينية إطلاقاً، وهو الخيار الاعتباطي للنصوص اللاتينية إجمالاً، لكن الحق يقال إنه واضحٌ ومقروء. وهو -بسبب شيوعه- أليف للعين كما النسخي للعربية. أما الكتب الأمريكية فتعتمد الخط «Optima»، وهو كلاسيكي وأليف وغير متوافر في كل الحواسيب، ما يعني أن القيمين على تصميم الكتاب اختاروه بعد تفكير، لا اعتباطياً، وهي نقطة في صالح الكتب الأمريكية. إلى ذلك، فإن الحروف في جميع الكتب كبيرة بما فيه الكفاية لتقرأها عين الطالب غير المعتادة بعد على الأحرف الصغيرة.
على مستوى النص نفسه، هناك جهدٌ واضح تبذله الجهات المعنية في تقريب مضمون النص لحياة الطالب المعاشة. هذا شيءٌ اشتهرت به الكتب المدرسية الأمريكية، وتؤكد الكتب المشمولة في العيِّنة أن الشهرة هذه لم تأتِ من فراغ؛ فكتاب الرياضيات يطلب من الطلاب أن يحسبوا سعر البطاقات لعائلة تشين الذاهبة إلى احتفال ريفي، وأن يقارنوا ما بين وزن آيمي وصديقتها سكاي، فيما كتاب العلوم يرافق التلاميذ في تجارب على عصير البرتقال وزراعة العدس البيتية. المثير للاهتمام أن الكتب الفرنسية لا تجاري نظيراتها الأمريكية في رغبتها لتبدو وكأنها من عالم الأطفال؛ قصص مسائلها الحسابية والعلومية ممتعة، فهي تحسب أقساط فرن الغاز الجديد (صورة رقم 9)، ويدرِّس الأجزاء فيها طاهٍ يعاني مع سمكة عنيدة، لكن عناصرها لا تقتصر على عالم الأطفال كما يلاحظ القارئ، وهذا قد يعكس اختلافاً بين التربيتين الأمريكية والفرنسية، الأولى تقول إن للأطفال عالمهم الخاص حتى إشعارٍ آخر، والثانية تقول إن العالم واحد ومفتوح لمن يرغب برؤيته.
وهنا، يسهل الوقوع في فخ الاعتقاد بأن الكتب العربية تنتمي للمعسكر الفرنسي في التربية. الكتب العربية بالفعل تعامل طلابها على أنهم مواطنو (ومستهلكو) المستقبل، لكن شطر أساليب التربية إلى معسكرين يفترض أن الدول العربية تقلِّد أحد المعسكرين لا أكثر، فيما الأرجح أن للدول العربية أسبابها الخاصة بها لتتوجه إلى طلابها كما تفعل. كلٌ من المملكة العربية السعودية ولبنان وتونس يبتكر مسائل تتوجه إلى الطلاب بعناصر من الحياة المعاشة، والجهد المبذول واضح؛ الطالب السعودي يحسب أجر العامل الزراعي (صورة رقم 6)، ويشجعه كتاب العلوم على تشريح كلية الخروف منذ صف الخامس الابتدائي؛ الطالب اللبناني يدرس فوائد الدرَّاجة في خفض التلوث، ويحسب معدل درجات الحرارة في مصيف فاريا على امتداد أسبوعٍ ربيعي، وهكذا دواليك. البادرة حسنة، لكنها في الكتب السعودية واللبنانية لا تزال على خجل، ولا تخلو من بعض الطرائف. تروي سيدة سعودية أن أخاها الصغير جاءها ذات مرة، سائلاً إياها عن معنى عبارة قرأها في أحد كتبه المدرسية ولم يفهمها. العبارة كانت «أدار قرص الهاتف»، وهي عبارة على بساطتها (بالنسبة إلينا) إلا أنها غادرت فضاء وعي أطفالنا، وذلك لأنها خاصة بالهاتف القديم ذي القرص، ولا بد من الاحتراس لها ولأخواتها أثناء وضع الأجيال الجديدة من الكتب المدرسية.
في الكتب التونسية، الأمثلة تأخذ منحىً وعظياً أكثر بكثير، لكنها عددياً أكثر من الأمثلة السعودية واللبنانية، وهذه نقطة لصالحها. هذا، ولا بد من التنويه ببادرة كتاب الرياضيات التونسي، الذي يعرِّف الطالب في بدايته على خمس شخصيات ترافقه عبر الكتاب (صورة رقم 11). الشخصيات جميعها تونسية الملامح، وهي «تعمل وتتعلم بمدرسة المنارة» وتتألف من مدير المدرسة وإحدى المعلمات وولديها والعم مسك. يعرِّف الكتاب عن العم مسك بأنه «عون التنظيف، لم يسعفه الحظ عندما كان صغيراً فلم يذهب إلى المدرسة، لكنه الآن يتابع دروس تعليم الكبار. وهو ينتهز جميع فرص التعلم التي تتاح له»، والظريف في الأمر أن العم مسك هو الوحيد بين الشخصيات المرفق بهذه المقدمة الاعتذارية الطنانة الرنانة، فيما الباقون عبارة عن صورة واسم ومهنة. اعتذارية العم مسك لا مبرر لها، لكن فكرته على وعظيتها جميلة ومبررة في دولة منكبَّة على محو الأمية فيها.
فكرة الشخصيات المدرسية جميلة، وهي -شأنها شأن الهوامش وأسماء المساهمين- لا استمرارية فيها في الكتب التونسية، حيث إن كتاب العلوم التونسي مثلاً خلو منها. والواقع أن هذا الأخير ليس فقط خلواً من الشخصيات، بل من الرسوم ككل. صوره مجمَّعة تجميعاً (واعتراف الكتاب بذلك أمر صحي)، وصوره الفوتوغرافية تحديداً رديئة النوعية، كما أنه من الواضح أن مصادرها أورو-أمريكية (نتبيّن هذا من ملامح الأفراد). ويتناقض هذا مع كتاب العلوم السعودي، حيث إن صوره محلية (الكتاب على جودة صفحة المساهمين فيه لا ذكر فيه لاسم المصور الفوتوغرافي)، تظهر أشخاصاً عرب في الاختبارات ذاتها المذكورة بالكلمات، أما كتاب الرياضيات السعودي فشبه خالٍ من الصور والرسوم وإن كان مرتباً جداً، ورسومه القليلة جداً مأخوذة كما هي من أرشيف برنامج الحاسوب الذي صُمم عليه الكتاب (واضح أنه CorelDraw). الانفصام بالشخصية هو ذاته وبالنمط نفسه حال الكتب اللبنانية، حيث إن كتاب العلوم غنيٌّ بالصور الفوتوغرافية محلية الطابع والأشخاص (حسناً فعل القيِّمون على الكتاب هنا بأن ذكروا اسم المصورة الفوتوغرافية)، فيما كتاب الرياضيات للصف إياه حصيلة أرشيف برنامج الحاسوب.
إزاء هذا، تتفوق الكتب الفرنسية والأمريكية بوضوح على نظيراتها العربية، وإن اتخذ كل منها اتجاهاً معيناً؛ الكتب الأمريكية غنية جداً بصورٍ عالية النوعية لأطفالٍ من مختلف الأعراق في وضعياتٍ وليدة المسألة المطروحة (آيمي وسكاي تحسبان وزن هذه الأخيرة على الميزان، فتىً آسيوي الملامح أمام علبة ريش وكومة طوب) (صورة رقم 12)، وقلَّما تخلو صفحةٌ مزدوجة من وجهٍ جديدٍ ما. الجميل في الكتب هذه أن أطفالها ليسوا فائقي الجمال، كما أنهم يكبرون مع الأطفال (الأطفال في صور كتاب الصف الخامس ابتدائي أعمارهم تناهز الأحد عشر عاماً، فيما أطفال كتاب الثاني ابتدائي تناهز أعمارهم الثمانية أعوام) ما يزيد من واقعية المسائل المطروحة التي يمثلوها. كما سبق وذكرنا، فإن الأطفال من مختلف الأعراق، وهو شيءٌ موازٍ لما يحدث في الكتب الرسمية اللبنانية، حيث تتوزع أسماء الأطفال في المسائل والأمثلة على امتداد الطيف الطائفي. في الكتب الفرنسية، من جهةٍ أخرى، نلاحظ ندرةً للصور الفوتوغرافية لا تضاهيها إلا ندرة الرسوم في الكتب الأمريكية، ونرى مقابل ذلك طفرةً عجيبةً للرسوم (تضاهي طفرة الصور الفوتوغرافية في الكتب الأمريكية). الجميل أن هذه الرسوم ليست حصيلة أرشيف CorelDraw كما رأينا في المملكة ولبنان، بل هي نتيجة عمل رسام واحد، وهذا الأمر تدل عليه استمرارية أسلوب الرسم من الصفحة الأولى حتى الأخيرة. رسام كتاب الرياضيات التونسي حسن النية، لكن رسام كتاب الرياضيات الفرنسي بارع وممتع (صورة رقم 10).
الاختلاف بين الكتب الأمريكية والفرنسية قد يكون ناتجاً عن أسباب تاريخية. فالولايات المتحدة الأمريكية كانت المتلقي المتلهف لمجموعة من أساتذة التصميم السويسري في الخمسينيات من القرن الماضي. وكان هؤلاء من المتعصبين لراية الصورة الفوتوغرافية، بينما لفرنسا تاريخٌ عريق في الرسم كما نعلم. وفيما اجتاحت الصورة الفوتوغرافية فضاء سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة في الخمسينيات، صمد الرسم في فرنسا بحيلةٍ بسيطة هي التجريد. من جهةٍ أخرى، قد يكون السبب وراء الاختلاف هذا أبسط من ذلك بكثير، وهو أن توكيل رسام للقيام برسومٍ لكتاب يبقى أرحم على جيب الإدارات المعنية من توكيل مصور فوتوغرافي القيام بالتقاط صورٍ للكتاب نفسه، لأن الصور الفوتوغرافية تستوجب دفع أجرٍ للأشخاص الداخلين فيها فضلًا عن أجر المصور إياه.
حواشٍ تستحق الذِّكر
لا بد من التنويه أخيراً بأمرين يمكن الاقتداء بهما. الأمر الأول هو الغلاف الداخلي للكتب الأمريكية (صورة رقم 13)، حيث استعاضت فيه عن البياض أو الأنماط التزيينية بجدولٍ يمتلئ سنة بعد سنة بأسماء الطلاب المختلفين الذين يمر الكتاب عليهم، وبحال الكتاب من سنة لأخرى. العمود الأول لهذا الجدول دعوة صامتة من القيِّمين على الكتاب للطلاب وأولياء الأمور إلى ابتياع الكتاب مستعملًا وإلى إعادة بيعه بعد الفراغ منه، فيما العمود الثاني تهديدٌ خفي إلى الطلاب بالمحافظة على الكتاب قدر الإمكان (الأرجح لا يرغب أحد في أن يظهر اسمه حيث تنقلب حال الكتاب من «جيد» إلى «لا بأس»، أو من «لا بأس» إلى «سيء»).
الأمر الثاني هو إحدى صفحات الختام المزدوجة في كتاب الرياضيات السعودي (صورة رقم 14)، وهي استبيان يُطلب من المعلِّمين وأولياء الأمور تعبئته في نهاية السنة الدراسية، تُعالج فيه 32 مسألة مختلفة في الكتاب، من محتواه إلى أسئلته فإخراجه الفني. الجميل في هذا الأمر كونه موجوداً في كتاب حسن البنية أصلاً، والإيحاء الذي يعطيه بأن التحسن هو أمر ممكنٌ دائماً، وهو كذلك.